مقطع من رواية قيد الكتابة لأحمد طملية

(ثقافات)

مقطع من رواية قيد الكتابة 

أحمد طمليه

 

مرة واحدة سألت مديري بعد اجتماع عاصف عن سبب الأسراف في تضييع الوقت أثناء اجتماعاتنا. قلت له: بصراحة لقد اوشكنا أن نموت من شدة التعب، ولا أجد ما يستدعي هذا الاجتماع الطويل. ثم إننا كل يوم نجتمع ولا نخرج بجديد، بل إننا لا نقول شيئا، اللهم اجتماع لغاية الاجتماع. بصراحة أشعر أننا نضيع الوقت في الاجتماع، وأشعر أيضا أن مسألة تضييع الوقت هذه مقصودة، كأننا نغطي أثناء اجتماعنا على فعل ما، على جريمة ما.

لم يعجب كلامي المدير، قال كلاما ذكرك فيه يا يوسف. نعم ذكرك. قال: حالك لا يختلف عن حال المستخدم يوسف، الذي نشك أنه يقرأ الأوراق التي يحملها من مكان إلى مكان. بالمناسبة، إذا ثبت ذلك، سوف نفصله من العمل. وقد لا نكتفي بذلك، فقد نحوله إلى القضاء، ومعاقبته بتهمة الإخلال بأمن البلد. ثم يبتسم ابتسامة صفراء، وينطق اسم هيفا.

ولأن ثمة علاقة قرابة بعيدة تربط أمي بزوجته، نصحني أن لا أتدخل فيما لا يعنيني. قال: لولا معزة أمك، كان يمكن أن احولك إلى مجلس تأديبي بسبب كلامك هذا. ثم ضحك ضحكة طويلة. قال خلالها كلاما لم أفهمه كله بسبب ضحكه المتتالي. لكنه قال: ما الذي يقلقك، ويجعلك متشنجا على النحو الذي أنت عليه الآن. أنت تأتي إلى العمل من أجل، حسب رأيك، أن تضيع الوقت. ما المتعب في ذلك، إن تضييع الوقت مهمة سهلة، في غاية السهولة. كل ما تقتضيه أن تأتي إلى العمل كل يوم ولا تعمل. ماذا تريد أكثر من ذلك. أكل ومرعى وقلة صنعة. يا رجل أنت في نعمة. تأتي إلى العمل، تحضر اجتماعين ثلاثة، تتناول وجبة مجانية، ثم تنصرف إلى شأنك. ماذا تريد أفضل من ذلك. أعرف أنكم تتعبون، ليس من كثرة العمل، بل من طول مكوثكم في الاجتماع. يبدو أن الاجتماع طويل، الاحظ ذلك عليكم. لكن ما العمل. يجب أن نجتمع كل يوم. يفضل أن نبقى في حالة اجتماع دائم.

صمت لحظة ثم قال: ما الذي يزعجك؟ ألا تتقاضى راتبا نهاية كل شهر. أليس الراتب كافيا لأن تأكل وتشرب وتنام. ألم تأخذ سلفة قبل شهر لتقضية حاجيات قلت إنها مهمة. البنك لا يقصر معك عندما تحتاجه. يوم وفاة والدك من تحمل كل المصاريف؟ أليس البنك. ما الذي تريده أكثر من ذلك.

ثم وضع يده على كتفي، وراح يمشي بي إلى خارج المكتب. إذ بات واضحا أنه يريد إنهاء اللقاء، بعد اتصال تلقاه من سكرتيرته فهمت منه أن عليه اجتماع طارئ على مستوى المدراء.

ظل يمسك برقبتي، أقصد يضع يده على كتفي ويسحبني إلى باب المكتب دون أن يتوقف عن تقديم النصائح لي: يا رزق، كلنا نعرف ظروفك جيدا.

يقف وينظر إلي دون اهتمام: ماذا حدث مع أختك هيفا المصابة بالصرع؟

–       –  ليس صرعا ما تعاني منه هيفا، بل اكتئاب شديد.

–       –  أين هي الآن؟

–       – في مستشفى الأمراض النفسية. يقولون مستحيل أن تعود كما كانت. لقد فقدت الذاكرة، إنها لا تعرفنا، لا تعرف أحدا.

–        يبتسم ابتسامة المنتصر ويقول: ألا يستدعي هذا يا رزق أن تهتم أكثر في عملك. مصاريف المستشفيات النفسية كثيرة، ولا يوجد غيرك يصرف عليها. إذا كانت هي لا تعرفك أنت تعرفها، وعليك واجب الاعتناء بها إلى أن يتذكرها الله.

– انتهى لقاؤنا دون أن يجيبني عن سؤالي: لماذا نجتمع يوميا؟ لماذا نجتمع للخوض في قضايا حلها ليس بيدنا. ثم نحن لا نخوض في أية قضايا، بل نجتمع بغية تضييع الوقت.

الأهم يا يوسف، أختي هيفا التي يتحدث المدير عنها، كانت تعمل في هذا البنك، بل إن عملي هنا كان نتاج صفقة: تغادر هيفا البنك ويتم تعييني أنا. هيفا لم تكن ترحمهم بالأسئلة. كانت كثيرة الاعتراض والشكوى. تخيل لقد قالت للمدير، على مسمع من جميع الموظفين: أنت تضيع وقتنا. ليس هذا فحسب، بل طالبته أن يكشف عن اسم الجهة التي نعمل لصالحا.

جن حنونهم يومها.

–        – أكيد حولوها إلى مجلس تأديبي؟

–       –  لا، لقد عاملوها معاملة حسنة، لم يحظ بها موظف في تاريخ البنك. لقد تدخل المدير الكبير، حين سمع بالأمر. قرر أن يراها. وعد أن يجيبها على كل أسئلتها.

–        – هل فعل؟

–       –  يبدو أنه فعل. هيفا لم تقل لنا شيئا. خرجت من اجتماع يوم كامل مع المدير الكبير وهي منهارة تماما. كانت تبكي بهستيريا شديدة. وكان صوت المدير عاليا من داخل المكتب يقول: ليس لدي المزيد من الوقت لأضيعه معها. أخذت هيفا إلى البيت. ظلت صامتة، لا رغبة لها بالحديث. توقفت شهيتها تماما عن الطعام. تحبس نفسها في غرفتها. ومن شدة التعب، وقلة الأكل ، وقلة النوم، صار يغمى عليها من وقت لآخر. عرف البنك بما جرى معها، أرسل لها طبيبا مختصا على نفقته. شخص حالتها بالصرع. إلا أن هيفا رفضت تشخيص الطبيب. رفضت أخذ الأدوية التي صرفها لها، مما اضطرنا إلى أن أخذناها إلى طبيب خاص، شخص حالتها بالاكتئاب الشديد، المصاحب لأعراض ذهانية.

هيفا مسها شيء من الجنون، إنها ليست مسؤولة عن تصرفاتها. أحيانا تخرج من البيت وحدها، نحتاج معجزة حينها حتى نعيدها. اضطررنا، في الفترة الأخيرة، أن نربطها بسلك خفيف لا يجرحها، حتى لا تستطيع الخروج وحدها. عندما تخرج وحدها تؤذي نفسها. نحن فعلنا هذا لمصلحتها. أليس كذلك؟ يوسف اسمعني: أليس ربطها بسلك أو حبل لمصلحتها؟

يوسف لا يرد على هذا السؤال، بل يسأل سؤالا آخر: ماذا قال لها المدير الكبير أثناء اجتماعه بها؟

–        لا نعرف. هي لم تقل شيئا. لكن في الليلة السوداء التي غادرت فيها قالت لي كلاما لم أفهمه: كل شيء خلفه شيء آخر. كل تصرف تراه خلفه مغزى عكس الذي تتصوره. كل كلمة تسمعها خلفها معنى مغاير تماما عن المعنى الذي فهمته.

هذا البلد الذي تعيش فيه ليس في الحال الذي يبدو لك. ثمة بلاد كثيرة داخله. أتمنى أن لا تراها، بلاد ليست كالبلد الذي تحبه. عليك أن تعرف أنك تعيش في بلد له أكثر من وجه. تعتمد الوجوه التي تراها على ردود أفعالك إزاء ما ترى. لهذا حاول أن تعد للعشرة قبل أي رد فعل، ويستحسن أن لا يكون لك رد فعل. يمكن للإنسان أن يكون بلا رد فعل. أصلا مسالة رد الفعل هذه دخيلة علينا. ما لزوم رد الفعل ما دمت تأكل وتشرب وتفرح، وتعيش مثل بقية الكائنات الحية التي تعيش. لماذا رد الفعل. لماذا تفكر؟

أكثر من مرة سألت هيفا ماذا قال لك المدير الكبير. لا تجيب.

ثم وصلت إلى قناعة، ليس مهما ماذا قال لها المدير. المهم أن تعرف أن ما يدور حولك ليس حقيقيا. الحقيقة خلف الكلام. خلف الوجوه. خلف الأحداث. الحقيقة غائبة، وما تعيشه أوهام عليك أن تعيشها.

 أنت يا يوسف…

–       –  أنتظر، أين غادرت هيفا في الليلة التي وصفتها بالسوداء؟

–       –  بعد أن تحدثت معي تلك الليلة، ايقظت الجميع. كانت هادئة، متزنة. قالت إنها مشتاقة إلى الله، وسوف تذهب إليه. قالت إنها سوف تخبر الله بكل شيء.

–       –  الله يعرف كل شيء.

–       –  الله لا يسمع من ساكت .

–       –  كيف سمحتم لها أن تذهب؟

–        – كانت بهيئة لا تسمح لنا أن نسمح أو لا نسمح. كانت عازمة على لقاء الله. ظننا إنها سوف تذهب إلى المسجد القريب لتصلي ركعتين لوجه الله تعالى، وتعود.

–        – هل ذهبت إلى المسجد؟

–       – لا

–       – ألم تسألوا عنها؟

–        -لماذا نسأل. إنها عند الله. هي قالت إنها مشتاقة لله، وأنها بشوق لرؤيته.

–        – معقول!

–        – لماذا تتعجب. عليك أن تفرح لها مثلما فرحنا نحن لها. إنها عند الله. عند الله تجتمع الخصوم، ولا يضيع حق لصاحب حق.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *