الكتابةُ مِنْحةُ السَّماء

(ثقافات)

 

الكتابةُ مِنْحةُ السَّماء

هناء متولي

لماذا تكتبُ؟ 

كنتُ دائمًا ما أنكرُ هذا السُّؤالَ وأتعجَّبُ منه

كأنْ يُطْلبُ من الكاتب تبريرًا لما يفعلُه ؟

ومع ذلك لا نجدُ السُّؤالَ نفسه مثلًا لمهندسٍ أو مُمثلٍ أو رياضيٍّ.

كأنَّ الكتابةَ فعلًا مُرَفَّهًا كماليًّا، يحتاجُ إلى سببٍ مقنعٍ.

في الحقيقة: لماذا تكتبُ هي بمثابة سؤالٍ عن لماذا تعيشُ؟

لكن دعونا نسألها بشكلٍ أصح: ماذا لو لم تكتبْ؟

أعتقدُ أن إجابتي تختصرُها مفرداتٌ مُحدَّدةٌ هي بديلُ الكتابة عندي: اكتئابٌ ، فقدانٌ للهُوية ، مللٌ ؛ لذلك كانت ومازالت الكتابةُ هي ” منحة السَّماء لاكتشاف ذاتي والعالم “.

دعونا نبدأ الحكايةَ من لحظاتها الأولى ، نقولُ لحظات اكتشافها الأولى لا خلقها ، فالفنُ يسبقُ ميلادَ البشر.

والإنسانُ يولدُ فنانًا أو شخصًا آخرَ.

لذلك يعاني البعضُ من الضياع والتشتُّت إلى أن يكتشفَ ذاتَهُ الحقيقيةَ وذات الفنان فيه، أو لا يكتشفُها إلى الأبد ويموتُ وفي داخله حسرةٌ.

لنعُود إلى اللحظة الأولي، لن أقولَ إنَّها في المرَّة الأولى التي كتبتُ فيها قصةً وكان عمري لم يتجاوز ثماني سنوات، لا، البداية كانت تسبقُ ذلك بكثيرٍ؛ كانت اللحظاتُ الأولى في مُلامسةِ كتابٍ بالمُصادفة، في عينٍ مُنبهرةٍ، خطفها غلافٌ لإحدى روايات الجيب كانت عبارة عن مجموعةً من الألغاز داخل قصة من قصص الدكتور نبيل فاروق، كنتُ في السادسة من عمري أو أقل، كنتُ أجيدُ القراءةَ، أقرأ أيَّ شئ تقعُ عليه عينايَ ويدايَ، حتى لو كان صحيفة ، فيها بعضُ الأخبار والمقالات والتحقيقات والحوارات ، وبالطبع كانت تجذبُني صورُ الممثلين ولاعبي الكرة.

تعلقتُ بالقراءةِ والألغازِ والتخيُّل، وكان من حُسن حظِّي أنَّنى وجدتُ نسخةً من كتاب ” ألف ليلة وليلة” في بيتنا كانت نسخةً خاصةً يمتلكها عمي.

هل يوجدُ أحدٌ في العالم لم يقرأ هذه الحكايات؟

لنكُن أكثرَ دقَّةً ، هل يوجدُ كاتبٌ أو مُفكِّرٌ أو فنانٌ لم يقرأ هذه الحكايات؟

هذا الكتابُ هو أصلُ الخيالِ  و الحبْكَات والأساطير والفلسفة القصصية عرفتهُ البشريةُ، وهو سببُ الوحي والإلهام الإبداعي لأهم كُتَّاب العالم منذ يوم اكتشافه حتى الآن.

بعد ذلك مُباشرةً، تعرَّفتُ إلى عالم شيكسيبر وتوحَّدتُ فيه ، وكذلك عوالم نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومصطفى محمود .

أذكر جيدًا شُعوري وأنا أقرأ روايتيْ “العاصفة “و “أنا حُرَّة”.

القصة الأولى:

أول قصةٍ كتبتُها كانت تقليدًا  لمًا تفعلُه زميلةٌ لي كانت تكبرني بثلاثة أعوام ، وكانت تكتبُ القصص وتحكيها للزميلات الأصغر سنًّا منها.

أنا أيضًا كتبتُ قصَّة عن طفلةٍ شقيةٍ” للأسف تم تلقينُنا أفكار مغلوطة عن الشقاوة والطفولة “

الطفلة الشقية التي لم تسمع لوالدتها، وخرجت إلى أماكنَ بعيدةٍ بمُفردِها، سقطت في البئر، التي نقلتها إلى عالمٍ غريبٍ يحكمه غولٌ مُخيفٌ يأكلُ الأطفال، لكن الفتاة كانت ذكيةً ومحظوطةً وعادت إلى والدتها وبيتها ثانيةً وقد وعَدَت والدتها بالطاعة والهدُوء.

نسختُ القصَّةَ وطبعتُها ووزَّعتُها على بعضٍ من المدرسين والزميلات، كان خطي في الكتابة سيئًا، لذلك استعضتُ عن ذلك بالحكي، حصلتُ على دعمٍ كبيرٍ وتقديرٍ، لكنَّني لم أُعِدْ التجربةَ، فقد ندهتني ندَّاهة القراءة التي غرقتُ فيها، كانت أسعد أوقاتي مع كتابٍ جديدٍ أخفيه بين الكتبِ المدرسية، لإيهام  والدتي بالمُذاكرة وأنا منهمكةٌ في عالم الخيال والأفكار.

كنتُ كلما قرأتُ أكثرَ، تأكَّدتُ أنَّ الكتابةَ فعلٌ مُقدَّسٌ، لا أجرؤ عليه، المعرفةُ كانت سببًا في ضعفِ ثقتي بموهبتي، أيضًا كنتُ أفضِّل القراءةَ ومُتعتها على أيِّ شىءٍ آخر.

كان البديلُ الذي اخترعهُ عقلي، ردًّا على كبت رغبتي في الكتابة، هم الأصدقاء الخياليون والسيناريوهات الخيالية، والعوالم الغريبة التي تدورُ في رأسي ، لأرسُمَ لها عوالمَ وحكاياتٍ وصراعاتٍ ونهاياتٍ حسب ما أراهُ أمام عينيَّ، وإلى الآن، لا أكتبُ عن شخصيةٍ أو موقفٍ حتى أراه، أذكر جيدًا رؤيتي لبطلات قصصي مثل ” رسائل الموتي، نساء البساطي، وقط ذكر لقطةٍ وحيدة”، كأنهن حقيقيات أكثر مني.

الرواية الأولي:

 

حدث ذلك في وقتٍ متأخِّر، كان عمري وقتها حوالي ستة وعشرين عامًا ، كنتُ محطَّمةً بالكامل، أعاني من الاكتئاب ومرارة الفشل، أشعرُ أنَّ ما أنا فيه ليست حياتي، فقدتُ هُويتي واتصالي بنفسي الحقيقية، أعتقد أنني مررتُ بأزمة منتصف العمر مُبكِّرًا جدًّا.

تحوَّل الوضعُ النفسي السَّيء إلى وضعٍ جسديٍّ أسوأ، خُضتُ رحلةً طويلةً في علاج الأورام، أدويةٌ هرمونيةٌ وجراحاتٌ فاشلةٌ وتشخيصٌ خاطىء، كنتُ أقربَ إلى الموت، كأنَّ الموتَ يبدُو بسيطًا، فقط أن تغمضَ عينيْك إلى الأبد.

وعند خروجي من جراحةٍ كبيرةٍ، وفي مرحلة التعافي، طلبت مني أمِّي أن أكتب، وقد حدث.

كتبتُ روايةً طويلةً جدًّا، كلها آلامٌ وأوجاعٌ وسِحرٌ وجنٌّ وبشر سيئون، نشرتُها ثم تبرَّأتُ منها بعد أن تخلَّصتُ من جرعة الأوجاع داخلي، لقد أنقذتني الكتابةُ، شفيتُ وشفيتْ روحي.

هل الكتابة كانت اختياري؟

بالطبع لا، أعتقدُ أنَّني خلقتُ لأكُونَ كاتبةً، لكنَّني لم أختَرْ هذا الطريقَ، لقد دُفِعْتُ إليه، رغم أنَّني لا  أجيدُ فعلَ شيءٍ آخر.

الكتابةُ مهنةٌ شاقةٌ، فِعْلٌ في مكنونه أنانيٌّ ومتفرِّدٌ، يحبسُك ويأسرُك ويجعلُ رُوحَكَ ذائبةً في الكون، أنتَ صوتُ من لا صوتَ له، ليس صوته فقط، أنت شعُورُه وتقلُّباته وأزماته ومساراته، تنقلُها وتطلقُها في الكون.

أنتَ تأريخٌ للكون والبشرية.

مازلتُ أتعجَّبُ من تجرُّؤ البَشر على الكتابة.

على الكاتب أن يكُونَ فيلسوفًا متأمِّلًا على الدوام

على الكاتب أن يكون ناقدًا محلِّلًا ومُتبصِّرًا

على الكاتب أن يكُون إنسانًا، مذهبُهُ الأولُ هو الإنسانية ،

أن يتعلَّمَ التعاطُف وأيضًا التجرُّد والحياد.

عندما أذكرُ كلمتيْ تعاطف أو تقبُّل، أتذكَّرُ دائمًا رواية ” حَذَارِ من الشَّفقة” لستيفان زفايج ، والتي تحكي عن ضابط تقع في غرامه فتاة ثرية وقعيدة.

وعن التجرُّد، أذكر روايتيْ “مدام بوفاري” لجوستاف فلوبير،   و”آنا كارنينا ” تولستوي.

الميزان الأخلاقي الدقيق الذي يجعلك تحاكمُ البطلةَ رغم تعاطفك معها.

الكونُ كله حكايةٌ طويلةٌ فقدت أوراقَها الأولى والأخيرة رغم السَّعي الشَّديد في التوصُّل إليهم.

الآنَ وأنا أكتبُ هذه الشهادة ، أتأمَّلُ قصة جودر المصري من حكايات “ألف ليلة وليلة”، ذلك الصيَّاد الشُّجاع العطُوف، المُحبُّ لعائلته، والذي غفر لأخويه اللئيمين شرَّهُما ضده أكثر من مرة، ليقتسمَ معهما مُكتسباته دائمًا، وفي النهاية حتفه كان على أيديهما؟

قصةٌ شائقةٌ تطرحُ تساؤلًا وجدالًا كبيرًا عن صحةِ تصرُّفات “جودر ” مع شقيقيه .

هل المغفرةُ الدائمةُ كانت خطأ؟

هل كان عليه طرد أخويه من حياته نهائيًّا ، ولماذا استحق ذلك الصيَّادُ الطيِّبُ تلك الخاتمة المأساوية ، لماذا يموتُ البطلُ ” الخيِّر” في النهاية .

أخبروني أيَّ شئ آخر غير القصص يقدرُ أن يطرح تلك المُعضلة، حتى ولو كانت من دُون إجابةٍ.

أخيرًا، أنا واثقة من أنَّ الكتابةَ هي التي تختارنا، تختارنا لأسبابٍ كونيةٍ لا ندركُ إلا القليل منها، لنكونَ درسًا للأحياءِ وتذكرةً، وشاهدًا على الماضي وأحكامه.

جائزة سعاد الصباح:

بعد فترة انقطاعٍ عن الكتابةِ، وصحوةٍ من ضمير الفنان، بتُ أبحثُ عن قيمة الفن، والرؤية المُقدَّسة للإبداع، وفي قناعاتي الأولى وجدتُ أن قيمة الفن في  قيمته المُجرَّدة، بمعنى أن يكون الفنُّ فنًّا حقيقيًّا.

في رمضان ٢٠١٩ سلمتُ روحي للفن الذي أراه أمامي، استسلمتُ لسنواتٍ قضيتُها في المسرح المدرسي ومسرح نادي الجزيرة، تحرَّرتُ وتجرَّدتُ وكتبتُ مجموعتي القصصية” التنفُّس بحريةٍ أثناء السقوط” وقد كافأني الله على حصول جائزة سعاد الصباح للإبداع الشبابي عنها دورة عام ٢٠١٩/٢٠٢٠

بالتأكيد كنتُ في حاجةٍ إلى هذا التقدير، كأنه إشارةٌ على الخط الصحيح للاستمرار في الإخلاص للفن الحقيقي، الفنُّ وحده.

رواية الغريقات:

في البداية، كنتُ قد اخترتُ أن أكونَ صوتَ من لا صوتَ له، بخاصة أصوات النساء المُهمَّشات في الريف المصري، ذلك الريف الذي حصره الفن في صورةٍ نمطيةٍ مُعتادة، عن طريق التعليب  و الاستسهال.

أنا ابنةُ الريف، وواجب عليَّ أن أنقل عنه صورته الحديثة، تقلُّباته السريعة، ووضع النساء المُزْري فيه.

ومع كرهي الشديد للقوالب النمطية والمط، اخترتُ جَرْعةً روائية مُكثَّفة اختلطت فيها الحقيقة بالأسطورة والخُرافة، الخرافات التي تدفعُ ثمنَها النساءُ دائمًا.

في سردٍ لحكاية عن ترعة في قلب ريف الدقهلية تغرق فيها كل ليلةٍ امرأة، لوسم النساء هناك بوصمةٍ من العار والفضيحة.

الرؤى المستقبلية:

أتمنى من الله أن يمنحني دائمًا الاستقلال والقوَّة، حتى يكون ولائي دائمًا لمبادئي الخاصة عن الفن والعدالة وصوت الضعاف، أن أظل مخلصةً للفن فقط من دون أيِّ حساباتٍ أخرى.

وأن أتمكَّن دائمًا من سرد كتاباتٍ إبداعيةٍ مختلفةٍ ومُتجدِّدة تطرح رؤى مُختلفةً عن العالم والذوات المكنُونة في النفوس البشرية من دون مُواءمات أو تنازلات.

أتمنى ألَّا أكرِّرَ نفسي ولا أي شكل مُعتاد للفن، في رأيي إن لم يطرح النصُّ شيئًا جديدًا ومختلفًا ، فما الداعي منه؟

لا يصحُّ أبدًا تكرار تجارب إبداعية سابقة.

وبشكلٍ شخصيٍّ أتمنى بناءَ رواية طويلة تشابه في تكوينها خطط لعب كرة القدم والتي أجد فيها شغفًا كبيرًا.

أكتبُها على طريقة اللعب التكتيتي في خطط ٤/٣/٣

لا أعلمُ كيف يمكنُ خلقُها؟

لكن ربَّما فعلتها يومًا ما.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *