سوزان باشلار : تقديم كتاب شظايا شعرية النار

       (ثقافات)                             

   سوزان باشلار : تقديم كتاب شظايا شعرية النار

   ترجمة : سعيد بوخليط  

                                                                                                                                      

خلال سنة 1959، بعد إصدار أبي غاستون باشلار كتابه شعرية المكان (1957) وكذا تسليمه الناشر مسودة عمله شعرية التأمل الشارد، تحول وجهة الاشتغال على كتاب جديد، امتثالا لدواعي رغبة سكنته منذ مدة طويلة تتجلى في استلهامه مرة أخرى موضوعة النار، التي دشَّن بها سابقا دراساته حول العناصر، لكن وفق مسار اهتمام مختلف تجلت مقدماته بين طيات ”الشعريتين”.  وقد ألمح أبي إلى سعيه بين  فقرات النصوص التي تضمنها هذا العمل.

حينما يباشر أبي كتابة عمل ما، بعد قراءات عدة وكذا تدوين ملاحظات كثيرة، يبدأ ببداية الكتاب، يضع تصميما للمقدمة، تحديدا بداية المقدمة، أحيانا يكتب  ملاحظة على الهامش: ”بداية ممكنة”. يشتغل وفق آليتي الاستعادة وكذا التقويم. لايشطِّب قط على أيّ شيء .بل يعلِّق أسفل العبارات المقصودة بقوله : “كُتِبَ ثم أعيدت صياغته”. صفحات كثيرة، لم يميِّز معها سوى تلك الجمل الأولى التي حظيت لديه بقيمة ديناميكية.

 أتذكر بأنه حين قراءته ” مناجاة” فريديريك شلايرماخر، حدثني بتقدير كبير عن ”ضربة القوس الكبيرة” التي  شَكَّلت بداية للكتاب.

كتابة الصفحات الأولى، يعني التأهب، استلهامك الثقة.ترسم هذه الصفحات، مسار اهتمام تجلت ملامحه بما يكفي حتى يصبح مرشدا أولا، ثم انطلقت المهمة، ضمن إطار يحكمه الذهاب والإياب بين المقدمة وكذا فصول الكتاب.

هذه المرة، الكتاب المتوقع إنجازه،أضحى مجرد ”ورش” كي أستعيد تعبيرا لأبي. لم يبق الكتاب قابعا في الرفوف يترقب إتمام فصوله. لكنه اتخذ نماذج عدة بحيث تضاعفت الاهتمامات وتقاطعت. استعصى الاختيار ثم بات مفتوحا، بحيث  توخى أبي الالتزام بتجربة شعرية مبدعة.

حدَّد بداية مشروع الكتاب تحت يافطة عنوان ”نار حية”.أعيد هنا، توثيق المعطيات الأولى للمخطوط الأصلي، مثلما انطوى عليها ملف مخبأ يحمل عنوان ” نار حية ”:

” تتحسَّس ثراء حميما عندما تتأمل شعلة مدفأة تدفئ وتضيء، تخلق حينها نارا ممسوسة بعمق، ثم يتجلى كل الامتداد الوجودي الذي ينبغي أن يدرسه تحليل نفسي لنار نحياها. يصف هذا التحليل النفسي، إذا أمكنه العثور على تآلف بين الصور، استبطان قوى  الكون؛ ندرك بأننا أصبحنا نارا حية بمجرد انقيادنا خلف صور، يميزها تعدد مذهل تقدمه لنا النار، النيران، الشُّعل وكذا المداخن. وأكبر درس نصادفه مع تحليل نفسي لنار حية، فربما إرشادنا إلى تحليل نفسي للكثافة – محض كثافة – كثافة الكائن. إذا تأتى أن نظهر أصلا  بأنَّ كائن النار يعتبر كائن كثافة، بوسعنا محاولة استعراض ما يقابل ذلك. يصعد الكائن داخلنا وينحدر، يتوهَّج أو يكفهر، دون قط الاستكانة إلى ”حالة” بعينها، يعيش دائما ضمن تباين توتره. ليست النار قط ثابتة، تحيا عندما تنام. باستمرار، تنطوي النار التي نحياها على إشارة المتوتِّر. تعتبر صور النار، مدرسة للكثافة، سواء بالنسبة للإنسان الحالم أو المفكر. لكن، قصد الاستفادة من هذه الصور المكثَّفة خياليا، سنتخلص من فظاظة كثافة مغايرة تسري  سريعا جدا بين العضلات. إذا نجحنا كي نميِّز حقا، نيران الأنيموس و الأنيما، سنرى بأنَّ العذوبة، النار الناعمة، نار الأنيما، يمكنها حقا استيفاء صفة زخم العذوبة، وسمة كثافة عذبة”.

”حينما ندرس المقاربة النفسية لنار نعيشها ضمن مداها،تتأتى لنا ألف فرصة كي نحس بكل تداعيات الصفة على الاسم.نرسم أنطولوجيا حول الصفة.عندما نتخيَّل، بعيدا جدا، جوهر المواد – بعيدة جدا خارجنا، بعيدة جدا داخلنا- ثم يحيا الخيال بكيفية أفضل بين طيات حركة الصفات.يمكن لحظتها فعلا للنار الحية تحديد أزمنة مُعاشة، ترصد الحياة المنسابة، المتموجة،وكذا الحياة المنبثقة. لاتعرف الحياة الزمنية للنار، سوى نادرا جدا، طمأنينة الأفقي. النار دائما، تبعا لحياتها الخاصة، بمثابة انبثاق.حين سقوطها، تغدو النار دفئا أفقيا، السكون داخل الدفء الأنثوي”.

   ”نلامس، إذا أمكن، التناقضات الحميمة للتحليل النفسي للنار،في إطار جدلية الأنيموس الأنيما، أن ندرس النار والدفء باعتبارهما قطبين للخيال. نحتاج بهدف تحقيق تحليل نفسي متكامل، العيش عند حدود  قطبي كائننا المخنَّث. بوسعنا إذن تلقي النار في خضم عنفها وكذا طمأنينتها، سواء مثل صورة الحب، أو صورة الغضب”.

صفحة حاسمة تطبع اللحظة الحاسمة،على مستوى إعادة توجيه قياسا لتأملات قديمة حول النار. تتلاشى كل مسافة نحو نار  مذهلة. حين تناول انبثاق النار، يشارك الكائن في النار، بحيث يصبح بدوره منبثقا. شكَّل مصطلح المُعَاش سمة استبطان للنار في خضم التجربة المتخيلة للإنسان وقد أصبح نارا حية. استبطان استشرفنا الإخبار عنه في شعرية المكان وكذا شعرية التأمل الشارد وفق مفهوم ”الصدى”.

أوضحت عبارات هذه  الصفحة انعطاف مسار انطلق من نظرية للعناصر ثم بلغ  تقييما للصفة في إطار حركتها. هكذا، ينفتح تماما البعد العمودي للتسامي. يعيش الكائن بزخم،عبر مشاركته المتخيِّلة لزخم النار؛ بل ويعيش بتوقد ” تناقضات” النار المنبعثة  وتنحدر إلى ”جدلية” الأنيموس والأنيما.

فيما بعد، تخلى أبي عن عنوان ”النار الحية” لصالح عنوان” شعرية النار”، لكن دون تخليه عن مشروعه الأصلي. لقد تقاسم معي، مرات عديدة، هواجس تردداته : العناوين، وسائل لتحديد هويات الكتب، مختصرات قد تفضي إلى سوء فهم. خشي من أن يستوحي القارئ من عنوان ” نار حية” إغواء جديدا للمذهب الوجودي، ظل غريبا عنه.

من جهة ثانية، حظيت نار الأنيموس  بالامتياز، النار المنبعثة والفعالة، كعمل أولي بخصوص تصميم شعرية النار، التماس مباشر من طرف فيلسوف الفكر الفعال و المتوثِّب، الذي يتوخى باستمرار التطور من خلال تجدده. شيئا فشيئا، تبلورت فكرة الاحتفاظ بتيمة ”حية” لنار الأنيما، راحة وكذا دفء النار التي نحلم بها. عموما، تبدو إلحاحية المبادرة كي نتحدث قليلا عن معنى تلك التيمة.

يعلن أبي عن مخططه، مع نهايات كل مقدمات مؤلفاته.هذا الإعلان ليس مجرد اختيار منهجي؛ لكن يتعلق، بالسعي إلى تحدي التوقع، مع تمتعه بحرية إعادة النظر في هيكل المخطط  وتعديله، ثم الاطمئنان إلى مستقبل هذا الكتاب.

كشف أبي سريعا بين تضمينات أول تدبيج لمقدمة “شعرية النار”،عن مختلف موضوعات الجزء الأول المنصبة حول نار الأنيموس كما استهل تبرير اختياره موضوعة ”نار حية”: ”لقد رتبنا مختلف الفصول ضمن الجزء الثاني من دراستنا، تحت عنوان عام”نار حية”. تكمن إحدى شعارات الظاهراتية التطبيقية في تحديد التجارب التي نختبرها. لكن، غالبا مايضمر هذا بامتياز أشياء في كلمة واحدة. تتبدى باستمرار كلمة مُعَاش وفق ريشة فلاسفة زمننا، من خلال كلمة تطالب.

بالتالي كتب أبي ضد فلاسفة آخرين اعتبرهم لايلامسون المُعَاش، ويكتفون بالوقوف عند حدود تجربة التجريدات الوهمية، بحيث تتدنى مرتبة ”الوجود” لديهم ويقتصر اهتمامهم على الفكر.لاتبدو لنا المسألة على قدر من البساطة ومادمنا سنتكلم عن نار حية، فيلزمنا شرح مضمون ذلك، منذ المقدمة الحالية”.

نصدر من خلال نموذج العمل الحالي، النسخة التي نقِّحت وعُدِّلت على ضوء التوضيح الذي انطوت عليه الإشارة السابقة.

وضع أبي المقدمة ضمن أفق سياق ورش مفتوح ثم انكب على تدبيج مضامين أولى أجزاء الفصل الأول. انصبت سلفا  وجهات ملفات حول موضوعات طائر العنقاء، بروميثيوس، غضب النار، أمبادوقليس، تداخلت في إطار سياقها مقاطع من الصياغة، وكذا ”بدايات ممكنة”، ثم ملاحظات على ضوء القراءة. أخيرا، تبلورت ثلاثة فصول، انطلاقا من هذه الموضوعات.

تطرق الفصل الأول حول طائر العنقاء، بحيث تأرجحت تلك الخطوط العريضة وفق إيحاءات عنواني :”العنقاء، الصورة التركيبية للحياة والموت”، ”الشاعر وطيور العنقاء”، ثم وقع الاختيار في نهاية المطاف على عنوان : ”العنقاء، ظاهرة اللغة”.

بعد ذلك، حدث الحسم على مستوى الإعداد النهائي  للفصل الثاني،”بروميثيوس” (انطوى على مخطط مؤقَّت، استطرادات جزئية  وكذا جملة تعليقات على نصوص) استُثمرت الأوراق المهيَّأة حول”أمبادوقليس” وكذا ” غضب النار”، قصد تشكيل لبنات فصل واحد، الثالث والأخير من القسم الأول للكتاب، لكن استعصى أمر العثور على وحدة.

تعمد هذا القسم أن يختار استثنائيا وجهة النار الذكورية، ولم يعد في وسع أبي الاحتفاظ بعنوان : ”النار والتدمير الحي”، كما تصوره خلال حقبة ارتأى إبانها إعطاء كتابه عنوانا عاما : ”نار حية ” تضمَّن موضوعة الأنيما. عديدة الصفحات التي شغلت ”أولى صفحات” هذا القسم.

أدرج هنا الإشارة التي انطوت عليها صفحات نسخة أولى، ثم أعطتها مكانة ارتقت بها كي تجسِّد روح تلك ”البداية أكثر اندفاعا” (تشير ملاحظة هامشية إلى مايلي :” أفضِّل ببساطة عنوان ”تدمير” لهذا القسم ”) : ” يسعى الفيلسوف نحو المطلق . يحترس من الصور، و لايحتاج إليها. تكفيه الأفكار. تكمن أفكار سريعة جدا ليست قط بأفكار فعالة. كما الشأن مع فكرة العدم. يطبِّقها الفيلسوف على كل شيء، دون إدراك بأنَّ ”تطبيق” فكرة معينة يمثل المقياس الوحيد لحقيقتها، وكذا فعاليتها. هكذا، لايُعالج العدم، الخلاء، اللاشيء، مثل ورقة مُمَزَّقة. السلب إجرائي دون تردد. يسمح للمفكر بانقلاب على سيادة الأفكار. يجعل منها بجرة قلم، حقيقة أخرى  رخيصة، دون عناء، دون مسؤولية. يسود الفيلسوف – هذا الملك بدون مملكة-  بفضل آلية النفي. لكن التدمير بمثابة عمل ثان غير النفي. لانعرف  قط إن انتهت المهمة، واحتفظ العالم بأثر ماحطمناه. خاصة،أننا لانعيش قط وئاما مع ذواتنا حينما نمتلك روح التدمير.يلزم تحطيم ذلك المدمِّر. يسكننا الانهيار”.

الصفحات اللاحقة استعيدت وأدمجت ضمن صفحات مسودة متأخرة كشفت عنها طبعة الإصدار الماثل بين أيادينا .

هناك ملاحظة، تعود إلى تاريخ 24 دجنبر 1959 : ”أحبذ الذهاب فورا إلى أمبادوقليس”، لايشير ذلك إلى تخلٍّ عن موضوعة التدمير، بل إعادة تركيز لهذا المبحث :” أمبادوقليس، كائن التدمير الأساسي ”. أعاد أبي ترتيب الصفحات الأولى ثم وضَّبها  تحت عنوان : “أمبادوقليس”.

سنة 1960 وكذا خلال النصف الأول من سنة 1961، واصل   كتابة هذا الفصل وكذا الفصل المخصص لطائر العنقاء. في نفس الوقت، تركز تخمينه حول فحوى  القسم الثاني من كتاب،عنوانه ”نار حية” تمحور منذئذ على موضوع نار الأنيما.

أعاد قراءة موضوعات مختلفة، لكن دون تهيئ ملاحظات تحضيرية – بعضها كان قديما جدا – حول موضوعات متنوعة : السخونة، الانصهار، رؤى وأحلام الاحتكاك، نار الخيميائيين. بشكل مفارق، تعددت المشاريع، مع إدراكه خلال الوقت نفسه استحالة تحقيقها. يصبح المرض ثقيلا أكثر فأكثر، وبالتالي الخشية من زمن أضحى محدودا وثقيلا أكثر فأكثر.

ملاحظات استُعرضت يوم 18 ماي 1961، وتتابعت متواليتها ضمن ملف تحت خانة ”نار حية”. لكن ورود تأويل تضمنه هامش المقدمة وتكرره، يعكس أولى مظاهر التردد :” لن أنطلق من نقد لاذع حيال المُعَاش. سأختبر إمكانية إنجاز مبحث نهائي حول نار حية. إذن أستعيد ثانية هذه الصفحة ”نار حية” :”دمج للفصول في القسم الثاني؟ أو فقط الجزء النهائي؟ أو ربما أيضا الإلغاء ؟ أو كذلك احتمال تهيئ كتاب ثان بعد ”شعرية النار”؟هكذا تجلت مؤشرات  تردداته.

أخيرا، وأمام استحالة تنظيم مواد متنوعة جدا،إبان  فترة تميزت بضغط مساحتها الزمانية، وحدس أبي أكثر فأكثر دنو أجله، بالتالي تخلى عن فكرة كتابة الجزء الثاني من الكتاب. هكذا،عرفت النهاية المفترضة للمقدمة تعديلا، بحيث توضِّح ملاحظة يعود تاريخها إلى 10 يونيو 1961، الإشارة التالية : “مع نهاية المقدمة (10يونيو 1961) وقد قررت الآن عدم كتابة الصفحات التي أعددتها حول نار نحياها، أودُّ القول : الآن انتهيتُ من المهمة التي تبنيتها بإعطاء أمثلة تنهض على تحليل نفسي للأنيموس، اكتسحتني كآبة معينة (كما لو أنَّ الأنيما التي تسكنني تنتقدني لكوني لم أفسح لها مجالا للحديث ).

“أدرك جيدا بأنه لازالت لدي الكثير من الرؤى للحكي بصددها، وعدة تأملات شاردة عاطلة عن العمل ، بخلاف التي قاربناها ضمن صفحات العمل الحالي. ستتناول الأنيما الكلام ثانية.لكننا لانريد استحضارها في هذه البداية”.

ربما نتيجة مقاومة غامضة، تَرَكَ الموضوع إلى حيز مقاربة ثانية، إشارة عن حميمة احتياطية، نار سخونة متناغمة  لايمكننا نسيانها، لكنها أيضا النار التي يصعب أن نحياها ثانية، مرتين، حسب مُعاش الذاكرة و المتخيَّل.

كتب صفحة منفصلة، تحت عنوان :” التسامي بالآم القصيدة” (الكتابة دليل ذلك) ، تدعو المؤوِّل إلى الصمت :” أليس تعزية النفس بالقصائد، أن تجعل المعاناة متواصلة، وفق نعومة مفرطة. ينتقل التسامي بالنفسية، مع فلسفة للتحليل النفسي، صوب حالة مواساة  بيسر مفرط. بالتالي، نتيجة مفعول ثنائية حياة التسامي ، تصبح الحياة الفعلية مجرد محور ميت. لم نعد نكابد ضمن نطاق المعاناة الأولى :” حينما تعثر معاناة، على صورتها بفضل الشاعر، نختبر تساميا يبعث الذكرى بفضل الصورة. تتخلَّص المعاناة المفتَتِنة من مأواها المبهم. فكم هي القوة الإحيائية لحزن متألِّم، قد تجلت حينما نقرأ قصيدة أنطونيو ماشادو :

عالقة بين تلابيب فؤادي

شوكة شغف

استأصلتُها ذات يوم،

فلم أعد أشعر بفؤادي

حين نهاية القصيدة

تستعيد أغنيتي أنينها :

شوكة ذهبية حادّة

أريد الإحساس بكِ

مغروسة داخل قلبي”.

”تطرح قصيدة من هذا النوع قضية التسامي الشعري حسب مظهر خاص جدا. لقد حول الشاعر ألمه السِّرِّي إلى عمل، فهل تحرر منه ؟ لايبدو الأمر كذلك، حينما يكون العمل جميلا كما الحال مع إبداع ماشادو.

يتوجَّع الشاعر بشكل ناعم،ثم بعمق أكثر بعد التسامي. عموما، تصبح الصورة أكثر وجعا من الذكرى الخالصة.لقد حملها الشاعر صوب حالة احتراق متوقدة. يحتفظ على الحريق. ينفث نَفَسه على جمرة. والآن حينما يتذكر حزنه، يتذكر أيضا وبشكل خاص قصيدته”.

”وإذا، تبنيتُ أنا القارئ البسيط القصيدة، و”طبقتُها” على ذكرى يوم انتشلتُ خلاله شوكة من قلبي، تبثُّ هذه القصيدة داخلي، وجعا جديدا.الماضي احتراق. لازال يتوجع تحت الرماد. تتبادل سلبية الحرائق الحميمة وكذا إمكانية شجاعة أن تحيا، تحديهما اللانهائي  بين طيات فؤادنا. أن نحطم داخل ذواتنا الأحزان القديمة بمثابة مكابدة طويلة. يضع كل حب مأسوف عليه الروح وسط مَطْهَر”.

بعد التخلي عن القسم الثاني، بدت “شعرية النار”،غير مكتملة ليس فقط على مستوى الانجاز، لكن خاصة حسب المفهوم نفسه. قُوِّضَت الثنائية القطبية الجوهرية ؛ بالتالي افتقاد  الأنيموس للأنيما. إبان ذلك، تجلت بقوة ملامح مشروع جديد : الإبقاء على توضيب مسودة ”شعرية النار”، ثم استشراف معالم كتاب انطلاقا من الفصل الأول حول طائر العنقاء.

حين مقارنة “شعرية النار” بتعدد الموضوعات، ستحظى الدراسة المنصبَّة أساسا على طائر العنقاء بامتياز تركيزها حول موضوع فريد،قد تبدو أكثر سهولة كي يهيمن خلال زمن محدود.

  ضمن تصور أبي ل”شعرية النار”، احتفظ بطائر العنقاء كموضوع متخيَّل وعي ناري. استرعى انتباهه المفهوم ،الذي يتسم بالإثارة نتيجة خاصيته التحريضية : ينظر إلى طائر التقليد الأسطوري والخرافي، بعين مختلفة قوامها المتخيَّل الشعري.

يستعيد  بداية الفصل حول العنقاء، الإشارة التالية :” إذا أمكنني تبيان بأنَّ صورة طائر العنقاء تعيش بيسر داخل اللغة، وكذا تقديم نماذج معينة حيث نرى العنقاء يحافظ على وجود شعري، يلتقطه أو يستعيده ثانية – انتصار لغة متسامية –  سأقدم لحظتها بناء على  واقعة صعبة، وحالة ميئوس منها، الدليل على أَّنَّ الظاهراتية تتيح لنا إمكانية استلهام انطلاقة جديدة، حتى في خضم سياق صور تقليدية. طائر العنقاء لدى الشعراء، ولادة جديدة. تسامٍ أسطوري، مضاعفة تكرار عجيب للأسطورة:  يأخذ طائر العنقاء تحليقه الشعري داخل رماد الأساطير والخرافات.

سنة 1961، انكب ثانية أبي على هذا الفصل مثلما تركه خلال بداية شهر ماي 1960، كي يشتغل على فصل أمبادوقليس : ”بداية قراءة جديدة. لكني لست سعيدا”، مثلما كتب على غلاف الفصل. تداخلت بالضرورة ضمن مكونات هذا القسم المصمم  كمبحث نوعي حسب منظور ”شعرية النار”، الظاهرة الشعرية وكذا الخلفية الأسطورية، التقليدي ثم الجديد.

تبعا لمقتضى التوجه الجديد بخصوص كتاب يهتم استثنائيا بطائر العنقاء، تطلع أبي  كي يتحرَّر المبحث المصمَّمِ سلفا من التقليد وكذا الموسوعية، ويبرز الفائدة النوعية للشعري، ثم يجعل من نقاء هذا النص مفتاح قبو ”شعرية طائر العنقاء”، بينما استحضر المبحثان  ”التمهيديان” فوائد الأساطير وكذا المقاربات الأسطورية. في نفس الوقت، يعود إلى مقدمة “شعرية النار” بهدف تعديل منظورها، متوخيا في كل الأحوال، الاحتفاظ بتلك الفقرات الأولى وتخصيصها للمشروع الجديد.

مع ذلك، ظل أبي غير راضٍ بكيفية مضاعفة.

لم يكن راضيا، قبل كل شيء،عن البناء الهيكلي للفصول الثلاثة التي هي بصدد الانجاز.أبلَغَ بين سطور الصيغة النهائية للتقديم،عن “وجعه الأخير كصانع للكتب” : ”يقتضي تهيئ كتاب حول العنقاء أن تكون أستاذا صاحب موسوعية ثرية. وتغدو مؤرخا عارفا بالأساطير والديانات”. لم يكن لدى أبي سواء إمكانية قيامه بذلك، ولا أساسا هذا النزوع. حفَّزت  دوافعه اهتمامات  مختلفة. مع ذلك، تجلت عنده بعض معطيات التحسر بسبب عدم كفاية اطلاعه. لقد اعتبر أبي نفسه تلميذا أبديا يعشق التعلّم.

يمكننا ملاحظة بين صفحات مؤلفاته،غير مامرة، سياقات إشاراته إلى طفولته، لاتعكس حنينا إلى حالة طفولة وبراءة، لكن بالأحرى استعادة  قدرات الطفولة، ثم اندهاش الطفل الحالم والحرِّ، وكذا القدرة على التعلُّم والتحول. تنتعش الرغبة دون توقف نتيجة  قراءات كتب موسوعية. تبدَّى توتر بين جرأة خيال حر مقابل رقابة فكر تعليمي. أيضا،تبلورت الحاجة صوب ضمان يتطلع نحو أن يكون مفرطا.

بالفعل،أجبرته موضوعيا المهمة التي تبناها،كي يستمر تفكيكه للأسطورة والقصيدة ثم الربط بينهما ثانية.صحيح، أنه :”دون الاستناد على الأسطورة العتيقة، ينبجس دائما طائر العنقاء من رحم  القصائد”، لكن من المؤكد امتلاك قارئ الشعراء، نظرة أكثر حدة، عندما يستلهم مجال اشتغال المختصين في الأساطير. مثلما ينبغي قراءة الأخيرة وفق اهتمامات أخرى غير هاجس الموسوعية.

لكن، أبعد من صعوبات على مستوى الانجاز وكذا خيبات أمل موضوعية،عميقة جدا، أحس أبي،كما لو أنَّ تغيير مسار مشاريعه يعكس تقليصا لطموحاته الأولى. خلال لحظة تبلور فكرة كتاب يشغل مساحته استثناء طائر العنقاء، كتب هامشا ضمن إحدى  صفحات تقديم ”شعرية النار”، يقول التالي: ”ينبغي تعديل هذه الصفحة إذا اكتفيتُ بإنجاز كتاب صغير حول العنقاء”.

ف ”قرار” يوم 10 يوليو 1961،  بتخليه عن ”شعرية النار”،ليس في الواقع بالقرار الثابت. يعود باستمرار إلى مضمون التقديم، بحيث ترك النصف الأول على نفس توضيبه، ثم عَدَّل النصف الثاني نحو نقد أكثر وضوحا للتحليل النفسي، لكن دون الإفصاح عن مخطط الكتاب الجديد .خلال بداية صيف 1962 ،أنهى مضمون هذا التقديم بالإشارة إلى محتوى فصول ثلاثة يتوقعها بالنسبة إلى”شعرية طائر العنقاء”.

الصياغة ما قبل الأخيرة، رُتِّبت يوم 20 يناير1962 ، تحت نطاق غلاف لازال يحمل أثر التردد : شعرية طائر العنقاء، شعرية النار؟

”شعرية طائر العنقاء” : تنازل عن المشروعات الأساسية، لكن أيضا،انجذاب نحو طائر النار، الذي يموت ثم ينبعث ثانية، شعلة مجَنَّحة ورماد، تحوُّل رمزي للمصير، يجمع بين الموت والطفولة، مخزن الحطب والمهد، يجعل الطفل الحالم قريبا من ضفة النهر، الفجر المشرق، ثم الإنسان المتأمِّل في الموت القريب، موت تغيرت هيأته نتيجة الصورة المتسامية : ” كم يبلغ إذن سنّ طائر العنقاء، مجال اهتمامنا، طائر يولد ويموت داخلنا  بين النهار والليل، ثم الليل فالنهار؟ تكتسح أحلام طيور العنقاء سنّ الشيخوخة، خلال فترة حياتية متأخرة. نموت بالتالي نحرق الذكريات. لكن بما أننا نعشق أكثر بحرقها، نصبح ثانية مستحقين لأبدية عشق نحياه”. طائر العنقاء :”تركيب غريب بين الصور الكبيرة للعشِّ وكذا مخزن الحطب”، طائر خنثوي، مُصْلح، ضمن الرؤيا الكبيرة النهائية، بين الأنيموس و الأنيما.

خلال فترة نهاية حياته، استلهم غاستون باشلار، فكرة كتابة مبحث/ خاتمة تطرق في إطاره إلى استبطان طائر العنقاء :”كيف لاأنجز مبحثا نهائيا أتحدث بصدده عن طائري المسمى العنقاء؟ يكتسي صيغة العنوان التالي: “رؤاي حول طيور العنقاء ”وكعنوان فرعي” الجلاء- العتمة و حياة الرماد”. بدل الجلوس أمام طاولتي الوجودية، سأكون أمام طاولتي المتعلقة باللاوجود،حينها أداعب عدمي”. ثم جاء مضمون الصفحة الأخيرة : ”يهتدي الاشتغال على  كتاب، بصاحبه نحو وجهة الشيخوخة. سيأتي يوم ، يلزمكَ الانتهاء إلى خلاصة، لقد دقَّت حينها ساعة النهاية”.

”نرى المدى الذي تبلغه التجارب الأولى.في غضون مجريات الحياة، تنجز كتابا بهدف المحافظة على عادات الكتابة؛ ثم تعتقد بأنَّ فكركَ يبقى حرّا خارج الكتاب، وأمامكَ مصير ثان غير مصير الكتابة. لكن تأتي ساعة يلزمكَ خلالها الإقرار بأنكَ حينما تنكب على انجاز كتاب، معنى ذلك اقتفاؤك خطى مصيركَ، ثم شيئا فشيئا، لم يعد في حوزتكَ غير مصير هذه الكتب الخاصة”.

“يلزم باستمرار الانغماس في الاشتغال على كتابين أو ثلاثة،خلال الوقت ذاته كي تنجو من مصير عمل يتيم. فعلا أتعهد بهذا الأمر،هكذا أضع فوق طاولتي أربع ملفات،خمس ملفات… تعاسة كبيرة إذن حينما يزداد وزن الملف الأقل أهمية. بؤساء الكُتَّاب الذين لايعرفون سبيلا نحو إحراق أوراقهم؛ و”يعلمون”جيدا بأنَّ كتاب- طائر العنقاء لن ينبعث مرة أخرى من هذا الرماد !”.

زمن قصير قبل وفاة أبي (16أكتوبر 1962) ،استحوذ عليه هاجس عدم إنهاء عمله إبان سنواته الأخيرة. هكذا أمدني ببعض النصائح؛ أولها بمثابة نصيحة إلزامية عامة، مفادها عدم المبادرة بتاتا إلى إصدار عمل معين اتسم فقط بطابعه الشفوي (ملاحظات على ضوء دروس، لقاءات إذاعية أثيرية…). أما عن دراسته حول النار،التي تقاطعت بين طياتها مشاريع كثيرة، وإعدادها لازال بعيدا عن الصياغة النهائية، فقد خاطبني بالوصية التالية: ”بعد كل شيء، يستحسن مراجعتها ثم دمجها بين دفتي أعمال متكاملة”.

 مشروع تبلور عمليا نهاية سنة 1961، بمبادرة من بول أنجولفينت، مدير المطابع الجامعية الفرنسية. استُلْهِم في هذا الإطار  نموذج إصدار ”منشورات المائوية” لأعمال برجسون، وتقرَّرَ إخراج سيناريو هذا العمل من خلال ثلاثة أجزاء،تتضمن مقاربات نقدية وكذا مقدمات. ورش يتطلب وقتا طويلا مثلما يقتضي تعاونا بين مختلف ناشري مؤلفات أبي. تمثلت أولى مراحل هذا البرنامج الطويل،في ملخص للمقالات والمقدمات.

 أخبرني أبي بلائحة ممكنة توثق لعناوين عدة مقالات، عرفت طريقها إلى القارئ سنة 1970 تحت عنواني ”دراسات” (مكتبة جوزيف فرين) ، وكذا ”الحق في الحلم”(المطابع الجامعية الفرنسية). استحضرت نفس المؤسسة التصور الذي طرحه بول أنجولفينت.

نبلغ شهر فبراير1974، صار المشروع ملموسا وجوده للغاية (استشراف أربعة أجزاء؛ وتوزيع مهام  دور النشر ، ثم مضامين المقدمات والديباجة النقدية) وحظي بموافقة جميع الناشرين. بعد مرور أسابيع، تراجع أحدهم عن موافقته المبدئية، ثم تخليه مؤقتا عن المشروع.

شهر يوليو (تموز)1981،دعت ثانية المطابع الجامعية الفرنسية إلى إصدار الأعمال كاملة؛ غير أن  باقي الناشرين، اعترضوا رسميا على الدعوة،  نظرا لحيثيات فصل الصيف، ثم بسبب صعوبات عامة يكابدها النشر. هذه المرة، وُضِع جانبا كل تطلع من شأنه تلبية أمنية أبي، بالتالي الاكتفاء بتصور مفاده تهيئ طبعة منفصلة لمسودات النار.

فيما يتعلق ب”شاعرية طائر العنقاء”، أُحرقت الفصول قيد التحضير، ولم تبق سوى مقدمة وكذا صيغها السابقة، أوراق منفردة، ثم جملة ملاحظات دُوِّنت إبان القراءة.

أما كتاب ”شعرية النار”فقد انطوى على ملفات متباينة جدا من خلال تنظيمها وكذا مستوى تهيئها. جلّ موضوعاته الأساسية، غير منتهية، على مستوى المقدمة (النصف الأول مشترك بين ”شعرية النار”وكذا ”شعرية العنقاء”)،أخيرا انتظمت  الفصول الثلاثة المتوقعة للجزء الأول،خلف العناوين التالية:”طائر العنقاء ، ظاهرة للغة”، ”بروميثوس” ،”أمبادوقليس”.

أما عن القسم الثاني، المتوقَّع أساسا  مجال اهتمامه تلك ”النار الحية”،وتراجع باشلار عن ذلك  في نهاية المطاف، فقد جاء مبناه وفق معطيات مباحث فرعية انطوت على ملاحظات قديمة ، أساسا حول الخيمياء، وفَّرت ربما مواد من أجل إعداد لاحق، وكذا بعض الوريقات المنفصلة. لم تكشف تلك الملفات عن أيّ خلاصة معينة.

يُعْتقد بأنَّ العديد من التطورات، أتاحت المجال أمام صياغة جديدة مما أفضى على الأرجح صوب تعديلات للمخطط القائم. يشهد على ذلك التعايش بين التطورات  اللاحقة و التصميمات الأولى، كثرة النماذج الجزئية ، إشارات الهامش، ملاحظات القراءة التي لم يتم بعد دمجها، وأخيرا إحالات غير تامة.

نعرض المقدمتين ،مثلما وردتا في نموذجي “شعرية النار”وكذا ”شعرية طائر العنقاء”، الفصول الثلاثة : ”طائر العنقاء، ظاهرة اللغة”، ”بروميثيوس”، ”أمبادوقليس”. حافظ ترتيب الفصول،على ذات الهيكل في خضم تلك التعديلات .

تضمنت المقدمة والفصل الأول مدخلا.عثرنا ضمن الملفات على ملاحظات تستشهد بمقطع شعري لجون بورديليت مع حضور نية وضعه كاستهلال لمجموع العمل.لقد أعدنا وضع هذا المقطع في الصفحة الأولى للإصدار. لكي نمتثل للترتيب الذي يقتضيه النموذج مثلما وجدناه، لم نكشف عن الملاحظات الهامشية التي عثرنا عليها بين ثنايا الملف، ارتباطا بجزء ثان محتمل.

أمام تعددية النماذج ، اهتدينا تبعا لبعض الحالات كي نتبنى لأنفسنا مسالك، في أغلب الحالات، صيغة ألزمتنا بكل بداهة. بشكل عام، تباينت هذه النسخ نتيجة بناء تطورها ولايمكنها إعطاء حيز لإشارات متعددة موضعيا.

وحده الفصل المخصَّصِ لأمبادوقليس، أبان ضمن عموميته، عن ترقيم للصفحات متواصل. أما بخصوص الفصلين الأخريين، فقد انطوت أحيانا على ملاحظات هامشية ضمن سياق استطرادات غير خاضعة لتوثيق ترقيمي، توحي بترددات حيال المخطط الذي ينبغي  اتباعه. غير أنَّ بعض تلك المؤشرات بدت غير متلائمة، سياق اقتضى منا تحديد نظام تطورها.هكذا، صار الأمر بالنسبة للقسم الثاني من الفصل الذي تطرق إلى طائر العنقاء.

مبدئيا لم نعثر في ملف”بروميثيوس”سوى على بعض الصفحات : ”بداية ممكنة”، مخطط مؤقت، ملاحظات راكمتها القراءة.لكننا صادفنا ثانية، استطرادات وكذا تعليقات متصلة ببروميثيوس، توزعت بين ملفين لم يتضمنهما الملف العام حول النار، بادرنا إلى ضمها وفق بعض الخانات التي توحي بها نصوص غاستون باشلار.

أبرزنا ملاحظات القراءة، التي  أظهرت جوانب مضيئة قصد توجه النص، لم نستنسخ استشهادات نصوص  شكلت بذاتها توثيقا، ماسماه غاستون باشلار ب : ”مذكراته حينما كان تلميذا”. بعض الملاحظات المتفرقة أضيفت كتعليق.

حاولنا بالنسبة لكل النصوص تدقيق المراجع وإدراج بعض الإضافات السير- ذاتية.

*هامش :

Suzanne Bachelard :Fragments d une poétique du feu ;P.U.F.1988.pp :4- 22.

*المرجع :

  1988 .PP 4- 22.  Gaston Bchelard :Fragments  d une poétique du feu ;P.U.F    

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *