“السباحة من دون أن يظهر الشاطئ”

(ثقافات)

“السباحة من دون أن يظهر الشاطئ”

مؤمن سمير. مصر

في السنين الماضية ظللتُ أنتمي لمفهوم يتبنى مقولة “تراجع الشعر” باعتباره فن العربية الأكبر الذي يجب تتبع مساراته ومؤشر توهجه الصاعد أو الهابط بأكبر قدر من الدقة، وباعتباري شخص عربي اعتاد أن يكون من متعاطي هذا الفن قراءة وكتابة وتمثلاً ومعايشة لمبناه ومعناه وروحه المحلقة صاحبة الأجنحة الملونة بكل الألوان المعروفة وغير المعروفة بالأحرى، كنت أرد هذا التراجع، مع كل الأسى الممكن، إلى تراجع الفنون الراقية كافة وانحدار الذوق الجمعي وانتصار الفنون الاستهلاكية التي هي لسان حال رأسمالية قاسية تسلع الانسان والفن وتجرد كل القيم من معناها وتتمسك بكل ما هو قابل للترويج بغض النظر عن قيمته ومحتواه، وعنوان كبير لشيطنتها التي تحيط باللعبة بأكملها فتخترع السلعة وتوجد أسواقها وتخلق من يعتمدها ويعدها ضرورة لحياته ثم تعود وتقتلها لحساب سلعة أخرى وهكذا.. لكني اليوم صرتُ أقل أسى، ربما بمرور السنوات عليَّ وهدوء الطباع المرافق لهذا المرور، وربما لأني صرتُ أترك نفسي للمراقبة  العفوية والاندماج البسيط الذي لايركن كل ثانية للمراقبة والرصد، لهذا اكتشفتُ أن الشِعر في ازدهار كعادته وأن باقي الأشكال الأدبية والفنون الرفيعة في توهج وتنوع وحراك ثقافي وفني حقيقي، كل ما في الأمر أن الحياة حولنا صارت أكثر اتساعاً وتنوعاً وتجدداً بطريقة يعجز معها أي إنسان على أن يقول لنفسه لقد أحطت إلى حدٍ كبير بأمر ما أو على الأقل أنا الخبير الأعظم.. لقد أجبرنا الوضع الحالي للإنسانية على التواضع واليقين بأن القابض على وعيه في ظل دوامة لا نهائية من تدافع الأفكار والديانات والثقافات والفلسفات والفنون والتكنولوجيا والعلاقات المتنوعة كالقابض على الجمر.. لقد تكفلت الثورة الاتصالاتية بجعل كل ما كان غير ممكن ووارد، متاحاً بأبسط الوسائل.. فأنا الآن من موقعي الصغير في مصر أستطيع متابعة منجز الشعراء من كل البلاد والأجيال والثقافات والحركات الشعرية وكذلك باقي الأنواع والأشكال الإبداعية والفكرية بل    و المساهمة في ندوات ومؤتمرات ومعارض وممارسة تلاقح الأفكار والمنتجات الإبداعية بشكل أسهل، ربما يجعل هذا الازدحام من الانسان نهماً أكبر للتعامل المستمر مما يجعل الذهن مرهقاً والفرز أكثر صعوبة لكن في النهاية، أصبح الاطمئنان لمقولة من قبيل وفاة أو تراجع أو غياب فن من الفنون في غير محلها.. ونتيجة لهذا الاندياح أصبحنا نمسك بأيدينا وبلا أي توهم، ما يثبت أن الأجيال الشعرية كلها حاضرة، أجيال الكتابة العمودية القديمة وجيل الشباب في هذه القصيدة الذي يجترح قصيدة كلاسيكية جديدة متجاوزة للوعي القديم بحق ثم الأجيال التي تكتب التفعيلة ومازالت تعطي وتنجز في إطارها ناهيك عن قصيدة النثر التي تكتب بشكل كبير ولافت في كل الدول عبر أجيال متعددة وصولاً لأصغر جيل.. هناك مستويات كتابية وحساسيات فنية تبرز الاختلاف بين كل مشروع فني لشاعر ومشروع يخص شاعراً آخر.. ويصدق الأمر بالطبع على كل الأشكال الأدبية فكيف نقول أن هناك تراجعاً.. بالتأكيد لم تكن مقولة “زمن الراوية” التي انتشرت في تسعينيات القرن الماضي، بعد كتاب جابر عصفور الذي كان بنفس الاسم وقبله كتاب “عصر الراوية ” للناقد العراقي محسن جاسم الموسوي في منتصف الثمانينيات، موفقة أو دقيقة، حيث لا يمكن لشكل كتابي لمجرد أنه قد ظهر فيه مدارس فنية جديدة كان العصر متجاوباً معها، أن يعني ذلك بالضرورة تراجع شكل كتابي آخر.. لقد أدرك الانسان مبكراً قيمة الجمال الذي يغذي روحه ويرفدها بالطاقة الخلاقة نحو الحياة لهذا زيَّن كهوفه بالرسوم والترانيم وترك دائماً لأذنه مساحة لإدراك الفروق بين الأصوات والإنصات الدافئ لموسيقى الكون، فكيف يسمح الآن بعد أن بلغ كل هذا العمر من الحضارة أن يُغَلِّب شكلاً على آخر أو قيمه جمالية على أخرى بالعكس إنه يوسع الفضاء ليظل الجميع يسبحون حتى ولو لم يظهر الشاطئ في الأفق..

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *