التطبيع مع الشَّهوة

(ثقافات)

التطبيع مع الشَّهوة

مصطفى عبادة

 

تنبت لي أجنحةٌ أحياناً، أحب أجنحتي.. التي نبتت من، وفوق الجراح، وحاولت أن تجد الفرح في كل شيء، ورأت المجد في كل شيء. الأجنحة التي تحمل الأجزاء المحزونة والمكتئبة في روحي، وأعرف أن قوتنا تأتى من الطريقة التي نتحرك بها في الحياة، من النظر إلى كامل طيفنا الإنساني، الملائكي والشيطاني، المبتهج الذي يعيش يداً بيد مع المظلم، المستقيم مع الملتوي، الجوانب التي نرفضها في شخصيتنا تجعلنا ما نحن عليه، تعلمنا كل ما نعرفه عن التعاطف والحب والرعاية والشجاعة، تعلمنا العيش الكامل، أن تعيش من قلبك، تحت وقع هجوم هذه اللحظات التي كانت سبباً في كل ألم، “أن تصحو من النوم على صوت نحيبك، تبكى و أنت نائم”، هذه الأجنحة اللحظات، تخلصك من الصراخ، من الاستيقاظ على صوت نشيجك وبكائك، ورعب من حولك:

  • “بابا.. إنت بتحلم؛ إنت بتعيّط وإنت نايم؟

تعوّدوا ولم يعد يصيبهم الخوف أو الرعب الأول، مئات اللحظات التي توارت، وصيرتك مريضاً، و”الناس مرضى بسبب ذكرياتهم”، كما قال فرويد، الأحلام الموءودة، الخذلان العميق من الذات، سواء الفهم الذي ولد الكراهية والقطيعة، البداهة الجارحة التي صرفت عنك بشراً تحبهم، النفس اللوامة وحساب آخر الليل القاسي، الحب العميق للناس والأشياء، الذي صنّف في خانة “من ليس له أظافر”، الأجنحة التي نبتت من الامتنان لنساء منحن طائعات سعيدات، ومضين كما يمضى كل شيء جميل، من تجنب مصير قاطع طريق؛ قاتلٍ أو محتالٍ، من الاستقرار على ضفة نائية، ليس في كل المقدمات ما يؤدى إليها، اكتشاف الذات وسط الرحلة.

ابتسم أيها الغراب

 الجملة التي صارت مركزية في حياتي، وأنا عاجز عن الابتسام.

لن أحدّثك كيف قالتها الأمريكية الثلاثينية، أمام الفندق في رحلة ما، خرجت للتدخين، كأنما فوجئت بوجودي، اقتربت حتى خفت، ونأت حتى أمَّلت وندمت، ثم أعطتني ظهرها فجأة، سحقني عريه، كان عارياً مشعاً متألقاً، يُتوِّجُ أعلاه في بداية الرقبة فوق نهاية العمود الفقري شعر أصفر خفيف يكاد لا يرى، ويزيِّنه من الأسفل شق صغير، مبتدأ استدارة مؤخرة مرفهة، جلده مرآة، لولا احمرار خفيف مشوب بالنمش يحجب أن ترى وجهك فيه، تقترب بمعرفة متقنة وغامضة، تشد السيجارة بعمق كأنما تعضها، وتستدير لتنفث الدخان في وجهي، ثم تعود سيرتها الأولى لتتركني أتأمل ظهرها وأحترق، كانت تشم احتراقي، فيتهدل كتفاها وتهدأ حركتها، كأنما تشعر بأمان مطلق، تحت عيني، برغم رائحة الشياط، وأزيز اللهب الذي يحيطنا، أطمأنت وأَمِنَت، انتظرتْ أن أكلمها، أن أبدأ، أن أتعلل بشيء لبدء الكلام، أن أبتسم حتى، فتعود إلى السيجارة تعضها بتوتر، وابتسامة متألمة، ثم تستدير مرة أخرى، وتطيل وضع ظهرها أمام وجهي، واقفيْن ندخنُ، فيتحول الاشتعال إلى ضوء شمعة خفيف، وأصير أنا كتلة من الصمت الشجي، رفعت يدها مودّعة “تشاو”، وأشارت إلى ظهرها، فهمت مما تقول إنها ترى أنني معجب به، وأنها لمحت رغبتي متوهجة منذ النفس الأول، فرسمتُ علامة في الهواء بأنني أريد تقبيل ظهرها في نهايته من الأسفل، فوق الشق الذي يبدأ الاستدارة المرفهة، وضعت إصبعها على فمها وقبلته، و أرسلت قبلة في الهواء صائحة مغضبة:

ابتسم أيها الغراب.

لن أحدّثك عن “قوَّاد” إسطمبول، تحت تمثال “كمال أتاتورك”، رأى دموعي، وسمع همسي: بلادي.. بلادي، هي من بنى كل هذا الجمال، كل هذه المدنية العظيمة والرفاهية بناها أجدادي المجلوبون إلى هنا غصباً واقتدارآً، فأمسك بذراعي: ” ونسة يا حاج”، و”ونسة يا خوي”، ألح حتى كفرت، وحتى لعنت له دينه، ودين خليفته، ومستضيفه الذي أقنعه بترك وطنه ليعرض عنده نساءه، ليأكل من ثدي حريراته، أقنعه بالثورة على وطنه طلباً للعدل، كما صدّق، حتى صار قوّاداً في وطنهم يعرض نساءه لعابري السبيل، غترته، والجاكيت فوق الجلباب، كأنما رائحة من عز قريب، وقرية كانت آمنة، مَنْ فَرّ من مستعمر إلى مستعمر أخفى، مِنْ قوّاد وطني إلى قوّاد دولي، ما أسهل الفعل، ما أصعب التعليل.

نسيت ما كنت أقول.. بلادي.. بلادي هي الآن ما يحاول الخليفة عرضه على مذبحه، الخليفة الآن هو النخاس، هو وحش البراري الذي تتغذى أمعاؤه على جهلنا وحلمنا، على ورعنا الكاذب، وصلاتنا الملفقة، قوّاد إسطمبول، ضحية قوّاد التاريخ، ضحية قوّاد الدين.

وأقول لنفسي: لا يبتسم في أرضنا سوى الغراب.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *