تماثيل “عين غزال” الأردنية:من رحم التاريخ إلى اللوفر

تماثيل “عين غزال” الأردنية:من رحم التاريخ إلى اللوفر

غسان مفاضلة

 

مرةً أخرى، تعود تماثيل عين غزال، بقاماتها المنتصبة منذ عشرة الآف عامٍ، وعيونها الشاخصة بأحوال الحضارات وتحولاتها، لتسرد من متحف اللوفر الشهير حكاية الإنسان قبل بزوغ فجر التاريخ مع الزمان والمكان.

المتحف الباريسي الواقع على الضفة الشمالية لنهر السين، والذي يُعدّ أهم وأكبر متحف في العالم، طلب مؤخراً من الأردن استعارة واحد من مجموع التماثيل البالغ عددها 36 تمثالاً، لعرضها في فرعه الذي سيفتتح مطلع العام المقبل 2017 في العاصمة الإماراتية أبوظبي.

سبق للمتحف قبل نحو عقدين أن استعار تمثالاً لمدة 30 عاماً من تلك المجموعة التي عُثر عليها مصادفةً في قرية عين غزال (10 كيلومترات شرق العاصمة عمّان) خلال عملية شقّ الطريق السريع بين عمّان ومدينة الزرقاء عام 1974.

التماثيل، بمكوناتها الإنشائية، ودلالاتها الرمزية والتعبيرية، تُعدّ من أندر الشواهد على إمكانات إنسان عصر ما قبل التاريخ في تخطي شروط التكيّف مع إملاءات الطبيعة وتحدياتها، نحو تلك الآفاق التي راح الإنسان يبدع في رحابها طرائقه في التعبير عن هواجسه ومعتقداته.

لا تنحصر أهمية تماثيل عين غزال في سيل المعلومات الذي أتاحته لعلماء الآثار والأنثربولوجيا في التعرّف على أقدم القرى المستقرة التي جمعت بين مزيج الزراعة و”الصناعة” والرعي في العصر الحجري الحديث (8500-4500 ق. م)؛ بل تجاوزتها نحو الكشف عن فرادة القيم التعبيريّة والتقنيّة والجماليّة التي حازتها أول تماثيلٍ فنيّةٍ متكاملةٍ عرفتها مسيرة الإنسان على امتداد العصور الحجرية. وهي في خلاصتها المادية والروحية تُمثّل عصارة مجتمعٍ توفّر على مستوى عالٍ من الاستقرار والرقي والرفاه، قبل الشروع في تدوين سجلات التأريخ.

بعد اكتشاف موقع قرية عين غزال التي تُغطي مساحتها نحو 150 دونماً، تواصلت على مدار 17 عاماً منذ عام 1982 عشرة مواسم من الكشوفات والتنقيب في الموقع من خلال دائرة الآثار الأردنية وكلية الآثار في جامعة اليرموك، وبمشاركة جامعات غربية أخرى. وكانت النتيجة اكتشاف قرى زراعية ظلّت مأهولة بشكل متواصل على امتداد حوض وادي الزرقاء لأكثر من 3 آلاف عام حتى منتصف الألفية الخامسة قبل الميلاد، والتي تمثل نهاية العصر الحجري الحديث المتأخر/ ما قبل الفخاري.

بيوت عين غزال بمعمارها ومرافقها ومؤثثاتها المتنوعة، شكّلت مدخلاً مهماً للتعرّف على النمط البيئي للقرية ومنظوماتها الاجتماعية، وأعرافها وتقاليدها وإنجازاتها، وهو ما تُشير إليه البقايا الأثرية للبيوت والشوارع وغرف الخزين والمعابد والمدافن، وتؤكدهُ أساليب الحرفيين في تصنيع أدواتهم ومعداتهم، وتمكّنهم من تحويل المواد الطبيعية إلى موادٍ مصنّعةٍ غير مسبوقةٍ، خاصةً، تصنيع مادة الجصّ المستخدمة في تشييد التماثيل التي عُثر عليها أثناء التنقيبات الأثرية، مدفونةً في حفرةٍ أعدّت لها تحت أرضيّة بيتٍ مهجورٍ وسط القرية.

 ورغم أن الهدف الرئيسي لصناعة تلك التماثيل لم يحسم بشكلٍ قاطعٍ، إلا أن الكيفية التي وجدت عليها، إنشاءً وتكويناً وتعبيراً، ومن ثمّ العناية التي أحاطت طريقة دفنها؛ تُشير إلى الأهمية الاعتبارية والمكانة الرمزية التي كانت تحظى بها التماثيل. وهو ما يعزّز ارتباطها بمعتقد ديني عرفته المجتمعات الزراعية الأولى التي استوطنت القرية الناهضة على مشارف فجر التاريخ.

الاعتقاد بشيوع معتقدٍ دينيٍ لدى “الغزاليين” الأوائل، تعزّزه، أيضاً، المقاربة بين طريقة دفنهم لتماثيلهم، وطريقة دفن موتاهم تحت أرضيات البيوت في وضع القرفصاء؛ إذ كانوا يغطون القبور بطبقة من الجصّ حتى تتحلّل الجثث، ثم يقومون بفتح القبور، ثم يفصلون الجماجم عن أجسادها، ليتم دفنها بعد طلائها بالجصّ في أماكن خاصة. وهذا ما يشير، على الأرجح، إلى اعتقاد أهالي تلك المنطقة بالعودة للحياة بعد الموت، يعزّز ذلك الاعتقاد وجود العديد من المقتنيات والأواني والأقنعة والدمى الطينية التي عُثر عليها  في مدافن “الغزاليين” الذين يقدّر عددهم في منتصف الألفية الثامنة قبل الميلاد بنحو 3 آلاف نسمة.

إلى جانب تماثيل عين غزال التي تتشابهُ مع تماثيل أريحا على الضفة الغربية من نهر الأردن في فلسطين، والتي تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد (بأسبقية الأولى على الثانية بنحو 3 آلاف عام)؛ تأتي الدمى الطينية باشكالها الآدمية والحيوانية التي تشكّل عنصراً بارزاً من المكتشفات المصاحبة للتماثيل، لتكشف المزيد عن الطقوس الدينية لإنسان العصر الحجري، وتصوراته لدورة الحياة ممثلةً بالخصب والولادة والموت.

العديد من الدمى الحيوانية مثّلت الأبقار وقد غُرست في أجسادها الشفرات والسكاكين الصوانية، إشارة إلى تقديمها قرابين للآلهة. فيما صَوّرت جلّ الدمى الآدمية موضوعات الخصب والولادة التي تُنسب إلى الآلهة الأم، بوصفها نموذج الرغبة الجماعية في تجدّد الحياة واستمرارها. وتُعدُ دمية “فينوس” عين غزال من أهم دمى المجموعة الطينية. وهناك طيفٌ واسعٌ من تماثيل العصور الحجرية التي أطلق عليها علماء آثار ما قبل التاريخ اسم “فينوس” الذي يشير إلى الأم الكبرى في تلك العصور، استناداً، أو تيمناً، بآلهة الخصب والجمال “ڤينوس” الرومانية التي تقابلها “أفروديت” الإغريقية.

 

لم يتوقف إنسان “عين غزال” عند المُعطى الوظيفي للنحت الذي عرفه إنسان العصر الحجري القديم عبر تصنيع أدواته الحجربة وتسخيرها لخدمته المعيشيه؛ بل شرَع الإنسان الغزالي، بما حقّقه من رفاهٍ واستقرارٍ على ضفاف “وادي الزرقاء” في ابتكار مواده وتقنياته، وتطويعها بما يخدم تنصيب تماثيله التي صار معها النحت لأول مرةٍ، فناً قائماً على الإنشاء والتركيب، وإعلاء قيم الجمال في التمثيل والتعبير.

وبالتزامن مع إضافته الجمالية والتعبيرية التي وشّح بها التماثيل والدمى البشرية والحيوانية، ظل “الغزالي” الأول على صلة مباشرة مع الجانب الوظيفي لمصنوعاته النحتية المرتبطة بالزراعة والصيد، مثل الأطباق ومدقّات الحبوب والمجارش المصنّعة من الحجارة البازلتية والجيرية، إضافة إلى تصنيعه الفؤوس والسكاكين وشفرات المناجل من الحجارة الصوانية. وفي مراحل متقدمة صنع الجرار والكؤوس وأواني الطهو من الصلصال.

البراعة التي تجلّت في تماثيل “عين غزال”، صناعةً وتركيباً وتعبيراً، شكّلت منعطفاً فارقاً في مسيرة الإنسان مع النحت عبر عشرات آلاف السنين. وذلك حين تجاوز إطار النحت ومخرجاته المرتبطة بـ “ثقافة تصنيع الأدوات” وتكوين الأشكال البدائية المحوّرة والمستوحاة من الطبيعة، إلى إطار ثقافة تصنيع المادة، وخلع خصائصها العملية والحسيّة على أجساد تماثيله، وصولاً إلى تذويبها في إيقاع التعبير والتشكيل.

مادة الجصّ التي استخدمت في كِسْوة هياكل التماثيل المكوّنة من القصب والقش، تمّ تصنيعها من خلال طهي الحجارة الكلسية على درجة حرارة تزيد عن 900 درجة مئوية، لينتج عنها المادة الجصيّة التي تصبح ليّنة طيّعة التشكّل عند خلطها مع الماء، وصلبة متماسكة بعد جفافها. ويُرجّح أن تكون عملية تحويل الحجارة الكلسية إلى مواد جصّية وفق آلية تصنيعها في عين غزال، هي أول تطبيق كيميائي عرفه الإنسان.

البِنْية التكوينية للتماثيل التي تراوح أطوالها بين 40 – 100 سم، ليست مجرد كيان حاضن للمادة وملامح التعبير وتوجهاته، وليست مساحةً لتراكم الخبرة والتقنية، وحسب؛ إنها البِنْية التي صارت معها التماثيل مِصْهرةً للتقنية والتوجّه والتعبير. وهو ما منحها هويةً استثنائيةً نتعرّف على ملامحها عِبر الإيقاع الحركي بوصفه فاعلية تبسط حضورها في بِنْية التماثيل، وباعتباره مبدأ التوزيع ونظام التركيب المجسّدين في الشكل والتكوين.

مركز التعبير والتكوين

ليست بِنْية التكوين، فقط، هي ما يلفت الأنظار إلى التماثيل بأحجامها المتفاوتة، وتكويناتها الكاملة والنصفية ذات الصيغ المفردة والمزدوجة (تماثيل برأسين)؛ فهناك العيون “اللوزية” التي سرعان ما تسحبنا بحدقاتها النافرة، واتساعها المُفْرط، نحو مركز إشعاع التعبير. وحين نكون على مقربةٍ من مرماها الساهم/ النافذ/ المتأمل، نتعرّف إلى بعضٍ تقمّصاتها ومخبوءاتها السابقة على أبجدية تدوين التاريخ بنحو أربعة آلاف عام. ومع مرمى العيون نفسها، يلوح حوارٌ من ترسبات الأزمنة المتعاقبة بين “الرائي والمرئي”. حوارٌ مفتوحٌ على قطبي الأثر والمخيال، ومُشرعٌ على إفضاءات الحَدْس والتأويل.

إضافة إلى المركز الذي تتصدّره العيون “الغزالية” في توجيه مسارات التعبير، استأثرت، أيضاً، باهتمام تلويني-  تقني لم تحظَ به الأجزاء الأخرى في تكوين التماثيل. فاللون الأسود المُستخدم في رسم حدود العيون وحدقاتها، والذي تم تحضيره من القار الأسود المُستجلب من منطقة البحر الميت؛ منحها حضوراً لافتاً تبوأت معه، على مستوى الجاذبية والإيحاء، مركز التمثيل والتكوين.

لا تتوقف العيون بما تنطوي عليه من إيحاءات “تخيّليّة” وانطلاقاً من المركزية التي تتصدرها في الجاذبية والتمثيل، عن كونها مصدر الهالة التي تتوشّح بها التماثيل. إذ لا يغدو المزيج الذي تذوب فيه المادة مع التعبير، أكثر من كونهِ سبباً مؤقتاً، أو وسيطاً مركّباً، للوصول إلى خلاصة التعبيرٍ المجسّد – بسلاسةٍ وإفراطٍ، في العيون التي لا تتركُ مجالاً لتفادي الإفلات من سطوة حضورها المُفضي إلى جسد التمثال وهويته.

ربما يرتبط هذا المنظور بعلاقة التماثيل بالمعتقد الديني لدى إنسان عين غزال، خاصةً أن ما يميّز وجوه التماثيل من دون استثناء، تركيزها على العيون ونظراتها المتجهة، بشكلٍ قاطعٍ ونافذٍ، نحو اتجاه واحد لا حياد عنه، وهو ما ذهب ببعض مختصي آثار العصور الحجرية إلى إمكانية ربطها باتجاه عقائدي توحيدي عرفته مجتمعات العصر الحجري الحديث في الشرق الأدنى القديم.

الكيفية التخيّليّة التي تعامل بها إنسان عين غزال مع تماثيله، تحديداً مع عيون التماثيل التي جعلها تتصدّر مركز التعبير؛ تقفزُ بنا زمنياً على امتداد نحو 10 آلاف عام، باتجاه المعترك الحداثي الذي شهده النحت في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى وجهٍ خاص مع النحات السويسري ألبيرتو جياكوميتي (1901- 1966) الذي يُعدّ أول من نحت الإنسان وفق إطارٍ تخيّليّ جعل من النحت، بالنسبة للفنان “ذريعةً للوصل إلى العيون فقط”.

ففي الوقت الذي تقوم به العيون بزحزحة مركزية التعبير في تماثيل عين غزال، فإنها لا تغفل عن اقتراح استراتيجيات جديدة تنطلق من إعادة قراءة سياق التعبير والتكوين في الزمان والمكان؛ فهي تجعل من التماثيل مشروعاً مفتوحاً على تراكمات الإضافة في المكان، سواء أكانت معروضةً في اللوفر، أم كانت في المحيط البيئي لإنسان عين غزال قبل عشرة آلاف عام. كما أن العيون نفسها تجعل من التماثيل استبطاناً لتحولات الزمان التي تنغلُ فيها، مثل الاختراقات والتفسّخات والتآكلات التي تستدعي ربط الإحالات بين ما هو معطى وما هو متخيّل في السياق ذاته.

تماثيل عين غزال، بإطلالتها الجديدة من متحف اللوفر، وبما تُشيعهُ من سرديات الحضارة الإنسانية المبكرة، ما تزال تستدعي التأمل في القدرات الإبداعية والفكرية والثقافية التي عرفها إنسان ما قبل التاريخ على مشارف عمّان.

*فنان تشكيلي وناقد من الأردن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. عبدالله جناحي

    تعود التماثيل إلى العصر الحجري الحديث قبل الفخاري، والذي يتراوح من 12000 إلى 5500 قبل الميلاد.
    حين تأملت وجوه اجدادنا وجداتنا في العصر الحجري، رأيت وجوهاً جميلة، عيوناً مغرية، وأنوفاً شامخة. كانوا أكثر جمالاً من البعض في قرننا الحالي. لم أحس أن نظرية التطور الداروينية قد وصلت إليهم. أيعقل ذلك؟ لست أدري!
    https://www.bbc.com/arabic/articles/cy61993z8ljo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *