“مائة عام من العزلة”.. نصف قرن على عجائب مليكيادس

ستعيش رواية “مائة عام من العزلة” بعد مؤلفها غابرييل غارسيا ماركيز وتدخل الخمسين هذا العام مواصلةً الأساطير التي بدأت مذ انتهى منها مؤلفها في الساعة الحادية عشرة في أحد أيام شهر أغسطس/آب وجاهد يومها لكي يبقى على قيد الحياة حتى الساعة الثالثة والنصف ليعلن لأول شخص يراه أنَّه انتهى أخيراً من الرواية التي ستوصف بعد ذاك النهار بـ “إنجيل أميركا اللاتينية الجديد”.

مرّت، إذاً، خمسون عاماً على ملحمة متقاعدي الحروب، والقديسات البريئات، وعمّال شركة الفواكه المتحدة وهم يتساقطون “بمقص الرشاشات المنهجي” وينبتون في ذاكرة الكولومبيين إلى الأبد. خمسون عاماً، على ملحمة هجرات الغجر يقودهم العجوز مليكيادس بسبيكتي مغناطيس يجرهما عبر شوارع ماكندو معلناً أن الشباب عاد إليه، وأنَّ عجائب الجليد لن تُعرض إلّا مرة واحدة. خمسون لا يعرف أحد متى انتهى خلالها الجزع الذي شوّش الكتّاب في أميركا اللاتينية وهم يرددون كلمات “العزلة” و”مائة عام” ويتحسسون قلوبهم من تهمة التأثر بالعملِ الإنجيلِ.

كيف نملأ بيتا بالأشباح

يُمكن تقسيم سيرة التأثر الأدبي عند ماركيز وفقاً لكاتبَي سيرته الباحث البريطاني جيرالد مارتن والأكاديمي الكولومبي داسو سالديبار، بالإضافة إلى ما اعترف به في سيرته “عشت لأروي” على النحو التالي: في التاسعة من عمره، عوالم ألف ليلة ليلة التي قرأها بنسخة ممزقة الغلاف والصفحات الأولى في آراكاتاكا، في العشرين كافكا، في الثالثة والعشرين سوفوكليس، وبعدها فوكنر، ميلفل، همنغواي، لكن ما قدّمه الروائي والشاعر الكولومبي ألفارو موتيس لماركيز أثناء إقامة الأخير في المكسيك سيكون له أثر آخر، إذ ستنعطف طريقة ماركيز في السرد، ليشار إلى أسلوبه، إثرها، بما قبل “مائة عام من العزلة” وما بعدها. كان لكتابي “السهل يحترق” و”بيدرو بارامو” للمكسيكيّ خوان رولفو، أثرهما البالغ عليه. فقد أتاحت له رواية “بيدرو بارامو” أن يصل إلى طريقة سرد لروايته الأيقونة “مائة عام من العزلة”: “ينبغي أن تُروى بنفس الوجه الصارم الذي كانت جدتهُ ترانكلينا إغويران كوتيس تحكي له به وهو طفل قصص وحكايات الفنتازيا… وبالطبع كان أيضاً نفس الوجه الصارم الذي ملأ به خوان رولفو مقاطعة كومالا بالأشباح والأرواح”.

ألفارو موتيس هو الذي قدَّم ماركيز إلى خوان رولفو في حفل زفاف (نفس اليوم الذي اغتيل فيه جون كندي 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963) وفقاً لسالديبار. لقد مهدت رواية رولفو الوحيدة، بالإضافة إلى الدروس المستفادة من إخفاقات كتابة السيناريو طريق كتابة الرواية: “فكّرت دائماً في أنَّ السينما هي الوسط الأمثل للتعبير، وذلك بفضل قدرتها الصوريّة الهائلة، وقد أربك هذا التفكير كل مؤلفاتي التي سبقت رواية مائة عام من العزلة، ثمة رغبة كبيرة لتصوير الشخصية والمشهد وتفصيل دقيق بالمليمتر لزمن الحوار والحدث”.

قبل أن يتعرّف ماركيز إلى ذاك “الوجه الصارم في السرد” سافرت مئات الأوراق المخطوطة في عنوان “البيت” معه حيث كان يحط في كوبا، أوروبا الشرقيّة، أميركا، وستكون هذه الأوراق بمثابة “المشتل” لكثير من أعماله. في منتصف 1965 سيزور ألفارو موتيس ماركيز في المنزل، وهناك سيعلن ماركيز لصديقه انتهاء فترة الجدب الأدبي ومغامرات كتابة السيناريو: “سأكتب قصة، وسأبدأ ذلك غداً، هل تذكر المجلد الضخم الذي لم أطلعك عليه أبداً والذي سلّمتك إياه في مطار تيتشو في يناير/كانون الثاني 1954 لكي تدخله في صندوق السيارة؟ إنه هذه القصة ولكن بطريقة أخرى”.

إنجيل أميركا اللاتينيّة 

في الطريق أثناء رحلة عائليّة قام بها ماركيز وزوجته مرسيديس إلى مدينة أكابولكو في المكسيك بسيارة أوبل، لمعت في رأسه جملة: “بعد سنوات طويلة وأمام فصيل الإعدام سيتذكر الكولونيل أورليانو بويندا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد”. هنا أدار ماركيز مقود السيارة وعاد إلى مكسيكو حيث منزله في حي “سان أنخيل إن” وبدأ كتابة الرواية بهذا المفتتح على الآلة الكاتبة. سيواصل ماركيز من يوليو/ تموز 1965 حتى أغسطس/ آب 1966 الكتابة حيث لم تتوقف عن التشكّل عوالم من الغجر، وأبطال الحروب المتقاعدون الذين يموتون متبولين تحت شجرة الجوافة، وسفن البرّ والمواليد بذيل أسفل الظهر.

سيزيح العمل ما كُتبَ قبله، وسيدفع “بكل كلاسيكيات أميركا اللاتينيّة الإقليميّة إلى الماضي الغابر” على حد تعبير كارلوس فوينتس. وعلى خصومته مع ماركيز اضطر بارغاس يوسا أن يُعلن أن الرواية “ليست إنجيل أميركا اللاتينية كما كان قد أكّد كارلوس فوينتس، بل هي رواية أميركا اللاتينية الكبيرة عن الفروسيّة”. ستقيد الرواية جيلاً كاملاً في أميركا اللاتينيّة، حيث “الكتـّاب في أميركا اللاتينيّة لا يستطيعون أن يستعملوا كلمة “عزلة” بعد الآن، لأنهم قلقون من ظن الناس بأنها إشارة إلى “غابو” – لقب ماركيز المحبب-  وفقاً لما أسرَّ به كارلوس فوينتيس لسلمان رشدي، حيث أضاف حينها بانزعاج: “وسنكون غير قادرين تقريباً على استعمال العبارة “مئة سنة” أيضاً.

عالميّاً نجح ميلان كونديرا في قراءة الترجمة التشيكية لرواية “مائة عام من العزلة”، وسيعلن أنَّه لا يعرف “مثلا آخر عن أسلوب كهذا، كأن الرواية عادت قروناً إلى الوراء نحو حكواتيّ لا يصف شيئاً، ولا يفتأ يحكي، لكنَّه يحكي بحريّة الفنتازيا التي لم تُعرف من قبل قط”. وسيتوصل كونديرا إلى دليلٍ عمليّ بخصوص عمل ماركيز: أنَّ الشاعرية والغنائيّة ليسا مفهومين أخويين، بل “مفهومان لا بدَّ من إبقاء أحدهما بعيداً عن الآخر” داخل الرواية، بالإضافة إلى كونديرا ثمّة قائمة طويلة – منهم سلمان رشدي- سيقدمون تقديراً استثنائيّاً لهذا العمل.

تاريخ الــ 3000

قاد نقابيّون آلاف العمّال الكولومبيين في “شركة الفواكه المتحدة” لتنفيذ إضراب للمطالبة بحقوقهم، حيث انتهى الإضراب بمذبحة عمّاليّة صبيحة 6 ديسمبر/كانون الأول عام 1929 على يد فرقة الجنرال كارلوس كورتيس بارجاس من الجيش الكولومبيّ، لكن رقم من سقط ظلَّ ملتبساً عند الجميع، وحتى عند من شهد المجزرة؛ إذ وصل العدد إلى: تسعة بحسب الرواية الرسميّة للدولة، ثم عادت وتحدثت عمّا لا يقل عن مائة بحسب الصحف القوميّة، وثلاثمائة أو ألف وخمسمائة، بحسب صحف أخرى. والمئات من العمال بحسب الزعيم الليبراليّ خورخي إليسير جايتان في شهادتهِ أمام البرلمان الكولومبي، أما إدواردو مايتشا الزعيم الرئيسيّ للإضراب فقد أكّد، من منفاه فيما لا يدع مجالاً للشك، أن عدد الضحايا تجاوز مائتي شخص، إلّا أن الرقم الذي اعُتمد أخيراً عند جميع الكولومبيين هو 3 آلاف ضحيّة. هذا الرقم الذي ظلّ يردده خوسيه آركاديو الثاني في رواية “مائة عام من العزلة”. سيعترف ماركيز في سيرته “عشت لأروي” أن الرقم كان مبالغاً فيه، ومع ذلك، سيتواصل الرقم 3000 بالانتشار، ليس في صحف كولومبيا وحدها، إنما لدى كاتب سيرة ماركيز جيرالد مارتن أيضاً الذي سيورد: “فيلقى من جرّاء ذلك ثلاثة آلاف عامل من العمال المضربين وأفراد أسرهم مصرعهم”.

لم يكن الخيال وحده سلاح ماركيز. هناك عشرات المراجع والمصادر على مكتبه للتأكد مما يكتبه، بالإضافة إلى أربعين دفتراً مدرسياً تحتوي على شجرة عائلته، وأسئلته الدقيقة والطريفة للأصدقاء عن “الجنس عند برغوث البحر، وعادات بعض الحشرات، حتى الطرق والوسائل لقتل الصراصير في العصر الوسيط، وعادات بعض الشخصيات التاريخية”. لقد شاهد أصدقاء ماركيز “نصوصاً لا حصر لها في الكيمياء وروايات البحارة، ووصفات إعداد الوجبات الغذائية، وكتباً في الطب المنزلي وأخباراً عن الأوبئة في العصور الوسطى، وكتباً في السموم وأدويتها وأنباء عن بلاد الهنود الحمر،… وكتباً عن الحروب الأهلية الكولومبية والأسلحة النارية القديمة”. لقد واصل ماركيز الكتابة، وهو يردد: “إما أنني كتبت رواية أو أنَّ لدي كيلوغراماً من الورق”.

بدء الأسطورة

سيرى ماركيز في رحلة إلى الأرجنتين، بعد صدور الرواية بقليل، نسخة من العمل في حقيبة تسوق تحملها سيدة بين حبات البطاطا والخس، حينها فقط “استقبل كتابه الشعبي بكل ما للكلمة من معنى”. أكثر من ذلك لقد صارت الرواية وتفاصيل تأليفها تتحول إلى أسطورة كلّما ابتعد الزمن عن 1967. يصفه داسو سالديبار بأنَّه “غموض أسطوريّ بشأن اللحظة التي بدأ فيها كتابة هذه القصة”، حيث بدأ البحث المحموم عن التاريخ بالتحديد الذي جلس فيه ماركيز على آلته الكاتبة لإنجاز “مائة عام من العزلة”، وإذا كان ما صرح به لوسائل الإعلام صحيحاً في أن الرواية بقيت تدور في رأسه منذ عمر السابعة عشرة، أو أنها أتت من صورة “الجد الذي يصطحب حفيده لرؤية الجليد” أو أن رواية “بيدرو بارامو” هي التي أعادت فتى الكاريبيّ إلى الأدب من مغامرات كتابة السيناريو، فإن الرواية – المنعطف قد كتبت وصدرت وصارت ملكاً للتاريخ الابداعي للرواية في العالم.
هكذا ستتحول بدايات كتابة ماركيز لروايته هذه إلى روايات متعددة يرويها أصدقاؤه، وسيشارك يوسا في الحديث عن فترة البدء هذه، معلناً أكثر من مرةً: “بدأ ماركيز على وجه التحديد كتابة القصة في يناير/ كانون الثاني 1965”. وسيخالف ماركيز تاريخ يوسا وما صرح به سابقاً، إذ سيعلن أن التاريخ الصحيح هو “في صباح أحد أيام شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 1965”. غير أن سالديبار يستبعد هذه التاريخ لصالح تاريخ “منتصف شهر يوليو/تموز 1965”.

وبعيداً عن تاريخ بدء الكتابة، سرت أخبار أنَّ ماركيز نفسه استبعد جيلين من أسرة بويندا في الرواية، بالإضافة إلى بعض الأحداث والشخصيات، بسبب تأخره في دفع إيجار المنزل، وديون الجزار، وكان عليه أن ينتهي من الرواية حيث كان بلا عملٍ ومتفرغاً للكتابة. بحسب ما صرح به أثناء المائدة المستديرة “بويندا وماكندو والعالم” في موسكو عام 1979. لم تتوقف الشائعات عن الرواية، كما لم تتوقف الحكايات والروايات التي أطلقتها الرواية ذاتها وصارت أقرب للحقيقة من أي خبر آخر، مثلما حدث مع ضحايا عمال “شركة الفواكه المتحدة”.

وجه موشية دايان بدلاً من ماركيز

لا تكاد تخلو أعمال ماركيز ومنها “مائة عام من العزلة” من الإشارة إلى العرب، منذ سنتياغو نصّار في “قصة موت معلن”، إلى أقصر مقالاته عن الكوكاكولا، في حين سيحمل ماركيز في مقالات وقصص وروايات أخرى افتتاناً بهذه الحضارة؛ منذ كتاب ألف ليلة وليلة وهو “أول كتاب وجدته في خزانة معفرة في مستودع البيت، كان مفككاً وغير مكتمل” وسيصف إحدى قصصه بأنها “ستبدو لي الأفضل طوال ما تبقى من حياتي”. وسيتوصل أخيراً إلى أنَّه “لولا ألف ليلة وليلة لما كنت كتبت” إلى حكايات التراث العربية كقصة “أمير الموت” مع الملك سليمان، أما الحادث الرئيسي الذي ربط “مائة عام من العزلة” بذكرى سيئة مع العرب فكانت يوم اضطرت مجلة “بريميرا بلانا” إلى استبدال وجه ماركيز من على غلاف العدد المخصص لترويج الرواية في “الطبعة الأسبوعيّة 13-19 من شهر حزيران/ يونيو لعام 1967، بسبب حرب “الأيام الستة” التي اندلعت عند الساعة الثالثة والدقيقة العاشرة من فجر اليوم الخامس من حزيران بالتوقيت المحلي لمدينة بوينس آيرس، فتأجلت لحظة غارسيا ماركيز حتى التاسع والعشرين من الشهر”كما يثبته جيرالد مارتن. ويؤكده سالديبار بأنَّ وجه موشيه دايان هو الذي كان بديلاً لوجه ماركيز على غلاف ذاك العدد. “أنا مع العرب.. ومع فلسطين طول العمر”، سيؤكد ماركيز في حوار مقتضب أجرته لمجلة “الكرمل” إكرام أنطاكي.

لا يُخفي ماركيز في نهاية “عشت لأروي”، رغم موقفه المعادي لإسرائيل، أنَّ الملحق الثقافيّ لسفارة إسرائيل دون صامويل ليزمان باوم زاره في أحد الأيام وطلب منه شيئاً للنشر، فقدّم ماركيز نسخة من”عاصفة الأوراق”، لتنشر الملحقيّة بعد خمسة أشهر من اللقاء، وعبر دار “سيب” في بوغوتا، 4 آلاف نسخة من العمل. ومع هذا الاعتراف لا نجد – تحت وقع صدور الرواية الإنجيل- أحداً يعتب على علاقة ماركيز بالسفير الإسرائيليّ.

_______
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *