أحمد طملية

نص من رواية “حكايات أمي وأعرفها” لأحمد طمليه

(ثقافات)

نص من رواية “حكايات أمي وأعرفها” لأحمد طمليه

أبو ثابت جاء إلى المستشفى أكثر من مرة، وانتظر أكثر من مرة، وكان في كل مرة، ينعقد لسانه حين يسأله الطبيب عن شكواه. لديه أوجاع لكن لا يعرف كيف يحددها. هل يقول نخزة شديدة على الجهة اليسرى من الصدر، يتخللها تعرق، وخدر في يده اليسرى.

هل يقول إنه كثيرا ما يقع على الأرض، ويغمى عليه، ويصحو بعد ذلك مرددا، بينه وبين نفسه: خير اللهم اجعله خيرا.

 هل يقول ما حدث معه فجر أمس: استيقظ قلبه مقبوضا، شعر أنه بحاجة ماسة أن يذهب إلى الحمام، رأسه يدور ويدور، مشى بتثاقل محاولا أن لا يحدث صوتا ويستيقظ أحد من أهل البيت. الجو كان باردا جدا وهو يمشي حافيا على البلاط، يجاهد من أجل أن يصل إلى الحمام. شعر أكثر من مرة أنه لن يصل، قد يقع على الأرض في أية لحظة.

 وقد وقع، لا يعرف كيف وقع، لا يعرف كم مضى من وقت وهو مدد على البلاط البارد مغمى عليه. استيقظ وحده بعد.. هو لا يعرف بعد كم، لا يعرف كم مضى عليه من وقت وهو مغمى عليه. واصل سعيه نحو الحمام، ثم عاد ونام.

في اليوم الذي يلي، حدث جاره أبو حسن عن ما حدث. سأل الجار بخوف:

–         وين كانوا أولادك وزوجتك؟

رد كأنه حقق انجازا:

–         كانوا نايمين، ما حدا حس.

–        أحمد ربك أنهم كانوا نايمين، لو شافوك يمكن يموتوا من الخوف.

أبتسم أن شيئا من هذا لم يحدث. لكن هو كان خائفا:

 ما الذي حدث؟ ولماذا حدث ما حدث؟ خاف، وها هو يأتي إلى المستشفى من جديد.

لكن، ماذا يقول لطبيب في مستشفى حكومي يريد جوابا بسرعة، فهناك العشرات خلفه ينتظرون دورهم.

قال أعراضا منها ما هو صحيح، ومنها ما لا يمت لحالته الصحية بصلة. قال أعراضا يعاني منها، ونسي أعراضا أكثر أهمية.

طلب الطبيب فحوصات، قال: يجب أن تكون صائما. وصرف له أدوية بناء على ما سمعه منه من أعراض.

وقف طويلا في الدور، أمام صيدلية المستشفى، كانت عينه على المختبر: أمم تنتظر دورها، وضع يده على قلبه مرعوبا من فكرة أنه سوف يأتي إلى المختبر صائما لإجراء الفحوصات.

 حين وصل دوره، حمل كيس أدويته وخرج.

 صار يأخذ أدويته حسب ما هو مكتوب على علبة كل منها: هذه قبل الأكل، هذه على معدة مليانه، هذه تؤخذ مع الكثير من الماء، هذه تؤخذ مساء، قبل النوم. قال له أحد المرضى المراجعين، كان يقف جانبه:

–        دير بالك، هاي الحبة بتوخذها قبل ما تنام، آخر اشي بتسويه قبل النوم أنك توخذها وتنام بسرعة، أوعى توكل أشي بعدها.

رد بتوتر: ليش؟

–        الحبة بتنظف جسمك وأنت نايم، وإذا أكلت بعد الحبة بروح مفعولها.

التزم بأخذ الدواء حسب التعليمات. بعد أيام شعر بمغص شديد، مغص لم يتمكن من احتماله، فصرخ بأعلى صوته. استيقظ أهل البيت، أخذه ابنه ثابت إلى الطوارىء.

الطبيب المناوب بعد أن سأل عدة أسئلة:

–        تسمم.. تسمم دوائي.

في المساء المبكر، كما جرت العادة منذ سنوات، يأتيه جاره أبو حسن، يجلسان معا، إذا كان التوقيت صيفا يجلسان في حوش الدار. شتاء في الغرفة، يشربان شايا ساخنا، يثرثران إلى أن ينال منهما النعاس.

جميلة جلستهما، دافئة، رغم أنها تتكرر كل مساء، منذ سنوات، إلا أن الدفء لم ينقطع فيها، لم ينقطع بينهما.

حدثه بما جرى معه، لم يستغرب الجار ما سمع، فهو ايضا يتلعثم أمام سؤال الطبيب عن صحته، لكنه لا يأخذ الدواء الذي يصرف له. يقول إنه لا يحب الأدوية، لكن (أبو ثابت) لا يصدقه، يقول، ما بينه وبين نفسه: لم يصل إلى هذه القناعة إلا بعد أن مر بالتجربة، ولعله تعرض، جراء ذلك، إلى ما هو أكبر من مجرد تسمم دوائي.

 يبتسم، ويستكملا الحديث.

  نصحه الجار أن يكتب ما يشكو منه على ورقة، ويجيب على سؤال الطبيب حين يسأله.

فكرة جيدة، هذا ما دار في ذهنه وهو ذاهب إلى المستشفى. أصبحت الأعراض المزعجة تأتيه كل ثلاثة، أو أربعة أيام.

 سأله الطبيب عن شكواه، مد يده إلى جيبه، وراح يقرأ ما هو مكتوب على الورقة، لكن الطبيب لم يسمح له أن يكمل.

 قال له: من يقرأ الأعراض التي يشكو منها من ورقة مكتوبة، فهذا مصاب بمرض نفسي، الأغلب اكتئاب شديد، يجعل المريض متعبا وهو لا يعرف لماذا هو متعب، منهكا ولا يعرف سبب انهاكه، دائم الشكوى دون أن يقدر على تحديد سبب واحد لشكواه. ثم حوله إلى مركز الطب النفسي.

 رد أبو ثابت على الطبيب وذهب إلى المركز. لا يعقل أن يبقى أسير هذه الأوجاع، ولا يسمع ممن يشكو لهم، من أهل، أو أصحاب، إلا كلاما لا يمت للحقيقة بصلة:

أوهام، مجرد أوهام، حاول أن تغسل وجهك، وتستعيذ بالله من الشيطان، وتصبح بخير.

يريد قشة يتعلق بها، سببا لأوجاعه الدائمة، يريد أن يرتاح. لو أن الأمر مقرون بحبة دواء، شرط أن تكون هي المطلوبة حقا، سوف يأخذها دون تردد إلى الأبد. لو أن الألم يمكن أن يتوقف بعملية جراحية، نسبة نجاحها واحد بالمئة، سوف يجريها دون تردد.

 استقبلوه في مركز الطب النفسي باهتمام، فهو محول من طبيب عام معتمد في مركز صحي معتمد. وبالتالي، فإن مسألة أنه مريض نفسي محسومة بالنسبة لهم، لا تحتاج إلى سؤال.

لم يسأله طبيب مركز الطب النفسي أي سؤال، بل راح يقرأ تقرير الطبيب العام، وقد راق هذا لأبي ثابت، لأول مرة لن يجيب عن السؤال المعقد بالنسبة له.

صرف له الطبيب كيسا كبيرا من الأدوية، لم يحمل مثله من قبل. ما طاب له، أن أعراض هذه الأدوية مختلفة تماما عن الأدوية الأخرى. بمجرد أن واظب على أخذها كم يوم، صار يضحك، لسبب، أو دون سبب.

توقف، فترة، عن الذهاب إلى طوارىء المستشفيات، كلما شعر أن روحه توشك أن تطلع. يقول في سره: أوهام، مجرد أوهام.

لاحظ أبو حسن الاختلاف الكبير عليه. سأله، تحمس الجار للدواء، رجاه أن يعطيه منها. حذره أبو ثابت. قال له: هذه الأدوية يجب أن تؤخذ بانتظام، وعلى معدة مليانة، وفي أوقات محددة:

–        الجار: أنت متى بتوخذها؟

–        بس آكل.

–        متى بتاكل؟

–        ما بعرف، بس يتوفر الأكل.

  كانت هذه الأدوية بمثابة مسكنات للمشاكل الصحية الحقيقية التي يعاني منها أبو ثابت. بعد أيام شعر بآلام لا تحتمل، أخذه ابنه ثابت إلى الطوارىء بسيارة اسعاف.

فحصه الطبيب المناوب، طلب ادخاله إلى المستشفى فورا. أيام تمر وأبو ثابت ممدد على سريره لا يتحرك. ما كان يقلق ثابت أنهم ليسوا مؤمنين صحيا، وفاتورة المستشفى تزيد يوما بعد يوم، والأطباء يقولون إنه يعاني من مشاكل صحية خطيرة، لكنهم لا يستطيعون الآن أن يفعلوا له شيئا، فعضلة القلب ضعيفة جدا، لا تحتمل أي تدخل جراحي.

ما العمل؟ هذا ما كان يدور في ذهن ثابت، الأب ممدد على السرير على الدوام، والأطباء عمليا لا يفعلون له شيئا، وفاتورة المستشفى تزيد، إلى أن وصلت رقما، لا يملكه ثابت ولا كل أهله، فاتخذ القرار: أن يهربه من المستشفى.

 ادعى أنه يقوم بتمشيته في الممر، خرج به من البوابة، وفور أن رأى سيارة أجرة، ركبا فيها، وعادا إلى البيت.

بقي أبو ثابت ممددا على فراشه في البيت. أهل البيت اهتموا به بداية، ثم صاروا ينصرفون عنه، ليس تقليلا من شأن صحته، لكنه العجز: ماذا يمكن ان يفعلوا له.

صار أبو ثابت يعبرعن أوجاعه بشكل واضح وصريح، يصرخ في الليل والنهار. كان دائما ينادي بأعلى صوته على ثابت، لا أحد غيره. وعندما يصمت، ويمضي وقت دون أن يسمعوا له صوتا، يأتيه ثابت للاطمئنان عليه.

يراه ينظر إلى سقف الفرفة، نظرة غريبة، فيها اهتمام بالغ بما يراه، دهشة إزاء ما يرى، ذهول مما يرى، لكنه لا ينظر إلى شيء محدد. راقبه ثابت باهتمام. قال إنه لا ينظر إلى شيء محدد، نظرته شاردة نحو شيء يبدو بعيدا.. بعيدا.

صارت هذه النظرة حديث أهل أبو ثابت مع من يسأل عنه، أحدهم قال لهم أنه يودع، يسلم وداعته. وحين سألوه: إلى ماذا ينظر؟ لم يرد.

 بعد أيام ليست طويلة مات أبو ثابت. 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *