(ثقافات)
ابن رشد الفيلسوف.. قراءة جديدة ودعوة للإنصاف
حاتم السروي
إنه الفقيه والقاضي والفيلسوف والطبيب والأديب أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي الوليد بن رشد، الشهير بالحفيد الغرناطي، المولود سنة 520هـ، وقد أجمع المؤرخون على أنه عالم جليل وحافظ متفنن ومؤلف متقن، وحُكِيَ عنه أنه لم يدَع النظر ولا القراءة منذ وعى إلا ليلة وفاة والده وليلة عرسه، وكان يحفظ ديوان المتنبي.
وكان لابن رشد شمائل حسنة وصفات نبيلة؛ فمثلًا كانت له وجاهة عظيمة عند خليفتين من خلفاء الأندلس، ولم يصرف هذه الوجاهة في اكتساب الرفعة واكتناز المال، بل صرفها في مصالح أهل بلدته خاصة، ومصالح أهل الأندلس عامة، وكان طيب القلب دمث الخلق لا يعرف البغضاء والحقد.
وابن رشد من أسرة تنحدر من “سرقسطة” بالثغر الأعلى في الأندلس، وعرف عنها العلم بالدين والتفقه على مذهب الإمام “مالك بن أنس” رضي الله عنه، وكان لوالده مجلس للتدريس في جامع قرطبة، وله تفسيرٌ للقرآن الكريم وشرحٌ على سنن النسائي، وهو الذي حفَّظ “ابن رشد” كتاب الموطأ، وقد تولى هذا الوالد القضاء في قرطبة عام 532هـ؛ ثم طلب إعفاءه من القضاء لينقطع إلى التدريس الديني والتأليف في الفقه والتفسير والحديث، وتوفي سنة 563هـ عندما كان ولده في الذروة من نشاطه الفلسفي.
أما الجد فقد كان قاضي الجماعة وإمام مسجد قرطبة الجامع، وأحد كبار مستشاري الدولة المرابطية، ولم يدركه حفيده الفيلسوف.
-
دراسة ابن رشد وأساتذته:
درس ابن رشد في البداية على يدي أبيه وعلى يدي “الحافظ أبي محمد بن رزق” وأخذ الفقه عن أبي مروان عبد الملك بن مسرة” و”أبي القاسم بن بشكوال” و”أبي بكر بن سمحون” كما درس على يدي “أبي جعفر بن عبد العزيز” الذي أجاز له أن يفتي؛ كما أجازه الإمام المازري في الحديث، وكان ابن رشد متقنًا لعلم الكلام، فنحن بهذا أمام عالم ديني مستكمل الأدوات وكان يُفزَع إليه في الطب والفقه معاً، وهو مؤلف كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” في الفقه وليس جده، والناظر في هذا الكتاب يعتقد أن “ابن رشد كان فقيهًا فقط ولم يعرف الفلسفة! غير أنه بجانب الفقه مال إلى الفلسفة وبرع فيها وتأثر بـ “ابن باجة” وصحح ما جاء من أخطاء في كتابات “ابن سينا” و”الفارابي” عن بعض نظريات أفلاطون وأرسطو.
-
رحلته مع الطب: أخذ فيلسوفنا الطب عن “أبي مروان بن جبرول البلنسي” وعن “أبي جعفر أحمد بن هارون الترجالي” وقدمه الفيلسوف والطبيب “ابن طفيل” لـ “أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن” خليفة الموحدين فجعله طبيبه الخاص ثم عينه قاضيًا في إشبيلية، وبعدها تولى منصب القضاء في قرطبة وأصبح رئيس القضاة في الأندلس.
وبأمرٍ من الخليفة المذكور أقبل على فلسفة أرسطو يفسرها فسمي بـ “الشارح الأكبر” و”المعلم الثاني” باعتبار أن أرسطو هو المعلم الأول، وحين مات الخليفة وورثه ابنه ” يعقوب بن يوسف” أكرمه في البداية ثم انقلب عليه فتعرض لمحنته الكبرى التي ذكرتها لنا كتب التاريخ واتهم بالزندقة، وهي تهمة ليست في محلها أبدًا ويبدو أن من ألصقوها بابن رشد لم يفهموا أنه إيمانه – وهو الفيلسوف- يختلف عن إيمان أهل الحديث، كما يختلف إيمان المتكلمين أيضًا عن الفريقين، فلكلٍ وجهةٌ هو موليها، ويبقى الإيمان إيمانًا في النهاية فليس المهم الطريقة بل المهم هو الطريق.
و”ابن رشد” كان مؤمنًا بالله ورسله عن يقين، تدلنا على ذلك مصنفاته، وكان يقول: ” من تعلم التشريح ازداد إيمانًا بالله” وميزة إيمان ابن رشد أنه يقوم على بناء عقلي راسخ، والظاهر من سيرته أن مبعث اتهامه بالكفر والمروق هو ذكاؤه وعلمه الغزير الواسع! مع جرأته وأنه كان حرًا في استخدام عقله ومستقلًا بآراءه لا يسير مع المجموع، وقد أدى كل ذلك إلى حسد بعض الفقهاء له وحقدهم عليه، وزاد من هذا الحقد أنه كان يشاكسهم ويُعرِّض بهم، وكثيرًا ما انتقد رياء بعضهم وشغفهم بالدنيا وحرصهم عليها مع ادعاء الزهد، كما أن من أهم الأسباب لحسد “ابن رشد” منزلته من الخليفة الذي قرَّبَه إليه وجعله مشيرًا تقديرًا لعلمه وحكمته.
وبدأت المحنة بمكيدة دبرها الفقهاء بأن أخرجوا كتابًا بخط يد ابن رشد، وجاء فيه: “فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة” ولا يبعد أن تكون هذه العبارة قد زُوِّرَت عليه، وإن صح أنها عبارته فلابد أنه قالها حكايةً عن أحد الفلاسفة اليونان؛ إذ لا يعقل أن يصدر من ابن رشد “العقلاني” مثل هذا الكلام، ويضاف إلى “الحسد” و”التزوير” أنه كان يعامل الخليفة بنِدِّيَّة لأنه كان معتزًا بنفسه فهو عالم قدير ومحترم لا يرى لشيءٍ فضلاً عليه إلا علمه، وكان يخاطب الخليفة بقوله “يا أخي” وكان الخليفة يسر في نفسه الغضب من هذه الجرأة، وفي شرحه على كتاب “الحيوان” لأرسطو وُجدَت هذه العبارة: “وقد رأيت زرافة عند ملك البربر” فاعتاظ الخليفة من ذكره بهذا اللقب دون ألفاظ التفخيم والإجلال، وكان ابن رشد حسن النية في كتابته ويجري مجرى العلماء في ذكر الملوك بأسمائهم أو مع البلدان والأقوام التي يحكمونها، فلذلك احتال البعض ليخلصوا ابن رشد من هذه التهمة وقالوا إنها “ملك البرين” غير أن الناسخ قد غلط وجعلها “ملك البربر”!
كما نسبت لابن رشد تهمٌ أخرى، لعل أبرزها خروجه من الدين بسبب القول بـ “قِدَم العالم” وهي مسألة لابد من التركيز فيها لأن أخذها بسطحية سيدفعنا حتمًا إلى تكفير “ابن رشد” فظاهر القول بقدم العالم أن العالم قديم في مادته الخام أو “الهَيولى” والتي تفسيرها: “الهيئة الأولى” والقِدَم هنا بمعنى الأزلية واللا بداية، فيكون العالم بذلك غير مخلوق بل مصنوع، لأن هيولاه قديمة وصوره متجددة، ولمزيد من الفهم نضرب مثالًا كالتالي: إذا كان العالم قطعة من العجين – مثلًا- فإن هذه القطعة – على قول القائلين بالقِدَم- ليس لها بداية مثل الخالق عز وجل، ويكون ما في العالم من أشياء عبارة عن صور شكلها الله من هذه العجينة القديمة كما يصنع النجار الكرسي من خشب لم يخلقه، وبذلك يصبح العالم شريكًا لله عز وجل في أزليته، غير أن الدارس لتراث ابن رشد الفلسفي سيعرف أنه يؤمن بالخلق وأن الله عز وجل خلق المادة فجعلها قديمة بالنسبة لنا، ولحل هذا المشكل سنستخدم العبارة المعاصرة التي يدرسها طلاب المدارس في مادة الفيزياء “إن المادة لا تفنى ولا تُستَحدث من العدم” بمعنى أن الأشياء المادية الملموسة لا تطرأ بل إنها كانت موجودة وستظل، غاية الأمر أنها تنتقل بين الأشكال، فجسم الإنسان مثلًا كان في الأصل مادة هي “السائل المنوي المتحد مع البويضة” والمكون من “بروتينات وأملاح معدنية” وعند موت الإنسان يتحلل الجسم فيصبح ترابًا فيه أملاح ومعادن وكالسيوم وحديد…إلخ، وهكذا تكون المادة في حالة صيرورة دائمة، أما من جهة أنها في الأصل مخلوقة فهذا ما لم ينكره “ابن رشد” وقد وضح هذا في إجابته على سؤال الخليفة “أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن” كما أنه يعتقد أن المادة سيطرأ عليها الفناء ذات يوم، وذاك حين يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا الاعتقاد بالقِدَم الذي أنكره الغزالي والأشاعرة وشنعوا عليه هو أيضًا اعتقاد “ابن تيمية” حيث قال بالقِدَم النوعي والحوادث التي لا أول لها على بُعد ما بين “ابن تيمية” والفلاسفة؛ إلا أنه اعتقاد لا يناوئ الدين لمن تأمله دون تعصب، وأيضًا يؤيده العلم الحديث تمامًا ويبني عليه علمي “الفيزياء” و”الكيمياء”.
والحق أن المسلمين قد خسروا كثيرًا بالتشنيع على فلسفة “ابن رشد” وهي المعتمدة على العقل والفطرة والدافعة كل من يدرسها إلى احترامها، وهي التي ساهمت في المنجزات الطبية والفلكية لابن رشد، ويمكن القول إن وصم فلسفة “ابن رشد” بالضلال والخَطَل عند بعض الناس اليوم يرجع إلى انتشار المذهب الأشعري واقترانه بالتصوف الطُرُقي؛ حيث درج الأشاعرة على وصم كل من خالفهم بالخروج عن السنة، وعلى “تلوين” العقائد الإيمانية البسيطة، والحديث عنها بشكل غامض فيه غير قليل من التعقيد والالتواء، وقد أوقعهم هذا المنحى في التناقض أحيانًا؛ ومن ثم نراهم يلجأون إلى المنطق لحل ما ينتج من إشكالات تبعًا لهذه النظرة، فهم يفلسفون مثلًا نظرية “الكسب” التي وضعوها لتحاشي الوقوع في الجبر ولم يصلوا إلى نتيجة مع ذلك، ثم نراهم رغم تفلسفهم يكفرون الفلاسفة!
أما “ابن رشد” فكان ينظر إلى الدين على أنه منظومة عقائد واضحة وسهلة وهو لعامة الناس وخاصتهم ومن ثم فلا حاجة إلى فلسفته وتأويله باستمرار؛ ولهذا ألف كتابه الذي سماه “كشف مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والبدع المُضِلَّة” فهو في الواقع يدعو إلى الإقلال من التأويل وليس الإكثار منه، خلافًا لما يشيعه البعض عنه في عصرنا الحالي، فالتأويل عنده يكون فقط لما يتناقض ظاهره مع العقل بوضوح فيضطرنا إلى تأويله، وكان يرى أن الفلسفة للخاصة من الناس فقط وبالتالي تكون لها لغتها الخاصة وتصبح من “المضنون به على غير أهله” وهو الأمر الذي خالفه الغزالي غير مرة – في رأي ابن رشد- وبدا كأنه يحاربها وهو في الواقع متأثر بها جدًا!.
وقد حورب ابن رشد من متكلمي الأشاعرة الذين رد عليهم بعمقٍ وإسهاب، كما حارب فلسفته رجال التصوف “الطُرُقي” الذي أدى انتشاره إلى إضعاف المسلمين وحال دون كل مسعى جاد للارتقاء بهم حضاريًا، فلهذا كان هجومهم على فلسفة ابن رشد والطعن في ديانته أمرًا طبيعيًا، ويكون من الخطأ البيِّن لو اعتقدنا أنهم كان بوسعهم أن يفعلوا مع آراءه غير ما فعلوه، وهم بالجملة أعداء كل فَطِن وخصوم كل عاقل، ولقد شوهوا تعاليم الإسلام وكانوا شارة سوداء على ثوبه الزاهي مما جعل مفكري الغرب ينظرون إليه باعتباره دينًا للتخلف والتعاسة، بل كانت هذه الطرق وبالًا على التصوف نفسه! والمتعمق في تعاليم هؤلاء وأنماط سلوكهم يجد عندهم:
-
نزعة جبرية تفقد الإنسان إرادته تمامًا وتعتبره دمية يحركها القدر.
-
واعتبار العقل طاغوتًا يعبده الناس من دون الله، وقُصارى أمره أن يُستخدَم لفهم النصوص المقدسة، ويقولون “طريقنا لا دخل فيه للعقل”! مع أن القرآن أمرنا بالتفكر جاعلاً من العقل حكمًا وهذا اعترافٌ بسلطانه؛ بل لقد أطلق القرآن فعلًا على الحجة العقلية كلمة “سلطان” في غير موضع؛ فهل ثمة ما هو أصرح من ذلك؟؟ ورغم هذا يتعامل الدراويش مع الإسلام كتعامل بعض أهل الكتاب مع دينهم، فهم يدعون إلى التسليم المطلق دون قناعة العقل والإذعان دون برهان مستدلين بقول القائل: “الله لا يُستدل عليه؛ وإنما يستدل به” وبقوله تعالى “أفي الله شك فاطر السماوات والأرض” وهو استدلال في غير موضعه دون شك.
-
مع تعطيل مبدأ “السببية” وتأثير السبب في المَسَبَّب والقول بدلًا من ذلك باقترانهما فقط! وقد قال الله عز وجل “وجعلنا لكل شيءٍ سببا” فالإيمان بالأسباب لا ينافي الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية، كيف والله عز وجل هو مسبب الأسباب؟؟
-
ومن سماتهم الإمعان في “الميافيزيقا” أو ما وراء الطبيعة، باسم الإيمان بالغيب، ونتج عن ذلك خصومة قوية مع العلم المادي وهي خصومة بيِّنَة وإن أنكروها، والتسليم بأوهام يرفضها الطبع السليم بدعوى أن الكشف والذوق والتجربة يدلون عليها.
-
وقولهم بإماتة النفس أو “الموت قبل الموت” وعدم الاهتمام بالدنيا والمجتمع بأن ينفصل المرء عنهما ويعيش في خلوة مستمرة حتى وهو بين الناس فيما يعرف بـ “خلوة الجلوة” وليس هذا إلا “الفُصام” بعينه، وحسبك أن تجعل نفسك ميتًا وأنت على قيد الحياة؛ فما الداعي إلى حياتك إذن؟؟ هلَّا بحثت عن قبرٍ ودفنت نفسك فيه؟! وما نفهمه أن الدين دعا إلى ترويض النفس وليس إلى محوها تمامًا.
-
كما أنك تجد عندهم رفضًا قاطعًا لأي محاولة إصلاح اجتماعي طموحة بدعوى أن الصوفي لا يشغل نفسه بالناس بل بعبادته لربه فقط وبتنقية نفسه من عيوبها، فأين إذن عبادة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” بضوابطها الشرعية؟؟ وهل في الإنكار على تفشي الأنانية أو البذاءة بين الناس – مثلًا- ما يغضب الله؟ لا شك أن ما يغضبه عز وجل هو عدم الإنكار.
-
وخاتمة الأحزان اعتمادهم على الكتمان وعدم البوح بأسرار عقيدتهم حذرًا من عامة الناس والمتدينين منهم خصوصًا، والسياق هنا لا يحتمل تعداد أقوالهم التي لا مخرج لها في الشريعة ولا وجه محتمل ولا يمكن فهمها إلا بوصفها نوعًا من التطرف والشطح غير المقبول فهم لذلك يكتمونها، وهذا الكتمان هو بعينه ما يسمى بـ “التقية” عند الشيعة.
-
لماذا ماتت الفلسفة الإسلامية بعد “ابن رشد”؟.. بعد كل ما سبق يمكن القول إنه كان طبيعيًا أن تموت الفلسفة الإسلامية الحرة العاقلة بموت ابن رشد، مع سيادة المذهب الأشعري بما فيه من:
-
التكلف والقول بآراء لا يذكرها الشرع ولا يدعمها العقل. فهم يقولون – على سبيل المثال- إن العقل لا يحَسِّن الأشياء ولا يقبحها، وإنما الشرع هو الذي يجعل القبيح قبيحًا حين يحرمه، ومعنى هذا على قولهم أن أكل القاذورات – مثلًا- لم يكن قبيحًا فحرمه الشرع بل لأن الشرع حرمه فهو قبيح! وهذا لا يحتاج منا إلى رد، ورغم ذلك عدوا الخروج على هذا الرأي كفرًا أو بدعة في أقل الأحوال!
-
ضيق أفق أتباعه واحتكارهم للدين والسُنَّة والتشنيع الدائم على الفلسفة رغم الاعتماد الكبير عليها! فلقد كانوا يعولون على “أرسطو” ثم يكفرون أتباعه من المسلمين!
-
كما كان طبيعيًا أيضًا أن تموت الفلسفة بفعل الفهم المشوه للتصوف الذي لازم كثيرين من متأخري الأشاعرة… ويبقى القول بعد ذلك أن “ابن رشد” كان يحترم التصوف الحق ولا ينكره، علمًا بأن هذا التصوف الحق ليس حكرًا على فئة من المسلمين بل هو إحسان العبادة وتهذيب الخُلُق، وبهذا يمكن لأي مسلم أن يكون صوفيًا دون الحاجة إلى الأوهام والتهاويل.
ولا يخالجنا شك بعد مُدَارسة المذاهب الكلامية ومناهج التصوف الإسلامي، أن “ابن رشد” رحمه الله لم يبعد عن الصواب، وأن المتكلمين – كما ذكر ابن رشد- حين أرادوا أن يثبتوا عقيدتنا الإسلامية بطرائقهم المعهودة في الجدل لم ينجحوا في الذب عن حياض الإسلام لقصور ما لديهم من براهين مع كونها عصية على فهم الكثيرين، فلديهم إذن غموض في ظاهر البرهان وقصور في محتواه! هذا في حين أن البراهين المستخدمة في القرآن الكريم – كما يوضح ابن رشد ونتفق معه بالطبع- هي على النقيض من براهين أصحاب الكلام من حيث وضوح العبارة وسهولة الفهم وإحكام الصياغة، وكونها أيضًا أدلة يقينة حاسمة تقطع كل سبيل على الخصم، ويُلاحَظ عليها كذلك أنها تعمد إلى ما يراه الإنسان في الطبيعة من حوله وفي حياته المُعاشة، وهي أدلة تحث على التفكر وترشد الإنسان إلى استخدام عقله من أجل الوصول إلى الحقائق بنفسه، وهذا كله لا يوجد في براهين المتكلمين وبذلك تصبح الإشادة الراهنة بالمذهب الأشعري مجرد صخب دون وعي، وموضة فكرية لا تقوم على صلبها أمام الباحث الجاد، ولا نقطع بأن الأشاعرة لم تكن لهم مزايا؛ وإنما نطالب بالدراسة المتجردة والموضوعية لتراثهم الكلامي دون تقديس.
أما الطرق الصوفية الحالية التي يهاجم بعض أتباعها ممن لديهم اطِّلاع”ابن رشد” فإن كثيرًا منها منحرف عن المسار الأصلي لدين الإسلام، ولو سادت بين المسلمين كما يريد لها البعض فسوف نغرق دون شك في بحرٍ عميق من التأخر الحضاري أكثر مما نحن فيه، وحسبك أنك لا ترى درويشًا من هذه الطرق سعيدًا وناجحًا في حياته الشخصية، فهم عادةً – ما خلا المدعين منهم، والمدعون فيهم كُثُر- لجأوا إلى ما هم فيه بعد أزمة كبيرة في حياتهم، والمدهش أنهم يستمرون في تعاستهم دون أي تغيير، وما يطرأ عليهم بعد التصوف المزعوم ليس إلا نوعًا من البلادة يسمونه “الرضا” مع أن الألم على مستوى الأفراد والجماعات هو أكبر دافع إلى تحسين الأوضاع، والذي يكبت آلامه في داخله بدعوى الرضا هو رجل متصالح مع مصائبه وجالبٌ إلى نفسه المزيد من الخيبات، وباختصار يمكن القول إن التصوف – على هذه الوصفة- هو الخنوع المحقق، ولهذا حاربوا ابن رشد وفلسفته الإنسانية، فالإنسان عند ابن رشد “عبد الله وسيد لكل شيء بعد الله” ولا يعز علينا أن نحضر آياتٍ من القرآن تدلنا على ذلك، وحسبك أن تفتح أول سورة البقرة فتجد فيها “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا” أما عند صوفية الطرق فالإنسان يجب ألا يرفع رأسه بل عليه أن يمحق ذاته، فأي بلاءٍ هذا؟!
-
وأمرٌ هام لا يجب أن ننساه في معرض حديثنا عن “ابن رشد” وهو تأكيده على أن “العقل أعدل الأشياء قسمةً بين الناس” فلا حوار هدفه (الحقيقة) بدون العقل ولا يمكن الوصول إلى معرفة أي شيء من طريق آخر غير النظر العقلي، وهو في هذا يصطدم حتمًا مع القائلين بالكشف وما يسمى برؤية العيان والذين يستدلون بقوله تعالى “واتقوا الله ويعلمكم الله” وقوله “إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا” وغير هذا مما يرون أنه يؤيدهم فيما يذهبون إليه، وحتى نوضح رأي ابن رشد في هذه المسألة نقول: إنه لا ينكر كون التجرد من الشهوات يفيد المعرفة وهو شرطٌ لها، وأن الشرع دعا بالفعل إلى هذه الطريقة وحث عليها ترغيبًا في العمل؛ غير أن هذه الطريقة لا تكفي بنفسها؛ إذ لو كانت وحدها تفي بالمقصود فلا حاجة بنا إلى النظر؛ وإنما أصل المعرفة الإنسانية هو “التعقل” أما الكشف فهو أحد جوائز العبادة وليس عامًا لكل الناس بما هم ناس؛ بل يخص فئة محددة ويأتيهم استثناءً على غير القاعدة من باب المكافأة، ولا يمكن التأكد من صحته إلا لصاحبه فقط، فهو لا يخص أحدًا غيره في الحقيقة، وبالتالي يصبح الاقتصار على الكشف والإلهامات دعوة إلى ترك التفكير وهو فريضة، وإلى ترك التعلم المعروف للدنيا أو للدين من الكتب وعلى الأساتذة، ولا يؤدي هذا حتمًا إلا إلى الجهل والتخلف، ومن هنا ينتشر الجهل جدًا بين أتباع الصوفية فكأن لسان حالهم يقول: “الجهل نور”!
ورغم كل ما سبق من أفكار مستنيرة، إلا أن الغلبة كانت للفقهاء على “ابن رشد” الذي اتهم بالكفر والإلحاد، ومنعته العامة من دخول المسجد مع ولده ليصلي العصر، ونفي إلى “أليسانة” التي كان يسكنها اليهود تحقيرًا له وللزعم بأنه من أصول يهودية، وبالطبع تناسوا أن جده كان كبيرًا للفقهاء في زمانه ورئيسًا للقضاة.
ومع أن “ابن رشد” قد رُدَّ إليه اعتباره بعد مدة من نفيه إلى “أليسانة” وحرق كتبه؛ إلا أن الأثر النفسي للمحنة كان قد نال من صحته النفسية والجسدية ولم يعش بعدها كثيرًا فمات عن عمر 75 سنة، عام 595هـ، وبعده لم تظهر الفلسفة الإسلامية في كتبٍ تستقل بها؛ وإنما اندمجت في “علم الكلام” وكان الذي أدخلها في هذا العلم هو المتكلم الأشعري “فخر الدين الرازي” فبذلك يظهر بوضوح أن الفلسفة الإسلامية بعد ابن رشد اقتصرت على “علم الكلام” وتجدر الإشارة إلى خطأ كثير من الكتاب في أيامنا هذه حيث يقولون أنه عاصر الغزالي ورد عليه، والصحيح أنه ولد بعد وفاة الغزالي سنة الذي مات سنة 505هـ بخمسة عشر عامًا.
ويرى بعض رواد الفلسفة الإسلامية أن رد “ابن رشد” في “تهافت التهافت” لا يكافئ قوة “تهافت الفلاسفة” فقد حمل الغزالي – وهو فيلسوف- على الفلاسفة المسلمين أو “المشائين العرب” حملة منظمة وقوية وحاربهم بسلاحهم وهو المنطق واستخدم كل ما لديه من براعة في فن الجدل فانتصر عليهم وجفف منابعهم في المشرق، ثم جاءت محنة “ابن رشد” فقضت على الفلسفة في “المغرب” وبعده لم تلبث الفلسفة قليلًا حتى دخلت في إطار “علم الكلام” كما أسلفنا، ودخل علم الكلام نفسه في طور الجمود ثم أصبح تراثًا يُراد الآن إحياؤه، وهذا أغرب ما يمكن في عصرنا الحاضر لأن السياق الثقافي الذي أنتج منظومة “علم الكلام” يختلف كثيرًا عن المشاكل الفكرية التي تعرض لنا الآن، ومن ثم يكون إحياؤه كما هو ضربًا من العبث.
وكما جرى إدخال مباحث الفلسفة الإسلامية بعد “ابن رشد” في إطار “علم الكلام” جرى أيضًا إدخالها في التصوف، ويجد الباحث في تاريخ الصوفية فلاسفة لم يتكلموا في التصوف نفسه بقدر ما أوغلوا في الفلسفة مثل “ابن سبعين” و”عفيف الدين التلمساني” ولا يعرف صوفية الطرق اليوم أن في تصوفهم رواسب كثيرة من فلسفة “أفلاطون” و”الأفلاطونية المحدثة” والمدرسة “الغنوصية” وأن تأثير الفكر الكنسي في المسيحية والمشبع بآراء هذه المدارس قابعٌ في نفوسهم وهم يحسبون أنهم على الإسلام الصحيح! على أن التصوف الطرقي سرعان ما حل ارتباطه بالفلسفة النظرية ليعود في الظاهر إلى منهجه السلوكي – كما قيل- أو ليدخل حقيقةً في مرحلة “الدروشة” التي لم يخرج منها حتى الآن رغم كل المحاولات لإنقاذه، وهي محاولات جادة بكل تأكيد لكن ينقصها الإيمان بأن التصوف حقيقةً ليس إلا تربيةً إسلامية تنطلق من الكتاب والسنة وهذا يعني أن إزالة ما دخل عليه من بدعٍ ومخترعات لن تبقي من التصوف الموجود حاليًا إلا أقل من رُبعِه! فقد عرف التصوف الكثير من التنظير الفلسفي الغريب، ومن تأثير أهل الكتاب يهودًا كانوا أو مسيحيين، كما أن هناك تأثير بوذي وبرهمي! وعرف أيضًا فكرة الطرق التي تحولت مع الوقت إلى جماعات وأحزاب مع الطاعة العمياء للمشايخ ومحو شخصية المريد ورأيه المستقل، وما طرأ عليه من أشكال مبتدعة وطقوس مخترعة هي في الواقع تجسيد للأهواء البشرية، وحين تسألهم يقولون: “هي أمور لا تُعرَف دلت عليها التجربة”! كل هذا أَوْهَنَ التصوف جدًا وجعله غير قابل للإصلاح تقريبًا، ولا يقتنع به في وضعه الراهن أي إنسان يحترم عقله وذاته؛ بالإضافة إلى أنه محل هجوم متواصل حتى اليوم وسيظل كذلك فيما يبدو ما لم يبادر منتسبوه إلى إصلاحه بكل همة إن أرادوا، ونحسب أنهم لن يفعلوا، والمؤكد أن الإسلام لا يعرف كل المحدثات التي أُقحِمَت عليه، وهو أوضح وأبسط وفي نفس الوقت أشمل من أن نحتاج معه إلى أية أفكار دخيلة، وهو دين يجمع بين فقه الشريعة وفن التربية، وكلاهما متلازمان يجذب أحدهما الآخر.
إن الفهم السليم للدين وللدنيا هو ما وجدناه في تراث “ابن رشد” الذي يحتاج منا إلى إنصاف وتقدير دون شك. ونريد الآن أن نتحدث عن المنجزات الطبية والعلمية عمومًا لابن رشد حتى نعرف أن منهجه العلمي العقلاني ساهم في حضارة الأندلس، وكان له فضلٌ علينا دون شك.
-
آثار منهج التفكير العلمي عند ابن رشد:
1- كان ابن رشد من أوائل القائلين بـ “المناعة” واكتشف بأن الجدري لا يصيب الفرد أكثر من مرة واحدة؛ إذ يكتسب بعد الإصابة به مناعة تحميه من الإصابة بالجدري مرة أخرى.
2- في إطار علم الفلك نراه يكتشف ما يسمى بـ “الكلف الشمسي” والكلفة هي بقعة على سطح الشمس تتميز بدرجة حرارة حرارة أخفض من المناطق المحيطة بها وبنشاط مغناطيسي مكثف يمنع حمل الحرارة مكونًا مناطق ذات حرارة سطحية منخفضة.
3- أبدع صورة للعين يظهر فيها العصب الواصل منها إلى الدماغ وأدرك بها وظيفة شبكية العين وعملها في الإبصار ، كما أبدع صورة للرئة وصورتين للمثانة والطحال، كل ذلك في كتابه “الكليات”.
4- بين بعض أخطاء “جالينوس” في علم التشريح، وخالفه في الكثير من آراءه؛ مما ينفي عن الحضارة الإسلامية أنها كانت مجرد ناقلة عن اليونان وناقلة لعلمهم فحسب.
5- يعتبر كتابه “الكليات” من أبرز مصنفاته الطبية، وكان معتمدًا في الدراسات الطبية بجامعات أوروبا أثناء العصور الوسطى، وكان قد تُرجِم أولًا إلى “العبرية” ومنها إلى “اللاتينية” في القرن الثالث عشر وتحديدًا عام 1255م في بدوا، ثم طبع في البندقية عام 1482م.
6- أكثر من التأليف في الطب حتى عدَّ له “ابن أبي أصيبعة” في “طبقات الأطباء” أكثر من خمسين كتابًا، وكان جيد التأليف حسن العبارة في وضوحٍ وإفهام مع الدقة واستخدام المنهج العلمي، وقد شرح أرجوزة ابن سينا في الطب والمسماة بـ “ألفية ابن سينا”.
7- عرف بالحساب الفلكي وقت عبور كوكب عطارد على قرص الشمس، ومشاهدة البقع السوداء على هذا القرص في الوقت المعين، وهذا ما لا يقدر عليه إلا كبار الرياضيين الفلكيين في عصرنا الحاضر.
-
صنف “ابن رشد” كثيرًا في الطب؛ ومن ضمن ما كتب: “مقالة في الترياق” و”تشخيص الحميات لجالينوس” و”مقالة في أصناف المزاج” وتعرف اختصارًا بمقالة في المزاج، “مسألة نوائب الحُمَّى” وكتاب “شفاء الأسقام ومدى الأيام” وكل هذه الكتب مخطوطة ومحفوظة في بلاد غير عربية!
-
يعد “ابن رشد” ظاهرة “علمية” جديرة بالدراسة من قبل باحثين جادين، مع الاهتمام بالتركة العلمية التي خلفها لنا، وتعريف القراء بالنشاط العلمي لابن رشد بجانب كونه فيلسوفًا، أما الضجيج الإعلامي والشعارات التي عهدناها ممن يطلق عليهم لقب “التنويريين” والتي تظهر “ابن رشد” بوصفه “مفكرًا علمانيًا” من نوعية كُتاب الأعمدة في صحفنا اليوم، فهي قوالب جوفاء تدل على عدم قراءتهم لمشروع ابن رشد العلمي، ولفلسفته التي جاهد فيها من أجل إثبات عدم الخصومة بين العقل والنقل، وأن “اتصال العقل بالشريعة” ليس محلًا للنزاع أو المناقشة.
-
كما أن هناك حقيقة هامة ومؤسفة في نفس الوقت، وهي أن المتسمين بالعلمانية في بلادنا لو قرأوا فلسفة “ابن رشد” أو أعماله الطبية لما فهموا منها حرفًا لِما يغلب عليهم من ضعف الحصيلة العلمية وضحالة مستواهم الفكري، وأيضًا لأن أسلوب “ابن رشد” في التأليف رغم سهولته – نسبيًا- إلا أنه في النهاية “أسلوب تراثي” يحتاج إلى معرفة جيدة باللغة العربية أولًا، وبالأسلوب الذي كان يصنف به العلماء في العصر الوسيط ثانيًا، وهذا ما لا يسعف “مدعي التنوير” بالطبع ولذلك يبقى كلامهم عن “ابن رشد” مجرد شقشقة لسان من أجل الاستهلاك الإعلامي.