قراءة نقديّة في ضوء المنهج الأسطوري

شرفة الفردوس لنصرالله: قراءة نقدية في ضوء المنهج الأسطوري

غسان عبدالخالق

 

يمكننا القول بأن إبراهيم نصر الله قد استأنف في روايته «شرفة الفردوس»، مقاربة إحدى أبرز الإشكاليات الوجودية في خطابه الروائي بوجه خاص وفي الخطاب الروائي العربي والعالمي بوجه عام. وأعني بها إشكالية (التحكّم والسيطرة)، بكل ما يمكن أن تُحيل إليه من قضايا فلسفية ما ورائية أو فنية جمالية أو واقعية مأساوية.”

بغض النظر عن اسم العرّاب الحقيقي للمنهج الأسطوري ـ فرويد أم يونغ أم إليوت أم فراي ـ فإن منظّري هذا المنهج يجمعون على: أن الأدب بكل أشكاله ومضامينه ليس أكثر من استعادات متكرّرة للأسطورة الأولى الثاوية في لاوعي المبدعين، وأن ما يبتكره هؤلاء المبدعون من إزاحات ملموسة على صعيد الرؤية أو الأسلوب هو ما يمنحهم سمة التميّز.

وفي ضوء هذه الخلاصة المنهجية المكثّفة، يمكننا القول بأن إبراهيم نصر الله قد استأنف في روايته «شرفة الفردوس»، مقاربة إحدى أبرز الإشكاليات الوجودية في خطابه الروائي بوجه خاص وفي الخطاب الروائي العربي والعالمي بوجه عام. وأعني بها إشكالية (التحكّم والسيطرة)، بكل ما يمكن أن تُحيل إليه من قضايا فلسفية ما ورائية أو فنية جمالية أو واقعية مأساوية.

إن وجه المغامرة في هذه المقاربة، يتمثّل في ضخامة الموروث الذي تصدّى لإشكالية (التحكّم والسيطرة) في الكتب المقدّسة والأساطير والفلسفات والآداب والفنون؛ بدءًا من مأساة خروج آدم وحواء من الجنة، مرورًا بأسطورة بروميثيوس الذي سرق النار، وليس انتهاء برواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ. وباب المراهنة فيها مشرع دائما، باتجاه الطموح لإضافة لبنة جديدة، في حائط التساؤل عن مدى مسؤولية الإنسان عن مصيره المؤلم. وهي فضلاً عن ذلك كلّه، تمور بمحاذير الارتطام بحواجز التأويل الديني والسياسي لمنطوقها الظاهر والمبطن، انطلاقًا من المقولة العتيدة: ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن أو كان! لأن مجرّد التفكير بما كان يمكن أن يكون، يمثل المدخل النموذجي للمحنة؛ وجوديًا وسياسيًا.

….. ……

عبر رواية رشيقة تقع في 170 صفحة من القطع المتوسط إذن، يتقدّم إبراهيم نصر الله برؤيته الخاصة لمشكلة الوجود الإنساني الكبرى؛ ماذا ومتى وأين وكيف ولماذا حدث كل ما حدث؟! فلم يدّخر وسعًا لتوظيف المحمول الإنساني؛ دينيًا وأسطوريًا وفلسفيًا وأدبيًا وفنيًا، فنثره بخفّة لم تبلغ حدود التصريح المفضوح، ولم تخفت لتبلغ حدود الهمس المجروح! لكن الأجدر بالتنويه في هذه التوظيفات الفكرية المموّهة بمهارة، تلك الشبكة الدقيقة والمنظّمة من العتبات والرموز والدّلالات، بدءًا من العنوان (شرفة الفردوس) الذي يحيل إلى ضرورة الإطلال على ما أضاعه الجنس البشري من سعادة مرّت كلمح البصر، مرورًا بما حُمّل من دلالات أخلاقية على أسماء الشخصيات التي قُدّت بعناية تامة: (قاسم)، (حياة/ أنس)، (إدريس/ دنيا)، (الدكتور). وإذا كان الاسم الأول هو من السطوع إلى حد لا نحتاج معه إلى تأويل مستواه الدّلالي على الصعيد الماورائي، فإنه يتسع ليشمل أيضًا على الصعيد الجمالي، معنى ودلالة المؤلّف الذي يمسك بكل خيوط السرد في قبضته، ولا يسمح لأي من شخصيات الرواية بالخروج عما أراده أو رسمه لها من أدوار وأقدار. كما يشمل على الصعيد الواقعي معنى ودلالة الطاغية الذي يتحكّم بكل شروط اللعبة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. ويتوالى هذا السطوع على صعيد تأويل (حياة/ أنس) بـ (حوّاء/ آدم) ليصل درجة من الغموض المتعمّد في تأويل (إدريس/ دُنيا) ثم يعود للانبثاق مرة أخرى عبر الاسم/ الصفة (الدكتور) الذي يتطابق دلاليًا مع (العلم) دون ريب.

وحرصًا من إبراهيم نصر الله على توفير المعادل الموضوعي المطلوب فنيًا لـ (ما قبل الزمن) و (ما بعد الزمن)، فقد عمل على تقسيم روايته إلى قسمين: قسم امتد من الصفحة 5 حتى الصفحة 84 متدثّرًا بعنوان (المراودة)، وقسم امتد من الصفحة 85 حتى الصفحة 171 متدثّرًا بعنوان (اللعنة)؛ فبدا (التذهين) في القسم الأول مبرّرًا لأنه يقارب حيّزًا تنعدم فيه أبعاد الزمان والمكان والإنسان في السديم الأزلي القديم. كما بدا (الترهين) في القسم الثاني متوقّعًا ومطلوبًا لأنه يقارب واقعًا تجسّدت فيه الأبعاد الثلاثة وتشابكت؛ فلم يدّخر الروائي وسعًا لترصيعه بأسماء المدن والأحياء والشوارع والمجمّعات التجارية والمطاعم والمقاهي ودور السينما والأغاني المشهورة والنكات الرائجة، لتكثيف البعد الواقعي من جهة، ولتمويه الأبعاد الماورائية التي تظاهرت في القسم الأول من جهة ثانية.

لقد وظّف مبدع (شرفة الفردوس) مخزونه السينمائي وخاصة في القسم الثاني؛ ففعّل دور عين الكاميرا في تعميق الوصف والحوار المشترك ومناجاة الذات وتمازج الواقع بالحلم، كما وظّف ما يشتمل عليه هذا المخزون من ظلال التخويف والتعنيف والتشويق الماثلة في سينما الكابوس واللامعقول والغريب والتحقيق البوليسي. وقد حالفه الحظ في التعبير عن هذا التوظيف حينما استفاض في الحديث عن فيلم (أفاتار) على لسان الدكتور المغرم بحياة، قبيل وأثناء وبعد مبادرته إلى دعوتها لحضور الفيلم. أقول حالفه الحظ في الحديث عن هذا الفيلم تحديدًا، لأنه يلتقي مع أطروحة الرّوائي من جهة كونه مقاربة للكيفيّة التي يمكن وفقها لذهنية التحكّم والسيطرة أن تعطي لحاملها الحق في تحطيم الفردوس، ومن جهة كونه كرنفالاً حافلاً بالتداخل بين الواقع والخيال، والمعقول واللامعقول، والممكن والغريب. فضلاً عن كونه تجسيدًا للصراع الدامي بين الخير والشر والحب والكراهية والاستغلال والوئام.

وأما بخصوص الإزاحات السردية التي اضطلع إبراهيم نصرالله بإحرازها في (شرفة الفردوس)؛ فقد تمثلت في إسناد دور قيادة التمرّد لحياة وليس لأنس ؛ فالأنوثة سواء تظاهرت إيجابيًا عبر حياة أو سلبيًا عبر دُنيا، تضطلع بدور البطولة المطلقة في هذه الرواية. وأما الذكورة _ بكل صورها واحتمالاتها _ فما هي إلا هوامش جافة تحف ببحر الأنوثة الصاخب المتوثّب. كما تمثّلت في الإلحاح على تطعيم السرد الرّوائي بصور شعرية متواترة، قوامها الضرب على وتر المفارقة الثاوية في رؤية الشيء ونقيضه، على طريقة: (وبضدّها تتعرّف الأشياء) ! وكأن الرّوائي لا يملّ من تذكيرنا بأن الحقيقة ليست أكثر من الأثر الناجم عن رؤية الأبيض والأسود في آن واحد، أو الإحساس بالفرق بين البرد والدفء على التوالي:

* (أوقفت السيارة، غير مصدِّقة عينيّ، لاحظت وجود سيارة بيضاء فارهة متوقفة أمام البناية. حاولت رؤية من في داخلها، لم أستطع. كان زجاجها الأسود يحجب ما وراءَه).

* (من قال إن الحبر أكثر حلكة من الثلج؟!).

* (وكم فاجأني أن الأوراق دائمًا تحترق، أما الحبر فلا).

* (أحسست أن الشيء الأكثر قدرة على بث الخوف من مخفر ممتلئ برجال الأمن هو المخفر الذي لا نرى فيه أحدًا منهم!).

* (ليسوا أقل من كارثة هؤلاء الذين يبكون أكثر منك يوم موت أحبائك!).

* (لا يمكن أن يكون هناك قتلة بالفطرة لو لم يكن هناك قتلى بالفطرة!).

* (أي مفارقة هذه؛ حين يتقدّم القاتل بلائحة توصيات إلى القتيل!).

* (الحلم الذي ظل يراودني هو أن أعثر يومًا على رجل أعمى، إلى أن أخبرتني دنيا ذات يوم: العُمْي، قد يرون بأصابعهم أكثر مما نرى بأعيننا!).

ومع أن إغراءات المقارنة بين (شرفة الفردوس) لإبراهيم نصر الله و (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ وافرة ؛ سواء على صعيد التشابه بين الجبلاوي وقاسم أم على صعيد التشابه بين بيت الجبلاوي وعمارة قاسم أم على صعيد التشابه بين (عَرَفة) وبين (الدكتور) _ فكلاهما يمثّل العلم ويرى فيه مستقبلاً وحلاً لآلام البشرية _ فضلاً عن قابلية كل من الروايتين للتأويل الديني أو الفلسفي أو الواقعي من منظور تحليل خطاب السلطة، إلا أن الفيصل الحاسم بين الروايتين يتمثّل في ذكورية (أولاد حارتنا) الفاقعة وأنثوية (شرفة الفردوس) التي يصعب أن تخطئها عين القارئ المدقّق أو الناقد الحصيف. كما أن الرّاوي في (أولاد حارتنا) يتبنّى رؤية الجبلاوي بوجه عام، فيما أن الرّاوي في (شرفة الفردوس) يتبنّى الرؤية المضادة لقاسم، دون أن يُبدي أي شكل من أشكال التعاطف معه!

* عن الدستور

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *