بين الفقد والغربة.. تيمة الموت في أدب محمد عبدالمنعم زهران

(ثقافات)

بين الفقد والغربة.. تيمة الموت في أدب محمد عبدالمنعم زهران

  • سمية عبدالمنعم

من التيمات المهمة التى حفل بها السرد القصصي والروائي، وزخرت بها القصة والرواية العربية “موتيفة الموت”، وقد برزت تلك الموتيفة فى كثير من الأعمال، فتجلت في إبداع كل من نجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح وغسان كنفاني، وغيرهم من كبار الكتاب، وكان التناول السردي لتلك التيمة فى كتابات هؤلاء تناولا متعددًا ومتباينًا.

ومن الكُتاب العرب الذين برزت في أعمالهم تلك الموتيفة أيضا، القاص الراحل محمد عبدالمنعم زهران، فيلوح الموت في كتابات زهران، ويفرض نفسه محتلا مساحة كبيرة في معظم إنتاجه القصصي.
والموت عنده هو مرادف للفقد، والاختفاء، فكثير من قصصه تعرض للموت، وهو ما يبدو جليًّا في مثل قصص: فردوس، سيدة الماء، المترجم، المرأة في السحابة، أريد أن أكون نجمة، حيرة الكائن، ولد طيب بجواري، وغيرها الكثير.
وهي ظاهرة غريبة تدعو للتأمل عند قاص دهمه الموت مبكرا، فمات شابا، لنتساءل: هل كان يحس بمغادرته دنيانا مبكرًا؟
ربما كان الموت لديه مرادفًا للغربة، التي كان يحس بها زهران وسط بيئة ريفية، ذلك الشعور الذي يحياه معظم مبدعي الريف والصعيد، فربما عبر زهران عن تلك الغربة وفقده الاحتواء، بالموت، لذا نرى أن الموت عنده والفقد مرادفان لمعنى واحد، الاختفاء والانسحاب، والفقد هنا قد يكون فقد الحبيب، مثلما نرى في قصة “سيدة الماء”، أو فقد الأمل والحب، وفقد الاحتواء والحضن، في قصة  “المرأة في السحابة”.

وفي السطور التالية سنحاول استجلاء “تيمة الموت” عند زهران، متخذين من بعض قصص مجموعتيه القصصيتين “حيرة الكائن”، “هندسة العالم” مثالا على ذلك:

*قصة “سيدة الماء”:

ففي قصة “سيدة الماء” من مجموعة “حيرة الكائن”، وهي القصة الأكثر ألمًا وتجسيدًا لأدب وأسلوب زهران، أسطورة الحب في أقسى معانيه، حيث يتجلى الفقد طيلة الأحداث، وتتجلى معاناة البطلة وعذابها لفقدها حبيبها وبحثها عنه.

بدأت القصة بموت حبيب البطلة في حادث غرق مأساوي، يبدو انتحارًا لا تبدو له أسباب، ولكن يمكن للقاريء استنتاجها من تطور الأحداث، وظلت هي، ربما فقدت عقلها، فالكاتب هنا يمزج بشكل غريب بين الموت وضياع وانسحاب البطل من حياة البطلة، ففي أكثر من موضع يشير لعدم تمسك البطلة بالبطل وعدم بذلها مجهودًا لإنقاذه من الموت “الفقد، الضياع،الانسحاب”، ” غامت عيناها وفكرت في أشياء كثيرة، أشياء مرتبكة يتخللها وجهه، وأصوات النوارس والشمس والموج الهادئ، نهضت وقررت فجأة أن تقفز، ولكنها تراجعت وانكمشت في قاع القارب مرتجفة.” ص63

“كان يمسك بيدي.. كنت أمسك بيده في قوة، ما كان يمكن أن أتركه.. ولكن يدي انسحبت فجأة! أي شيء جعلني أسحب يدي؟! ” ص64

فهو هنا يقرن بين عدم اكتمال الحب لدى البطلة، مما أدى لتنازلها عن مصاحبته في رحلة الموت، “وهو ما يكون في كثير من حكايات الحب عدم تمسك الحبيبة بحبيبها سببا لانسحاب الأخير واختفائه من حياتها كنتيجة طبيعية” فالبطل لم يتمسك بيدها، وكان في مقدوره سحبها معه نحو القاع “حياته”، إلا أنه ترك لها حرية الاختيار والقرار، وعندما فعل جبنت هي ولم تمتلك الشجاعة الكافية للحاق به، لتحيا الباقي من عمرها في ندم عظيم، تتبع أثر حبيبها وتتمنى لو تلحق به، لكن هيهات فقد فات الأوان، فمن مات “رحل” لا يعود، لتتحول البطلة بعد إدراكها استحالة عودته إلى أسطورة تتناقلها الألسنة، وإلى سيدة للماء، الذي صارت جزءًا منه، لأنه يضم بين ذراته حبيبها، لتحيا بين الشواطيء تطارد وجه حبيبها، تناجيه، يقطر الماء من خلايا جسدها، فقد تحولت بكليتها وتوحدت مع الماء الذي يحيا به حبيبها.

هنا يمزج زهران بين الفقد والموت كحقيقة واقعة وقدر مفروض على البطلة، فاردًا مساحة كبيرة للإخلاص والوفاء للحبيب المفقود “وهي تيمة أخرى تطارد كثيرًا من قصصه أهمها وأبرزها قصة “أصابعي منك في أطرافها قبل”، مجموعة “سبع عربات مسافرة”.

يستخدم زهران هنا كعادته موهبته الفذة في استجلاب روح الميتافيزيقيا للحديث عن فكرة ما بشكل غير مباشر وأقل حدة وواقعية، وهو هنا يبرع أيما براعة، ويصل بالقاريء ليس فقط حد الإيمان بفكرته، بل والدفاع عنها بما أوتي من قوة.
ذلك الشجن الذي يصاحب قصصه، وذلك الخيال الذي يهديء من حدة الشجن، ولا ينكره القاريء ويعتبره دخيلًا منفرًا على أفكار واقعية ورومانسية كتلك، بل ربما استمرأه، كلها تكون كلمة السر  في خلطتها، أسلوب سردي متفرد، امتاز أولا  بالصدق الشديد، فقلما نطالع كاتبًا يمتاز قلمه بكل هذا الصدق، وكأنه هو بطل حكاياته جميعا.

سمية عبدالمنعم

*قصة “فردوس”:

بينما يشبه الموت في قصة “فردوس”، من مجموعة “حيرة الكائن” الخلاص وطوق النجاة لفتاة بائسة تعاني تنمر مجتمع جاهل قاسٍ ظالم، لم يستطع النفاذ إلى روحها الشفيفة النقية، فيعاقبها بقسوة على شكلها الظاهري، فيأتي مشهد موتها، ليصوره الكاتب بشكل درامي مثير، فها هي تموت بين يدي من عذبوا روحها، وبين يدي حبيب لم ينصفها ضعفها وفقدها للثقة على مواجهته، لتتحول إلى ملاك يفرد جناحيه وتطير فوق رؤوس الجميع، مغادرة دنياهم القاسية، في تصوير سينمائي رائع لملائكية روحها التي أدركها الجميع بعد فوات الأوان “في لحظة الموت”:
“تحرك الجناحان في عنف فخلّفا غبارًا، وطارت فردوس، طارت إلى أعلى، إلى أعلى، بعيدًا في عمق السماء حتى اختفت”.ص20

فيصبح الموت ليس فقط مخلصًا ومنقذًا من آلام البشر وقسوتهم، بل ومحققًا لحلم الحب لدى فردوس، ذلك الحلم الذي لم تجرؤ في حياتها على البوح به:
“فيسمعون رفيف أجنحة تهبط، ويرون حجرة “علي” غارقة في ضوء أبيض سماوي، يسمعون صوتها هادئًا رقيقًا، ينفذ إلى كل بيوت الشارع مغلفًا بهالات من السحر …
” علي … علي … أنا أحبك.. ليس كما تحب البنات
هل تستطيع سماعي … هل أنت منصت …؟”
فيجاوبها صوت:
” نعم. أنا منصت ….”. ص20

وهنا نستخلص تيمة أخرى تطارد أدب زهران، وهي المعاناة التي يحياها المخلصون وعدم إدراك المجتمع لإخلاصهم وقيمتهم إلا بعد الوفاة، وهو ما يبدو جليًّا في قصص أخرى لزهران مثل “المرأة في السحابة”، من مجموعة “هندسة العالم”:

*قصة “المرأة في السحابة”:

تلك الصغيرة التي عانت من قسوة أبيها، وتجاهل أمها لأحلامها، وتلك الرسائل غير المباشرة التي ترسلها لأمها باحتمالية تحولها لسحابة “كناية عن تحليقها بعيدا عنهم”، لكن عدم استجابة من حولها لمعاناتها وعدم فهمهم لأحلامها المختلفة كليا عن أحلامهم المعتادة وحياتهم الرتيبة، جعلها تتقوقع على نفسها وتتمنى لو سكنت سحابة تحلق بها فوق العالم لتراه من أعلى دون الاندماج فيه، كوسيلة وحيدة للخلاص من هول المجتمع.
وفي مفارقة عبقرية، ترى الصغيرة نفسها وقد تحولت لامرأة تسكن السحابة، وتواجه قسوة المجتمع كلما مالت سحابتها وجذبها زيف المجتمع، وكلما اشتاقت لحضن وحب حقيقيين، لتكتشف أن الحب لا يمكن شراؤه، وأنه إذا لم يخلق منزهًا بريئًا فهو أبدا ليس حبًّا، فتقرر في النهاية القفز من سحابتها إلى الفضاء الشاسع، ومغادرة العالم الأرضي بأكمله، بعد أن عجزت عن الحصول على حضن صادق:
“المرأة في السحابة بعد عدة ليالٍ دون نوم، نهضت من فراشها وصرخت “أريد حضنًا فقط” وأكملت باكية “مجرد حضن صغير”…… وقفت على حافة السحابة…. ألقت بنفسها. كان مريحًا أن تحضن الهواء وهي تسقط بسرعة هائلة..” ص88

هما مشهدان عبقريان، الفتاة والمرأة، وكلاهما واحد، في إشارة إلى أن الاحتياج للصدق والحب لا يرتبطان بالأطفال فحسب، بل ربما كان الكبير أكثر احتياجًا من الصغير لمن يحنو عليه،
وربما أراد الكاتب في النهاية أن يصل بنا إلى مراد واحد، وهو أن الاندماج مع مجتمع زائف والبحث فيه عن الحب هو وهم كبير، وأن الانعزال داخل سحابتك الخاصة هو الحل الأسلم سواء كنت صغيرًا أم كبيرًا.

* قصة “أريد أن أكون نجمة”:

الفكرة ذاتها يتناولها زهران في قصة “أريد أن أكون نجمة”، مجموعة “هندسة العالم”، والبطلة أيضا طفلة تعاني رؤيتها لخيانة أبيها المتكررة لأمها.

وهنا يبرع زهران خلال تلك القصة في وصف مشاعر طفلة تجاه خيانة أبيها لأمها، وتأثرها بما يفعل للدرجة التي تصل بها إلى المرض ثم الموت.
ففي قصة إنسانية تنضح ألمًا، تتمنى الطفلة طوال الأحداث أن تصبح نجمة، ربما لتهرب بعيدًا، أو أن تنير الوجوه الحزينة المتألمة كوجهها الصغير، في عبقرية الوصف “وصف المشاعر”، يأتي مشهد النهاية، الذي يشعر فيه الأب بالندم على ما اقترف، لكن كان ذلك بعد فوات الأوان.
ليمثل مشهد موتها قطعة أخرى من حدائق الفانتازيا التي يحفل بها إبداع محمد، لتتحقق أمنية الطفلة وتتحول لنجمة تضيء جزءًا من السماء، وتطل على أهلها لكنهم أبدا لا يعرفونها:
“أنا الآن نجمة! نجمة صغيرة وجديدة تلمع في السماء.. انظروا” ولكنهم أغلقوا النافذة واختفوا! أعرف أنهم لن يتمكنوا من رؤيتي أبدًا، ورغم هذا كنت سعيدة لأنني أستطيع أن أراهم من أعلى، كما أرى كل شيء، أراه بصورة جميلة جدًا، ولكن دون     تفاصيل؛ لأن التفاصيل تؤذي”. ص123

* قصة “حيرة الكائن”:

أما قصة “حيرة الكائن”، مجموعة “حيرة الكائن”، فتتناول الموت من منظور مغاير، يصور الكاتب هنا “الروح” ككائن له إرادة تامة وليس مدفوعًا برغبات الجسد، فهي التي تتحكم فيه هنا، في أدق لحظاته، لحظة الموت، وكأنها هنا تختطف منه مقود القيادة الذي قبض عليه طيلة حياته، لتتحمل هي مسئولية آخر ساعات حياته، وكأنها تخشى ألا يحسن المغادرة مثلما لم يحسن الحياة، فلتتخذ هي مسئولية الرحيل، وليكن رحيلًا ملائمًا لصفائها وملائكيتها.
فتصر على ألا تغادر إلا في المكان المناسب لها وبين يدي من يستحق، من أحبته وأحبها.
هنا تتوحد الروح مع الجسد، وتعلو رغباته، وتسيرها، فلا الموت غرقًا ميتة تناسبها، ولا الموت ثملا. يبحث الجسد منقادًا عمن ترتاح له روحه، يذهب لصديق قديم فيفاجأ بموته، فيسرع إليها، إلى حبيبة قديمة، كانت تنتظره، وكأن روحها أيضا تأبى ألا تغادر إلا بين يديه، فيسند رأسه على كتفها، وتمسك يده، ويغادران العالم معا:
“ولمح عبر النافذة طيورًا بيضاء تنساب في الهواء.. بعد قليل التفت إليها وأراد أن يعرف أين تنظر، ورآها تنظر إليه أيضا، وتذكر أنها طوال الوقت تمسك بكفه، وسمع صوت أنفاسها قريبة.. فنام.
.. أسندت رأسها على كفه المفتوح، ونامت أيضا.” ص57

* قصة “المترجم”:
وتعد قصة “المترجم”، مجموعة “هندسة العالم”، مثالًا آخر للموت، لكنه موت مبكر في قمة العطاء والمجد والإبداع، لشاب يعمل مترجمًا، يخلص للترجمة حد التوحد معها، بل مع أبطال قصصه حتى أنه يسامرهم ويناقشهم فيما يترجم.
وزهران هنا يخفف من حدة المتخيل، فبينما نظن أن ذلك جزء من غرائبية اعتدناها في أدب زهران، إذا به يفاجئنا في نهاية القصة بموت البطل منذ البداية وأن لقاءه مع أبطاله هو لقاء في العالم الآخر، وذلك بدخول أقرب أصدقائه إلى بيته والبحث عن آخر عمل ترجمه، ليمط شفتيه أسفًا عندما يكتشف أنه مات قبل أن يكمل ترجمة الرواية، وهنا يصيح المترجم القابع خلف مكتبه، بأنه قد أتم ترجمتها وخرجت على أفضل ما يكون، فقد التقى أبطالها ومؤلفها وناقشهم، يهتف، يصرخ، لكن هيهات أن يسمعه صديقه، فيدرك القاريء تلك اللعبة والخدعة الدرامية التي مارسها عليه الكاتب منذ البداية.
ويأتي مشهد النهاية ليؤكد أن موت المبدع لا يعني موت إبداعه، فربما لم يكتمل إبداعه في عالمنا، إلا أن روحه مازالت تبدع وتكمل مسيرتها في العالم الآخر:
“أخيرًا نهضت واتجهت إلى المكتبة، جميل أنهم لم يمسوها حتى الآن،  أخرجت رواية “رايولا” لكورتاثر، كان قد تم ترجمتها من قبل ولم تعجبني الترجمة أبدًا، وفورًا أعددت كل شيء للبدء، وفي أول جملة في الرواية ظهر أمامي أوليفييرا وتبعته لاماجا، شعرت أخيرًا بالونس والألفة وواصلت العمل.” ص100

وكعادتنا مع زهران، فقد أبدع في استخدام الأساليب السردية بتلك القصة، متنقلا بين أكثر من راوٍ، طارقًا أسلوبًا فلسفيًّا عميقًا وبسيطًا في الوقت ذاته، طاول به العالمية.

على أن هناك أيضا الكثير من القصص التي تعلي من قيمة الموت في أدب محمد عبد المنعم زهران، والتي يتردد فيها الموت بين أكثر من معنى؛ الفقد، الغربة، الاختفاء، ضياع الحب والاحتواء، وهو ما يمثل مفارقة محزنة ومدهشة في آن واحد، عندما نعلم أن زهران توفي في جل شبابه وذروة إبداعه وعطائه، لنتساءل: هل يعد تنوع تيمة الموت والفقد عند زهران تنبؤًا منه برحيله المبكر ومحاولة لتمني مصير مُرضٍ بعد الموت؟
ربما.

  • عن مجلة أدب ونقد

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *