(ثقافات)
جمع الشمل
بقلم : برونا دانتاس لوباتو
ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم
عادت إلى المنزل فقط من أجل حضور الجنازاة. جعلت تأشيرتها غير قابلة للعودة، ولم تتمكن من الحصول على إجازة من العمل.كانت تدين لوالدتها بثلاثة أعياد على الأقل ، وثلاث ليال من ليالى رأس السنة الجديدة، وثلاث حفلات أعياد الميلاد. لتسوية ديونها ، اشترت لوالدتها تذكرة رخيصة إلى نيويورك مع توقف لمدة ثماني ساعات في مدينة بنما وأربع ساعات أخرى في ميامي. لم تركب والدتها طائرة من قبل، ولم تكن تتحدث الإنجليزية ولو بكلمة واحدة، ولم تكن تعرف كيف تستعد للرحلة.
قالت الابنة:
– ما عليك سوى اتباع تعليماتي.
وكتبت لوالدتها خط سير رحلة دقيق وسيناريو للمقابلة الجمركية فى المطار. حفظت والدتها بعض العبارات بالإنجليزية: أنا أسافر وحدي. أنا أزور منذ ثلاثة أسابيع. ابنتي تعيش هنا. عبر سكايب ، ساعدت الابنة والدتها على حزم أمتعتها ، وطلبت منها أن تترك كل ملابسها الاستوائية وصنادلها في المنزل ، ولا تحضر معها سوى السترات السوداء والبيج والأحذية المقفولة. شاهدت والدتها ، بشعر أشعث وهالات سوداء تحت عينيها ، شاهدتها وهي تلف جواربيها وملابسها الداخلية وتضعها في شقوق صغيرة في حقيبتها جنبًا إلى جنب مع القهوة المميزة وحلوى الجوافة التي تذكرها بطفولتها .
في الليلة التي سبقت جمع الشمل ، بينما كانت والدتها الحلوة تحلق فوق المحيط وتتناول وجبة خفيفة من الفول السوداني بجانب زوجين مراهقين من بلد ما، شربت الابنة ثلاث زجاجات من الكورونا أثناء تنظيف حوض الحمام والمرحاض، وغسيل كل الأواني والمقالي المتراكمة على الموقد ، وبعد أن تخلصت من حاويات الأرز واللحوم الفاسدة في الثلاجة. توجهت إلى الطابق السفلى وغسلت لحافها الوحيد المتعفن ذي الخطوط الزرقاء الباهتة ، حتى تشعر والدتها بالدفء في ليالي نيويورك الباردة .
نامت الابنة في النهاية ، لكن والدتها لم تنم. لقد غطت ساقيها بالبطانية الخفيفة التي قدمت لها وانتظرت. وضع الزوجان المراهقان فيلم رسوم متحركة ولم يشاهداه ، وكانت أعينهما مغطاة بأقنعة العين الحريرية ، فتح الصبي الزوج مسند الذراع بالكامل . بينما حملت الأم الشابة عبر الممر طفلها بين ذراعيها وهى تتناول العشاء، وكانت تهزه بلطف عندما يشرع فى البكاء . سرعان ما أنهت الأم وجبتها الخاصة: باستا بيني مع المارينارا وشريحة براوني. انطفأت الأنوار في الطائرة وواصلت الوالدة الانتظار في الظلام. تحركت الطائرة الصغيرة ببطء فوق خريطة العالم على الشاشة أمامها، وقد تمنت أن تتحرك الطائرة بشكل أسرع حتى تشعر بالراحة والأمان مع ابنتها. مع عدم وجود نص لتتذكره، ولا خرائط للمتابعة ، ولا حقائب ثقيلة لحملها. أشرقت الشمس عندما كانت على وشك الهبوط في بنما. استطاعت أن ترى الجبال الخضراء والطريق الريفي قبل أن تغلق الستارة على نافذتها. حتى لا تزعج الزوجين المراهقين ، لم تكن قد ذهبت إلى الحمام مرة واحدة، وكانت سروالها يضيق بشكل غير مريح حول الخصر .
في المطار الثالث ، تم فحص القهوة التي كانت أحضرتها لابنتها. أمسك ضابط إدارة أمن المواصلات بالوعاء وقال شيئًا لم تستطع فهمه. عندما مدت يدها لتظهر له ما بداخله ، صرخ ، ثم أبعده عنها ولم يرده أبدًا. ملأت استماراتها بقلم أحضرته معها من المنزل وتمكنت من تذكر كل عباراتها الإنجليزية التى حفظتها. التقطت صورتها وفحصت بصمات أصابعها. قال أشخاص يرتدون الزي العسكري ، ” هذه الطريق ، سيدتي” ، وأشاروا بأذرعهم إلى رواق تلو رواق.
في نيويورك ، رأت ابنتها أولاً ، وهي تحدق في لافتة العائلة “مرحبًا بعودتك”. ركضت الأم نحوها ولفت ذراعيها حولها ، وأمسكت بيدها ، وعانقتها بقوة ، مندهشة من مدى صلابة ابنتها ، كيف كانت حية و قابلة للمس ، بعد سنوات من كونها مجرد صورة كرتونية على الإنترنت. ظلت الابنة تحدق في الأم ، وما تزال تنتظر وصول الأم بالكامل إلى عقلها ، لتبدو أقل شبهاً بالكرتون على خلفية ذلك المطار الأمريكي. قالت الابنة ، “لا أستطيع أن أصدق أنك هنا” ، وقالت الأم ، “لا أستطيع أن أصدق أنك حقيقية.” وخرجتا من المطار متشابكتى الأذرع. تعجبت الأم كيف ترى أنفاسها. تفوح من الهواء رائحة الجليد. حجب ضباب كثيف المنظر من نوافذ القطار و من مطار جون كنيدي. كانت الأشجار على طول الطريق تبدو بلا أوراق تقريبا .
حملت الابنة ،وهي تلهث، الحقائب المعبأة بعناية في طريقها إلى الطابق الخامس. لقد أضىء وجه الأم عندما دخلت أخيرًا عالم ابنتها الخاص، وهو مكان لم تشاهده سوى عبر شاشة الكمبيوتر، مثله مثل معالم المدينة الشهيرة التي شاهدتها فقط على التلفزيون. سارت من مشهد إلى آخر جرمها الرمادي يتأرجح برفق من جانب إلى آخر.
– آه ، تلك الوسادة! تلك اللوحة! تلك الأريكة! لقد عرفتها .
قالت الأم وهي تنتزع إناءً صغيرًا لؤلؤيًا من حافة رف الكتب ، وهو عبارة عن دائرة مثالية خالية من الغبار تُركت وراءها في المكان الذي وقفت فيه لسنوات. أمسكت الابنة بيد والدتها الأخرى ، التي شعرت أنها أصغر في يدها مما كانت تتذكر – لكم ذبلت – وقبلتها .
في المطبخ ، وضعت الابنة الخبز الطازج في سلة وصبت الماء الساخن في إبريق الشاي العتيق ، ثم وضعت أكواب الشاي على الصحون الملائمة وقدمت الشاي لأمها مع بطيخ مقطوع مسبقًا في أوعية كبيرة – كل الأشياء التي لم تفعلها بمفردها أبدًا ، في حياتها من شطائر زبدة الفول السوداني فوق حوض المطبخ .
كما أنها صنعت إبريقًا طازجًا من القهوة المقطرة بينما كان الشاي، والذي كان في الغالب احتفاليًا ، ذريعة لإخراج أفضل ما لديها من أدوات، والذي لم يكن أي منهما يشربه ، أصبح باردًا . شربت كلتاهما قهوتهما مع الحليب وبدون سكر. أكلتا الفاكهة ثم شرائح الخبز بالزبدة بسرعة بين الرشفات.. ثم سكبت الابنة فنجان قهوة آخر وآخر .
قالت الأم: :
– صادروا القهوة التي أحضرتها لك . من نوع “بيلاو” ، المفضلة لك .
قالت الابنة:
– أنا آسف للغاية
وتهت مرات عديدة. –
سأل الابنة :
– هل كنت خائفة؟
– في البدايه. ولكن بعد ذلك بدأت الأمور تسير تمامًا وفق ما قلت. كانت هناك سهام في جميع أنحاء المطار وقد قادتني إليك مباشرة. لقد كنت حقًا في نهاية أطول رواق ، تمامًا كما وعدت وأكدت لى.
والطيران؟ –
– اعتقدت أنني سأشعر بأنني أخف وزنا – حتى بلا الوزن – لكن الأمر لم يكن مختلفًا كثيرًا عن الجلوس في المصعد. شعرت بالضيق والثقل طوال الوقت .
سرعان ما غُطيت المائدة بالفتات وحلقات القهوة البنية من أثر قيعان أكوابهما ، ورفعت الفتاة كوبها إلى شفتيها ، عندها فقط أدركت أنه أصبح فارغا مرة أخرى. وضعته بجانب فناجين الشاي الصغيرة الفاخرة ، التى ما زالت ممتلئة لم تمس .
أعجبت الأم بالمنزل الأنيق، وبذوق ابنتها في الفراش والأثاث، رغم أنه كان في الغالب من شركة إيكيا/ IKEA. غربت الشمس قبل الخامسة ، وبدا الأمر غريباً بالنسبة لها. اقترحت الابنة تشغيل الضوء السعيد/ HappyLight لجعل هذا اليوم يدوم لفترة أطول قليلاً. ضغطت على زر وتوهج وجهاهما ، وصار لون الجدران البيضاء أزرق مخيف. كانت والدتها تلهث ، مسرورة ومذهولة فى ذات الوقت لأنه يمكن المرء التحكم في يومه.
قالت:
– ابنتي تعيش في صندوق أحذية في نيويورك مع مصباح لضوء الشمس .
في الليل، بعد تناول حلوى الجوافة وتنظيف أسنانهما، رتبت الابنة سريرًا لأمها على الأريكة القابلة للطي في غرفة المعيشة ، أدفأ غرفة في الشقة ، ووالدتها – أوه ، والدتها ، والتي شعرت بالألم والتعب بعد الرحلة- نامت بسرعة. لم تتذكر أن تقول ليلة سعيدة أو تسأل عما إذا كان لدى ابنتها وسادة إضافية حتى تتمكن من رفع ساقيها .
حاولت الابنة النوم لكنها لم تستطع. شعرت بالإرهاق الشديد ، رغم أنها لم تكن هي التي سافرت. تحت سريرها في غرفة نومها الصغيرة: صندوق من الأسرار لا يستحق الاحتفاظ به ، ولكنه لا يستحق الكشف عنه أيضًا. هزاز أرجواني ، زجاجة ويسكي ، زجاجة من الحبوب المنومة مع التعليمات الطبية. في الخارج ، تستريح على الرفوف في غرفة المعيشة ، حول والدتها النائمة: بطاقات عيد الميلاد من رفقاء الغرفة القدامى ، والبطاقات البريدية من الأصدقاء البعيدين ، وكتب طاولة القهوة المليئة بالأطباق اللذيذة والأماكن البعيدة. أي شيء يجعلها تبدو أكثر إثارة للإعجاب، حتى لو شكت في أن تأثيرها ضئيل. لم تهتم والدتها بهذه الأشياء ، التي تم ترتيبها بعناية شديدة من أجلها. ركزت الأم فقط على تفاصيل كيفية عيش ابنتها في هذا المكان، والأشياء التي ساعدت ابنتها على تدبير أمورها .
سألت الأم مشيرة إلى الخلاط :
– ماذا تفعلين بهذا؟ وأين تغسلين ملابسك؟
بالنسبة لها كان منزلها عمليًا. كان كل سطح مغطى ببقايا أيامها. حبوب في أغلفتها ، كتب طبخ ، مقص بجانب عبوة مفتوحة. لا شيء مزخرف ، لا شيء سدى ، باستثناء صور ابنتها في أماكن أجنبية – لندن ، لشبونة ، ولوس أنجلوس – والتي كانت تحب أن تعرضها على كل صديق زائر وعمال التوصيل .
أدركت الابنة بعد فوات الأوان، بعد الكثير من القلق ، أنها نسيت تناول حبوب منع الحمل في تلك الليلة. بعد خمس ساعات من النوم المضطرب ، قامت أخيرًا بدفع البطانيات جانبًا ونهضت على أطراف أصابعها من السرير لترى ما إذا كانت والدتها تبدو بخير. كانت الشقة بأكملها مظلمة ، ولم يكن هناك سوى جزء صغير من الضوء يسطع من تحت الباب الأمامي ، قادمًا من الممر بالخارج. أشعلت الابنة المصباح. أمسكت والدتها حاشية اللحاف بإحدى يديها وأخفت الأخرى تحت الوسادة. كانت ترتدي ثوب نوم أبيض بزخرفة مكشكشة جعلها تبدو مثل طفلة. ارتفع صدرها وهبط ببطء ، وأبدت الفتاة إعجابها بمظهرها الهادئ ، وليس كما لو أنها وصلت لتوها إلى بلد أجنبي وتنام الآن في سرير مؤقت في شقة صغيرة لشخص آخر .
ومع ذلك ، لم تستطع الابنة السماح لها بالنوم ، ولم تستطع مقاومة محاولة إيقاظها. لمست ذراعها وهمست :
– ماما ، استيقظي. سأقوم بإعداد الإفطار.
تمتمت الأم بشيء ما واستدارت إلى الجانب الآخر، وفمها مفتوح قليلاً ، وشعرها الفضي مبعثر على جميع أنحاءالوسادة ، بينما كانت يداها الآن مضغوطتين تحت وجهها كما لو كانت تصلي .
قالت الفتاة وهي تنحني ويدها تحوم فوق رأس والدتها:
– آسفة . سأتركك تستريحين .
شعرت الابنة فجأة أن والدتها لا تعرف مكانها. لم تكن تعرف هذه الشوارع ولن تتمكن من إيجاد طريقها إلى المنزل بمفردها. كان من المفترض أن تحميها ابنتها، وترشدها وتساعدها على العودة عندما يحين الوقت. لقد وثقت في ابنتها للقيام بذلك وسلمت نفسها لحمايتها. لذلك كانت ابنتها تراقبها – للتأكد من أنها لم تستيقظ على الأريكة المنفردة وحدها ، لتتأكد من أنها لن تشعر بالارتباك.
دخلت الابنة المطبخ المشرق. كان ضوء النهار قد بدأ للتو في الظهور عبر النافذة التى فوق الحوض ، وكان المطبخ يغتسل بظل بارد من اللون الأرجواني. فتحت الثلاجة ونظرت ، وهي تفكر فيما يجب أن تعده لهذا اليوم. سرعان ما تنهض والدتها وتواجهها وتتحدث كما لو أنهما لم يفترقا أكثر مما كانا معًا في حياتهما. قامت بعصر برتقالة في كوب، وسخنت قطعة خبز في المحمصة ، وأعدت فنجانًا من القهوة القوية ، ، ورتبت كل شيء بشكل أنيق على صينية لم تستخدمها من قبل .
في غرفة المعيشة ، حلمت والدتها أنها كانت تطير حقًا .
المؤلفة : برونا دانتاس لوباتو / Bruna Dantas Lobato كاتبة برازيلية ومترجمة أدبية مقيمة في سانت لويس . بولاية ميسوري بالولايات المتحدة الأمريكية . رابط القصة المترجمة : https://www.guernicamag.com/re
—