ميلان كونديرا: المُسلي والتجريبي والواقعي

(ثقافات)

ميلان كونديرا: المسلي والتجريبي والواقعي

* آدام ثيرلويل

ترجمة: صالح الرزّوق

شكل ميلان كونديرا، بعدة طرق، الأسلوب الذي أفهم به الرواية. وقد تعرفت عليه أول مرة وأنا بعمر 17 عاما، حينما قرأت مقالته “فن الرواية”، وتبعها روايته “البطء”، التي كانت قد صدرت للتو (كتاب سرقته في نهاية المطاف من شقة صديق، وأغرمت به). وفي الثمانينات أصبح مشهورا لدرجة دراماتيكية. وهكذا أضفته لرف الكتب التي حملت مؤلفات جيل والدي. كان هذان الكتابان المصغران مسليين وتجريبين وواقعيين جدا، واستوليا على عاطفتي كلها. ولم يفارقني هذا الشعور بالاهتمام والمتابعة. ولا شك أنه جاء في لحظة تاريخية فارقة.

حينما كان كونديرا شابا في الخمسينات انضم للحزب الشيوعي في براغ، ولكن فظائع الغزو الروسي عام 1968 لما كان يسمى شيكوسلوفاكيا، وإدراكه أن أي قيم يوتوبية لتصوراته عن المجتمع المثالي، ليست ممكنة، أدت لاستبعاده اولا من أي فرصة للعمل –   فقد منعته السلطات الشيوعية  الشمولية من العمل، وبالنتيجة أجبر على الحياة لبعض الوقت في غابة – ولاحقا، وبالنهاية، طرد من بلاده. وغادر تشيكوسلوفاكيا عام 1975 إلى فرنسا، وهناك عاش مع زوجته فيرا، حتى وفاته، وتحول لهجين فرانكو – تشيكي: ظاهرة عابرة للحدود.

وفي فرنسا كتب روايتين دخل بهما عالم الشهرة هما: كتاب الضحك والنسيان، والكائن الذي لا تحتمل خفته. مثلت هاتان الروايتان شكلا جديدا لجأ له فن الرواية: قوامه تيار من التفكير الروائي الذي يرفض الحدود الفاصلة بين التصوير والسرد، أو التخييل والمقالة. وهذا الذكاء المتحرر هو ما جذبني في بداية الأمر – كانت كتابته دائما متميزة بوضوح متفرد. ولكن حاليا أتساءل إذا كان ذلك الوضوح – المقترن بشهرته بصفته أحد المعارضين المقيمين في المنفى – مهدت الطريق لشيء غريب لا تراه العين. فالصورة العامة لطلاقة لسانه خبأت تدريجيا القلق  والتهور والهشاشة الموجودة في كتاباته.

وربما كان ذلك طريقة خاصة به لإعادة كتابة الصورة العامة للحرب الباردة، وحقائقها. ونحن الآن في عصر آخر من الغزو الروسي الكولونيالي، وتجربة كونديرا السابقة مع الغزو الروسي – والتحول فجأة للإيمان “بليل روسي أبدي” – كانت بالنسبة له لا شيئا لا ينسى.

وأصبح دفاعه عن بلده الصغير دفاعا عن أوروبا مثالية التي تبدو مثل كولاج أو نظام اقتصادي من مكونات صغيرة، وهي أوربا التي عرفها في إحدى المناسبات بهذا التعريف المدهش: “التنوع الأقصى في أضيق مكان”.

وفن الرواية الذي دافع عنه كان بالتالي مرتكزا على أكبر تنوع ممكن: لوحة مركبة دولية تربط المارتينيك وكولومبيا مع براغ ولندن. وهذا يعني أنه وجد طريقة للدفاع عن ما هو دولي دون أن يجد طريقة لتذويب المحلي، وفي نفس الوقت ألغى فكرة ان هوية الكاتب يجب ان تكون متضمنة في لغة واحدة. وفي خاتمة المطاف عرف عنه أنه توقف عن الكتابة بالتشيكية واستعاض عنها بالفرنسية.

في مقالة قصيرة عن الشاعرة التشيكية المنفية فيرا لينهارتوفا – التي غادرت براغ إلى باريس مثله، وبدأت الكتابة بالفرنسية – قدم وصفا للأرض الجديدة التي اكتشفاها كما يلي:” حينما كتبت لينهارتوفا بالفرنسية، هل كانت لا تزال شاعرة تشيكية؟.  لا. هل أصبحت شاعرة فرنسية؟. لا، ولا هذا أيضا. بل هي في موضع آخر”.

وذلك “الموضع الآخر” كان الأرض التي لجأ إليها قسريا بعد الغزو الروسي، وحيث كل أشكال الهوية كانت تتكشف وكأنها احتمالات سائلة.  من ذلك المكان الذي يعكس قلقا راديكاليا وصف نفسه في إحدى المناسبات أنه “كاتب لذة سقط في فخ عالم مسيس لأقصى درجة”.

ولكن هذا ليس دقيقا تماما.

فإلغاء أوهامه عن قدرات البشرية على التوحش والغرور الذاتي كان مطلقا حتى أن قيمه تحولت إلى تعريف للمتعة  باعتبار أنها فضاء لهو وعواطف فقط.  وهذا الفضاء، بنظره، كان أيضا غير مستقر، غير مستقر جدا حتى ان إخلاص كونديرا، ربما، كان للعالم غير البشري الذي تحتله الحيوانات  والغابات.

قمت أنا وزوجتي برحلة مع كلبنا البالغ من العمر سنتين، لزيارته هو وفيرا في شقتهما على الشاطئ الشمالي من فرنسا. كان كلبنا من نوع ويبت، ولذلك هو بري. بعد نزهة على الشاطئ الرطب، وبالعودة إلى الشقة، بدأ يقفز على الكنبات الأنيقة، وطاولة القهوة. وأصابني الرعب وحاولت لجمه. قال ميلان بمرح:” ولكن كل الكنبات له. دعه يفعل ما يحلو له”.

ولم تفارقني تلك الصورة عن الروح البرية السعيدة. دائما أحببت الطريقة التي يجد فيها احتمالات جديدة ضمن الأدب القديم. وكيف كان يشير إليها لا يزال طريقا مجهولا في الرواية: وهذا يشمل اللهو والأحلام، والتفكير، والأزمنة.

ليس هناك حد لفن الرواية. وهو غير مستنفذ. وكتاباته، أيضا، مليئة بالطاقة، وتستلهم من الماضي الذي فقد ذاكرته، في حاضرنا المتهور والمريض، مستقبلا جديدا تقدمه لنا.

آدام ثيرلويل: روائي بريطاني

ترجمة عن الغارديان الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *