جلبت لكل خليٍّ هوى .. سلِّم لي علي

(ثقافات)

جلبت لكل خليٍّ هوى .. سلِّم لي علي

مصطفى عبادة

الثانية التي ينطلق فيها صوت “فيروز”؛: “سلِّم لي عليه”، سيعرف المرء تقلباته ومشاعره، الجملة التي تُنْطق بهذا الشكل، وهذه الطرقة، وصوت آلة موسيقية حادة، يظهر واضحاً من بين أصوات آلات أخرى، صوت حاد، أو هو نصل شفرة يحفر في اللحم: “سلم لي عليه”، وصورة طيور رمادية تحلق في الجو، تحمل هذا العمق والزخم والزحمة في المشاعر التي يخفِّفها السلام. الطريقة التي تُنطق بها؛ إنها الطريقة.

المعنى ليس في الجملة فقط، ولا في اللحن فقط، ولا في حالتك التي أنت عليها، مشاعرك: ضعفك أو انكسارك، المعنى في الطريقة التي تُنطق بها الجملة، الجملة التي تنطِق بها أنثى ملتاعة، لا. هذا خطأ وتبسيط واستهانة، الأصح أنها أنثى توَّاقة، أُنثى محرومة من التواصل، تحن إلى الضم، للأحضان والهمس، لمعنى لا يقال، لا تحمله اللغة، إنما تستوعبه المسام والجلد، الدم واللحم اللاهث، العرق والرائحة، المعنى الذي تترجمه العين، أو الجسد المقشعر، كأنما تحت قطرات من الثلج والنار، أو نظرة العين الثابتة على نقطة معينة لكنها لا ترى شيئاً، مفتوحةً عن آخرها لكنها لا ترى شيئاً، لأنها نافذة لشيء آخر أكبر وأقوى من حروف: “سلم لي عليه”، كأنك توّدع عالماً حميماً، تضعه في صندوق الماضي المحرّم، وتريد أن تلقى عليه نظرة أخيرة، الصندوق الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يحتفظ فيه بالذكريات الثمينة والحب هو قلبه ، ونظرة أخيرة على قلبك.

“سلِّم لي عليه”: كيف يمكن أن نجد في أنفسنا وفى الآخرين الحب الذي نستحقه جميعاً، والقرب الذي نستحقه جميعاً، المعنى الذي لا نتعامل معه، ورغم ذلك نشعر أنه في متناول اليد، في مرمى قدرة التعبير؛ الخوف، واللقاء الأول، الانتهاء والبدء من جديد، تجنب الوقوع في الوعود الكاذبة أو عدم الوفاء، تعرف أن النزوة مضرة “وقاتلة”، وتنجرف إليها، تنجرف إلى جمال لا يقاوم، ونزق لا يقاوم، وبشرية لا تقاوم، تنطق الجملة بهذه الطريقة، وتشعر معها أنك لست في حاجة إلى شرح نفسك لمن تحب، فقط: قلها، أو اسمعاها، معاً، وسوف ترتب كيمياء جسديكما نفسها ببساطة. سلم لي عليه: هذا الحزن والشوق، لحن صغير لا يتوقف، إنه امتنان للعيون والشفتين، امتنان للوجود بهذه الطريقة:

“مشتقالك لا بقدر شوفك ولا بقدر أحكيك”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *