نقاط في بحر الذاكرة الجمعية

(ثقافات)

نقاط في بحر الذاكرة الجمعية

 إفلين الأطرش

ثلاثة أسابيع فاصلة بين تاريخين مفصليّين تحفظهما الذاكرة الجمعية كما الخاصة، تاريخ النكبة الفلسطينية حيث ضاعت ثلثي مساحة مكان عام يسمى فلسطين ، وتاريخ النكسة العربية حيث ضاع الثلث الأخير من ذاك المكان العام. تتوالد النكبات وتتعمّق النكسات على مرّ الأيام، حتّى ضاقت مساحة الذاكرة الجمعية الجامعة والموحّدة ( بفتح الحاء وكسرها) ، إذ صار التاريخ ينضمّ إلى المكان في خصوصيته المجزّأة. لكنْ يبقى حفظ ذلك ومحاولة فهم أحداث معيشية يومية انطلاقا من مخطط صهيوني تدميري مرتبط بدهاليز السياسة العالمية السوداء للتدمير، بكافة الأساليب المرسومة وفق منظور فكرين سائدين ، فيبقى الفهم هو الغاية لنا للفكاك من حالة التيه والتشرذم. كما يبقى هذين التاريخين البوصلة الموحّدة للوصول إلى ما تصبو إليه إنسانيتنا من تحليل لكل ما يجري في عالمنا بترابطه المصيري.

في الخامس من حزيران العام الماضي كتبت عن تجربتي الخاصة في بلدتي “بيت ساحور”  من ضفة غربية أخذت تسميتها بعد النكبة، احتُلّت على يد قوات احتلال مُغتصِبة للأرض بدأت تأكيد سلطتها وبسط جبروتها على ما تبقّى من تلك الأرض، فهي دون شكّ تعيد انتاج ذاتها . وفي يوم النكبة الخامس عشر من أيار هذا العام، أي قبل ثلاثة أسابيع، اخترت قصّة لمن صار رفيق دربي ” عدي مدانات” بعنوان “سؤالها البسيط المحيّر”، حيث تلك الطفلة من جنوب لبنان ، وعاملة نظافة فندق في بيروت، تريد أن تفهم ما يدور حولها. وبسؤالها ذاك لمن يدّعي الفهم والمعرفة تربكه، تحيّره فيتضاءل شأنه إذ لا يجد إجابة مقنعة لذاته قبلها، لأن معرفته التي يدّعيها لن تسعفه.

 اليوم وفي دمجي للتاريخين اللذين لن ينفصلا، فالثاني تبعة الأول بكل وضوح ، فالزمان يدور ليبسط ذاته ، ويبقى المكان في ثبات موقعه، لذلك سأختار نصا لتجربة مشتركة بيننا، لعلّي أضيف قطرات للتذكير وللموقف، في بحر الذاكرة الجَمعيّة التي لا تهدأ إضافاتها. شاءت ظروف  الحياة أو مقدّراتها أن نلتقي عدي وأنا مطلع العام 1972   في عمان ، لكنهّ جاء بتصريح زيارة  في الشهر العاشر من ذاك العام لنرتبط رسميا بعد أن تمّت الإجراءات الرسمية  وتقديم ” الشبكة ” في الزرقاء عند أهل “فايز الصياغ” زوج أختي ” ليلى” المقيمة معه في قطر، وبحضور أمي وأبي المقيمان معها في حضورهما من بيت ساحور، وأختيّ المقيمتين في عمان ، وفي غيابي.

 وحيث أنه صار حكايتي التي أعيش ولا أزال، أقتبس مما قد دوّنت في كتابي ” ترحال  ــ عدي مدانات … حكاية أعيشها ” وأعلم أن كلّ الأماكن المذكورة قد تغيّرت معالمها وملامحها ، لكنْ بقيت أسماؤها تحفظ تاريخها ، كما الناس الذين غابوا أو أجهل مصيرهم منذ ذلك التاريخ وبقيت أسماؤهم دالة على شخوصهم، لكنني لا ولن أكتب تجربة لم أعشها بشكل منفرد أو برفقته أو ما أعاشني إياه في  ترداد ما يتعلّق به قبل لقائنا،  فلذلك  دلالاته الكبيرة .

   …” ولأنك طلبت يا عدي زيارة مدينة  “جنين” التي تعرف من طفولتك، حين رافقت والدك  عام النكبة وأنت في العاشرة، إلى ثكنته العسكرية كضابط عهدة في الجيش العربي. ويُضطّر للعودة صباح اليوم التالي لوصولكما، تنفيذا لأمر عسكري. يتركك في عهدة الجنود الذين أولوك كلّ عناية. ترافقهم يوميا من قباطية، مقرّ الكتيبة، إلى جنين للتموّن أو لمجرّد الترفيه عنك كطفل تركه والده مضطّراً، ولمكانة ذلك الوالد في نفوسهم. فقد ذكر سليمان الموسى في مذكراته دور هذا الوالد في تحمّله المخاطرة بنفسه من أجل نقل الأسلحة والذخيرة، لمن يقاتلون العصابات الصهيونية. وكما قال صديقه الذي زارنا من طرفه بأنه ” إنسان وطنيّ”.

 ولأننا لا دوام مدرسياّ ، ولا أعمال للشباب يوم الأحد ، فهو عطلة أسبوعية كما الجمعة، يرتّب أمر تلك الزيارة لمدينة لها هذه الذكرى في نفسك، إضافة إلى حيفا ويافا من قبل الأصدقاء في النادي الأرثوذكسي العربي الذي صرت أقود لجنته الفنية، كأول فتاة تلتحق بنادٍ ذكوري الطابع. تكفّلوا تدبير أمر استئجار السيارة ، وتصريحها . ولما حاولتُ  مناقشة الأمر المادي معهم، غضبوا، وذكّروني بأنك ضيفهم أيضا…”

   انطلقت السيارة باكرا ذاك اليوم تقلّنا برفقة ثلاثة من الأصدقاء  فؤاد رشماوي زميل دراستي الابتدائية، ومن قاد خطاي إلى النادي وبقي صديقي حتى الآن، وابن أخته خليل رشماوي  العائد حديثا من الاتحاد السوفياتي بعد تخرجه، وميشيل صالح أحد شهود لبسنا خاتمي الخطبة في متجر الصياغة كسابقة قناعات ليس أكثر، وبطبيعة الحال أخي الأصغر جمال  من تقاسمه غرفة نومه وهو الوحيد المتواجد معنا من أخوات وإخوة.  وبيت ساحور ، وقد صارت مدينة الآن، من مدن جنوبية في الضفة الغربية، ووجهتنا شمالا مرورا  بمدينة بيت لحم الفاصلة بين القدس شمالها والخليل جنوبها. لم نسلك الطريق الالتفافي القديم المستحدَث بعد النكبة ليمرّ بقريتي السواحرة الشرقية  والمُكبِّر، ومن ثَمّ بلدة العيزرية لتعرف أنك اقتربت من وصولك القدس ، فتستريح بعد حبس أنفاسك في ذاك الطريق الضيّق  شديد الوعورة والتعرّجات. ففي ظلّ بسط سيطرة قوات ممنهج  للتغيير الجغرافي كما الديمغرافي، أُعيد فتح الطريق القديم الفاصل بين  قسمي القدس الشرقي والغربي.

 نتابع شمالا مرورا برام الله وبنابلس لنصل جنين  قبل دخولنا فلسطين العام 1948 . والتصريح المعطى من قبل سلطة الاحتلال يقيّدنا باثنتي عشرة ساعة مسموحة للتنقّل من منطقة إلى أخرى، وإلاّ فالمساءلة والاعتقال جاهزين…

  ” على مدخل مدينة جنين، نقف أمام صرح الجندي المجهول، لعلّك تجد ممّن نُقشت أسماؤهم، اسما تعرفه. وللأسف لم تجد. حيث كلّ تلك الأسماء للجنود العراقيين الذين كان لهم دور بطولي في التصدّي للعصابات الصهيونية العام 1948  ومنعها من التقدّم.  إلى جانبه دبابة أردنية معطوبة، تشهد على دورها في التصدّي، لجيش احتلالهم، قبل خمسة أعوام( 1967 ). وأنت تريد أن تعرف ما حلّ بجنودها. ولمّا لم نجد أيّ أحد حولنا لنسأله، ولأننا لا نعرف أسماء العائلات الأردنية، كما تقول، تجتاز السياج المحيط بهما لتعيد الاطّلاع على الأسماء من جديد، ولم تهتدِ. ( اقتحموا جنين بلجوئهم إلى الخديعة برفع صورة كبيرة لجمال عبد الناصر، على ظهر أولى رتل الدبابات العسكرية المقتحِمة).

  هناك تروي لنا قصّتك مع جنين. فهي أسبوعك الأجمل والأغنى والأفضل من طفولة بعيدة، لإحاطة أولئك الجنود لك بمحبة صادقة، ورعاية واهتمام شديدين. فتجلّهم وتجلّ تعريفهم لك بأساسيات المقاومة، فهم على خطّ التماس مع تلك العصابات. فكان ذاك الأسبوع بالنسبة إليك، يعادل سنة دراسية كاملة خارج المنهاج الدراسي. بقيت ترددّه هكذا كلما جاء ذكرها. تلقي التحيّة على أشجارها وبيوتها وبساتينها، وتستذكر طعم بطيخها وتينها، وطيبة وأصالة هؤلاء الجنود.

  تسأل عن قباطية وقلقيلية، فهما قريبتان .

  أما الأولى فلا تريد الوصول إليها لارتباطها بذكرى أليمة لبشاعة ما رأيت، في مرافقتك لوالدك وأنت في العاشرة. وتؤجّل الحديث عنها بغصّة واضحة. وأما الثانية فتذكرك بصديقيك أنيس فوزي قاسم ، وقريبه طلال نزّال. فأولهما ربطتك به وبالمجموعة في دمشق صداقة متّصلة . والثاني ربطتك به صداقة مميّزة في الكويت. امتدّت الصداقة ولم تمتدّ إقامتك هناك لصدور العفو الأردني العام عام 1965  فتعود إلى الأردن .

  كان لافتا موقفك الرافض لقباطية. وباقترابنا من حيفا أسألك عن تلك الحادثة الأليمة التي حفرت نفسها بقسوة في نفسك ،بعد أن أصرّ من معنا معرفتها. فقد هدأت نفسك وأنت تقلّد صديقيك من قلقيلية بلهجتهما المميِّزة.

  في تلك الزيارة البعيدة، شهدت أول جريمة قتل. حيث أردى أحد الجنود رفيق السلاح، بسلاحه الشخصي، لتبدو حالة انتحار، ومن أجل ثمانية دنانير هي راتبه. فأنت قد رأيت ذاك الجندي مضرّجا بدمائه في الخيمة، وقد فارق الحياة، والسلاح إلى جانبه فقط. وأما من حقّق، ووصل حقيقتها فكان والدك الذي كلّف بكشف ملابساتها. أخبرك تفاصيلها بعد سنوات لدى سؤالك له. فكرهت المكان والدم والأسلحة منذ تلك اللحظة….

 نصل “حيفا” ونرتقي كرملها . وأنا أعرفه من إقامة أربعة أيام في نُزل دير ذاك الجبل، برفقة أخي جريس الذي يعود  من الموصل في عطلته الدراسية كلّ صيف، وعدد من أفراد الشبيبة المسيحية اللوثرية، وقسيس الكنيسة وعائلته. فنحن بحاجة  لأي تجمّع. داخله، تتمّ الصلوات والعظات الدينية. وخارجه تتمّ النقاشات السياسية، حيث الأشجار والهواء الطلق، وانتفاء وجود أية أجهزة مراقبة أو تنصّت. نطلّ على بحرها وامتدادها من ذاك العلوّ، لننحدر إلى وسطها وشاطئها. نجول شوارعها العربية. ببيوتها الكابية، غير المسموح لأهلها ترميم أو إصلاح أو إضافة أي شيء لها، كمحاولة لإرغام سكانها على هجرها. فقد دخلتُها برفقة الحيفاويات المشاركات في مؤتمر الشبيبة كما كان يسمّى. وبالرغم من عبق الياسمين الذي يحمله هواء بحرها، إلا أنك لم تعد تحتمل ذلك البؤس، وتطلب المغادرة فورا.

 ترعبني فكرة الوصول إلى “يافا”.

  أحاول التبديل بالتوجّه إلى “الناصرة”. فلها مكانتها أيضا في قلبي، وبخاصّة بعد تعرّفي بأهل تلك الناصرية زوجة مدير مدرستي الابتدائية ـ المدرسة الإنجيلية اللوثرية في بيت ساحور. وتزويدهم لي بمعظم تلك الكتب التي أقرأ. وهي رمز المدن الفلسطينية المقاوِمة في الداخل. لكنّنا نصطدم بتصريح زيارتهم ذاك، فلم يرد ذكرها، والسائق الخجول كما كنت تصفه لا يرغب بسحب ترخيصه لمثل هذه المخالفة.

   ما أن وَطئتَ أرض يافا مترجّلا من السيارة، حتى هتفت :” يا وردي عليك يا يافا”. تماما كما اعتدت سماعه من أهلها المهجّرين، بحسرته وضياعهم. تدمع عيناك وقلبك إذ ترى بؤسا أشدّ في شوارعها. ببيوت مهدّمة لا تزال، لما فيها من قصص جميلة لعيش أهل تحفظها لهم. رحّلوا عنها، بقتل ونهب وسلب ليحلّوا مكانهم. تطلبُ العودة إلى بيت ساحور فورا. وبعد جهد جهيد، وقد استبدّ بنا جفاف الرّيق والفكر، وجوع بحاجة إلى إسكات، نقنعك بتناول وجبة سمك في مطعم صغير يعرفه السائق. توافق شريطة أن تسدّد الحساب، فيوافقون لإنهاء الأمر ليس إلاّ.

  هو مطعم صغير بشرفة متّسعة، ممتلئة بأصص نباتاتها، وورودها وأزاهيرها متعددّة الألوان، وياسمينها وريحانها. خالٍ إلاّ من صاحبه الخمسيني ، العربي اليافاوي ومساعده,، وصوت فيروز. تطلبّ منه الانضمام إلينا في جلسة الغداء، فلا يزال خلوّ المكان على حاله. نسمع منه ما يدمي القلوب لبؤس حال يعيشونه. أقام والده هذا المطعم قبل عام النكبة، على أرضه هو، وسيحافظ عليه من بعده رغم ما يفرضونه عليهم لقتله كمصدر رزق، وتحويلهم عمالاً لديهم. والشاطئ الملاصق محظور عليهم حتّى بلّ أقدامهم فيه، فكيف بأسماكه؟ نرى إشارات التحذير من الاقتراب التي وضعوها لمنع بحرنا عنّا. نصوّرها لتبقى معنا كي لا ننسى. انقلب الحال بنا في زيارة أملنا بلطفها لمدن أنت طلبتها، إلى مرارة صرفة يدوم طعمها. يعاودك كلّما تذكّرتها .

  حين أردنا الوفاء لك بوعد المغادرة فور تناول الغداء والقهوة، يرفض هذا اليافاوي تقاضي ما يترتّب، فهو واجبك أنت. وبإصرار منّا وأغلظ الأيامين منه يقبل فكرة التقاسم. ليأتي دورك فنحن قد وافقنا أن تدعونا كما تقول، لكنّك لا تحمل إلاّ دنانير أردنية. وفي الداخل لا يتعاملون بها كما هو الحال في الضفة. ونحن نفرح ،  وأنت تغضب. يخلّصك من المأزق ذاك، السائق الذي وافق على تصريف المبلغ المترتّب. تبكي أنت واليافاوي حين الوداع. فهو يحمّلك سلام أهل يافا المزروعين فيها إلى أهاليها في الأردن. ويطلب إليك القول لأي أحد تلتقيه منهم، بأنهم في انتظارهم. وأنت تُعلن بأنك لن تعود إليها تحت أي ظرف ما دام الحال على ما هو عليه…”

  فهل يتغيّر الحال في ظلّ عيش أيام نكبة تتمدّد، وأيام نكسة تتكرّر؟

  هل سنرضى بالتغيّر إزاءهما  بنسيان مرّ تلك الأيام والليالي؟

  وإلى متى سننتظر لنعود  لمن لا يزالون في انتظارنا ؟ !

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *