مجازات الشاعر رضوان بن شيكار في ديوانه (مرافئ التيهان)

(ثقافات)

مجازات الشاعر رضوان بن شيكار في ديوانه (مرافئ التيهان).

الدكتور امحمد امحور

صدر للشاعر رضوان بن شيكار عن دار فضاءات للنشر والتوزيع،  عمان الأردن،  الطبعة الأولى 2020، ديوان شعري، اختار له عنوانا مجازيا يحفل بفضاءات مجازية لا حصر لها، وهو (مرافئ التيهان) الذي ينسجم وبشكل بديع ولوحة الغلاف التي دبج بها الناشر واجهة الغلاف، وهي عبارة عن أشكال هندسية ملونة بألوان باهتة، تميل إلى اللون الأصفر، والبني، والبنفسجي، والأخضر والأزرق، والجميل فيها أنها تتناغم بشكل بديع وأنيق مع اللون الأصفر الباهت الذي رصع به الغلاف برمته، ناهيك عن رسم أشكال قد تشبه المربع والمستطيل والدائرة؛ وهي أيقونات سيميائية قد يستطيع القارئ المفترض فك شفراتها إذا امتلك ناصية اللغة المجازية المسعفة على فك العناوين المجازية المؤطرة لإثنين وعشرين مقطوعة شعرية (ظل لا تجيئ خطاه، على غير العادة، في المطار، ليل غرناطة السرمدي، سديم النهايات، بقلب ثقيل وبلا مزاج، امرأة من خارج الفصول، بقايل جموح اثنان ، ضفاف قصية، مجاز الرغبات، بلقيس الثانية، ناصية الفراديس، استعادة، رهان الخاسر، البرزخ الذي بيننا، عباب الضجر، في الشاون ضاع مني ظلي، أقف خارج حقائبي، لا يشفى بالنسيان أحد، ببرودة مقامر عريق، أصداء تأبى الأفول.)، وتختلف هذه المقطوعات من حيث عدد السطور الشعرية التي تخضع للدفقة الشعورية القوية المعضدة بالذائقة الشعرية الغاصة بمتخيل الشعرية الأمازيغية المؤثثة لقبيلة (آيث شيشار) بمنطقة الريف المغربية البهية بجبالها وأنهارها، وهضابها، وسهولها، وشطآنها، ومغاراتها، والشاعر رضوان بن شيكار، يمتشق أصواته الشاعرية المجازية من هذه الفضاءات الريفية البهية مانحا لتعدد الأصوات مساحات شاسعة للبوح ، وإسماع صوته الشعري العربي المندغم وفضاءات الثقافة الأمازيغية، وسجلات الفلسفة، والأنتروبولوجيا، لمن به صمم على حد ذائقة الشاعر المتنبي المجلية لربيع الثقافة العربية.

لقد تحكمت الذائقة المجازية في الذات الشاعرة على مدار خمسة وعشرين سطرا شعريا في المقطوعة الشعرية المعنونة ب(ظل لا تجيئ خطاه، ص 7.8.9.10))، فالماضي كما يتبدى من مجاز هذا العنوان هو بمثابة ظل، فالذي يود التواصل معه يشبه إلى حد ما القابض على الماء، أو الراقن عليه سيان، ومن ثمة لا مندوحة للذات الشاعرة من أن تظل تستعذب نغمات الإيقاع الداخلي ضاربة عرض الحائط الإيقاع الخارجي الذي يتبدى في الوزن المتواتر على الأقل، متمسكة إلى حد التباهي بتكرير أصوات المد ، والتي ترددت خمسة وأربعين مرة، وأثناء كل ترديد ظلت لصيقة بضمير المتكلم(نوافذي، يدي، خيولي، أنفاسي).

وهذا يدل على ان الذات الشاعرة المهووسة باللغة المجازية تتوق إلى الاتصال بالماضي التليد لقبيلة الشاعر الوارفة (آيث شيشار) ولكنها سرعان ما تنفصل عن هذا الواقع الذي كان ممكنا في الماضي، ولكنه غير ذلك في هذا الزمن المعولم الكئيب الذي لا تقو فيه الذائقة المجازية مجاراة فضاءاته المثخنة بالجراح، والضياع، والنسيان، غير عابئ بالمرور البطيء للسحاب إلى غياهب السراب السحيق …. لن تجيئ رؤاها أبدا عبثا أقرع أحراس الشرفات …. عبثا أستظل بلهيب جمر الشوق ….. عبثا أرمم أنفاسي المهشمة لأنتشي وعلى نغمات الإيقاع الداخلي المقرون بضمير المتكلم تبوح الذات الساردة في هذا السجل الشعري بالفضاءات المجازية، ولكن وقع الصدى يظل مهموسا، فتظل تتأرجح بين الواقع الممكن (الماضي التليد لقبيلة آيث شيشار)،  أي الواقع المرغوب فيه، وبين الواقع الكائن؛ واقع قرع أجراس الشرفات عبثا، واستنباح صهيل الخيول المنهكة، وترميم الأنفاس المهشمة، (ص 10). فالشاعر لم يسعفه اعتلاء صهوة المجاز على نغمات الإيقاع الداخلي المرصع بأصوات الروي (الهمزة، الباء، التاء، النون، الصاد، الدال، النون، العين التاء، اللام، الراء، القاف، الشين، الطاء، الفاء) لرتق أفضية الخلل في مرافئ التيهان باعتباره واقعا أرخى بسدوله على الذات الشاعرة وظلت ترغب في الاتصال برؤاها الأبدية حيث يزهر الياسمين، والاستظلال بلهيب جمر الشوق.

انفتح الشاعر رضوان بن شيكار في قصيدته الشعرية الحداثية المعنونة ب (على غير العادة، ص11- 14) على عوالم رواية (الكهف) للكاتب جوزيه ساراماغو، وأحداثها تتشكل في مكان وزمان غير محددين، ويعتمد المؤلف على ثلاث شخصيات رئيسية فحسب. وتعمل عائلة (ألجور) على مدى ثلاثة أجيال في مهنة الخزافة، بداية من إعداد عجينة الصلصال ثم تحويلها إلى أشكال متعددة،  ومن ثم مرحلة شيها في الفرن، وانتهاء بتلوينها. وهذا الانفتاح فرضه روح العصر، وان يعتكف الشاعر في محراب نسج القصيدة الحداثية يعني ذلك أن ذخيرته الإبداعية ستغتني بجنس الرواية المسعف على خلق عوالم شعرية بهية، ولا غرو فالشعر لمح تكفي إشارته، وليس بالهدر طولت خطبه، واللبيب بالإشارة يفهم، ولا عجب إن انفتحت الذائقة الشعرية على عوالم ساراماغو، او استمتعت بروائع أغاني فيروز وهي من هي في الأداء الغنائي الحماسي الشاعري، استعدادا لاستباحة صهوة المجاز عودا على بدء، واستعارة الشفاه من الإنسان ليمنحه لمفهوم الغياب ليبلل به عطور النساء.

إن رغبة الذات الساردة في (مرافئ التيهان) في القبض على الزمن الشعري الجمالي أرغمتها على التشبث بملكوت الطفولة الهاربة مجازا في مرايا الوقت، وهي لا ترغب إلا باسترجاع اللحظات الجميلة الدالة على سكون أيام الطفولة الغائصة في المتخيل الأمازيغي الذي تشهد عليه عوالم حضارية لا ترغب فيها الذائقة الشعرية في الزمن المعاصر، حيث أصبحت أثرا بعد عين (جدران كنيسة مهجورة، خراب يتربص بآخر أزهار المكان،  غيمة تائهة ، ظل لأشجار العنفوان…) إنها ذائقة شعرية تعتني مجازا بالنوارس العائدة من إبحارات التعب، ومن ثمة وعلى نغمات الإيقاع الداخلي الذي تحدثه أصوات ممتدة في الزمان أثناء الإنشاد الشعري (مهجورة، الخراب، خيباتي،  التيهان، نوارسي، العائدة، إبحارات التعب…) يحتفي الشاعر رضوان بن شيكار بشعرية السندباد البحري، تلك الشخصية الأسطورية التي زارت الكثير من الأماكن السحرية في سواحل أفريقيا الشرقية وجنوب آسيا، وهذا الاحتفاء الشاعري البهي ما هو إلا تجل من تجليات الشعرية الأمازيغية التي احتفت بهذا الموروث الثقافي الضارب في القدم. وقد نجحت الذائقة الشعرية في هذا السجل الشعري البهي بتحيين هذه العوالم الشعرية وإعادة تشكيلها فنيا بلغة مجازية راقية تستجيب إلى حد كبير للذائقة الأدبية الأمازيغية البهية.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *