*د. فتحي المسكيني
نُفي ابن رشد سنة 1195 إلى أليُسانة، وهي بتعبير الإدريسي «مدينة اليهود»، ومن الطريف أنّ وصف الإدريسي لها يشبه وصفاً رمزيّاً لنمط وجود الفيلسوف في مدينة الملّة في آخر عصورها. قال:» اليُسانة وهي مدينة اليهود، ولها ربض يسكنه المسلمون وبعض اليهود وبه المسجد الجامع، وليس على الربض سور، والمدينة مدينة متحصنة بسور حصين ويطوف بها من كل ناحية حفير عميق القعر والسروب وفائض مياهها قد ملأ ذلك الحفير، واليهود يسكنون بجوف المدينة ولا يداخلهم فيها مسلم البتة، وأهلها أغنياء مياسير أكثر غنى من اليهود الذين ببلاد المسلمين، ولليهود بها حذر وتحصن ممن قصدهم» (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق).
نُفي ابن رشد إلى مدينة «الآخر» اللاهوتي للملة، وهو مكان حيث توجد حدود قاسية بين من هو «منّا» ومن هو «ليس منّا»، و»حصن» يحمي الداخل، و»حفير» يحمي من الخارج، وحيث يسكن أناس لا يمكن «مداخلتهم»، وهم «أغنياء» عن غيرهم، وبهم «حذر» ممّن يقصدهم.
وعلينا أن نسأل: هل تمّ اختيار «اليُسانة»، وهذا النوع من المكان بالذات، من أجل إعطاء عمليّة «نفي الفيلسوف» ملامح معيّنة؟ لماذا تمّ استعمال «الآخر» الديني كمكان لنفي ابن رشد ؟ هل يفترض ذلك أنّ الفيلسوف هو «آخر» نموذجي لا يشبهه إلاّ الآخر الديني؟ وأنّ نفيه لا يمكن أن يتمّ إلاّ بواسطة جهاز الغيريّة الذي تتوفّر عليه ثقافة ما؟
المنفى.. قدر الفلاسفة
طبعا. بين الفلسفة والمنفى صلة رحم سابقة. نفى أرسطو نفسه إلى أثينا طوعاً بعد أن اتُّهم بالتجديف. وللقدماء تراث أخلاقي حول مقام المنفى. قال سيناك:» ليس ثمّة ما يخسره المرء في المنفى، فمن أيّ جهة نظرت إلى السماء تكون المسافة هي نفسها بين ما هو إلهيّ وما هو إنسانيّ.» ولقد عانى من المنفى عديد الفلاسفة مثل هوبز وروسو وماركس وأدورنو ونغري… لكنّ دور الاسم العظيم هو أن يقف على الحدود الأخلاقية بين عقول الإنسانية: أن يدعوها إلى نادٍ واحد من أجل صداقة كونية. وأن يجمع بينها حول مائدة العقل. إنّ المنفى جزء من الانتماء إلى الإنسانية. وبقدر ما يمتلك مفكّر ما من حظوظ الكونيّة هو يمتلك من إمكانات المنفى.
ولكن ماذا يتبقّى من فيلسوف عندما يتحوّل لدى الأجيال اللاحقة إلى أيقونة للمنفى؟ – ثمّة منفى أو هالة غربة تحوم حول الأسماء الكبرى للعقل البشري في أيّ ثقافة. «أفيرواس» (Averroès) هكذا سمّاه اللاتين المسيحيون. إنّ اختلاف لهجات البشر في نطق الأسماء نفسها ليس مصادفة. هو فقط طريقة عجيبة في رسم المسافة الفاصلة بين اللغات والعصور والشعوب. -كان تحوّلُ اسمه من «ابن رشد» إلى «أفيرواس» علامة على شيء أخطر من مجرّد النطق اللاتيني بلفظ عربي: كان علامة على تجريد ابن رشد من شخصيته التاريخية (العربية-الإسلامية) وتحويله إلى أيقونة فلسفية بلا ملامح ثقافية (إذْ أطلقت عليه اسم «الشارح الكبير»). كان ذلك إطراءً مسموماً أو «كولونياليّاً». كان نوعاً من السيطرة الرمزية على خطورة «الشخصية» بواسطة منطق «الفلسفة»: أن تكون «مشروحة» بشكل أمين. لكنّ «الأمانة» هي أضعف انفعالات الفلاسفة. إنّ قدرهم لا ينحصر في نصوصهم.
سرّه في شخصيته
في بعض الأحيان تكون شخصية الفيلسوف أهمّ أو أكبر من فلسفته. ويكون أثره في ضمير الإنسانية أعظم من تعاليمه ومن تلاميذه. وذلك ما ينطبق على ابن رشد بشكل يكاد يكون مؤلماً. إنّه شخصيّة التقطتها أوروبا عندما انحسر أفقها في عقر داره. ونصّبت بها عالماً للفلسفة التي تحتاجها في مكان آخر. ليس هذا خطأً تاريخيّاً بل هو جزء من قدر الفلاسفة: إنّهم مقامات جيّدة للمنفى خارج اللغة الأم والثقافة الأم. هو منفى نادر واستثنائي ومن دون طلب مسبق: ذلك الذي يحوّل فيلسوفاً إلى اسم علم إنساني أو كوني.
ابن رشد شخصيّته أكبر من فلسفته. في فلسفته كان شارحاً كبيراً؛ هو من حوّل شرح أرسطو إلى مهمّة فلسفيّة قائمة بذاتها. وهو من علّم أوروبا (بداية من 1225) كيف تقرأ أرسطو، أي كيف تفكّ شفرة العقل البشري في العصور القديمة. قال أحد أكبر المختصّين في فلسفة العصر الوسيط، آلان دي ليبرا، في نصّ يحمل عنواناً لافتاً هو «معكّر الأعراس»:» من 1230 إلى 1600، وطيلة أربعة قرون، جسّد ابن رشد، جنبا إلى جنب مع أرسطو، معنى العقلانيّة الفلسفيّة في الغرب المسيحي». تلك التي من رحم المناظرة الشرسة معها، ومع أجواء العرس المسيحي في العصور الأغسطينيّة، تمخّضت إشكاليات الأزمنة المسمّاة «حديثة».
لكنّ شخصيته أخطر من مجرّد شارح كبير لأوروبا الخارجة من عصرها الوسيط نحو الأزمنة الحديثة: إنّه تحديدا من تجرّأ على أن يفكّر في أفق دولة الملّة بواسطة العقل البشري كما التقطه من نصوص أرسطو. لم تهتمّ أوروبا بابن رشد الذي يهمّنا. هي حوّلت منفاه الفلسفي إلى وطن تاريخي جديد لمهمّة الشرح الكبير للعقل البشري كما أمسك به اليونان. لكنّها ما لبثت أن طاردت شبحه في كلّ مرّة يتمّ فيها نزع القناع عن وجهه الفلسفي الخاص وانكشاف قصده السرّي، نعني تحرير العقل في أفق الملة التوحيدية، وذلك منذ مقالة «ضدّ ابن رشد» في القرن الثالث عشر (توما الإكويني، 1270) إلى كتاب «ابن رشد والرشدية» (أرنست رينان، 1852)، مروراً بشتّى الإحالات العدائيّة على اسم ابن رشد من قبل فلاسفة أوروبيين (لاسيّما ليبنتز في «محاولات في العدل الإلاهي»، 1710).
نفي من نوع آخر
في واقع الأمر نُفي ابن رشد مرّتين: نُفي في حياته من طرف سلطة الملّة التي أنصتت إلى الفقهاء في الحكم على حقيقته؛ ثمّ نُفي بعد موته من طرف سلطة الآخر اللاهوتي لتلك الملة عندما حصرته في مجرّد مهنة «الشارح الكبير» وحاربت أيّ استعمال فلسفيّ له في فهم ماهية الدين المسيحي. لم يكن قدراً مختلفاً كما نظنّ بل هو هو منطق الملة في كلّ مكان: على الفيلسوف أن يظلّ مجرّد «شارح كبير» وأن لا يتحوّل أبداً إلى شخصيّة منّا أو تنتمي إلينا من الداخل أو تخاطبنا. ولذلك لا يمكن تحمّل الفيلسوف إلاّ بوصفه «آخرا» أو «غريباً» أو «أجنبيّاً»؛ وذلك يعني : لا يمكن تحمّله إلاّ وهو يلبس جبّة المعلّم «الكوني» الذي لا يتوجّه بحقيقته إلى أحد. لا توجد «نحن» جماعيّة يمكن للفيلسوف أن ينتمي إليها من دون حرج ما. وابن رشد كان أكبر حرج أخلاقي واجهته ثقافة الملة: إنّه ينتمي إليها بشكل مزعج، هو فقيه أو قاضٍ في نظام خطابها، ومع ذلك هي لا تتحمّله إلاّ في مهنة «الشارح الكبير» فحسب. وبمجرّد أن يُتقوّل عليه في أيّ شأن يهمّ حقيقة الملّة التوحيدية، هو ينقلب إلى عدوّ جذري. أي إلى جهاز «منفى» على سلطة الملة أن تدفع به خارجها: إلى حيّز «الآخر» الأقصى.
المنفى إذن هو مقام التفلسف بامتياز. إنّك لن تتفلسف إلاّ بقدر ما تستعمل عقلك في شكل منفى ما، على نحو حدودي، في «خارج» أخلاقي بلا ملامح ثابتة. تنزعج أيّ سلطة مستبدّة بالحقيقة من وجود الفيلسوف في نطاقها. وكان ابن رشد رمزاً نموذجيّاً لهذا النوع من المنفى: تحتاجه دولة الملّة كي «يشرح» لها ما استغلق من كلام الأوائل، لكنّها لا تستطيع تحمّل «رأيه» عندما يشارك في العناية بالحقيقة من دون ضمانات مسبقة.
في واقع الأمر لم يكن ابن رشد فيلسوفاً بالمعنى الحديث: هو ليس له إشكالية مبتكرة أو حدس أصلي لا يشاركه فيه أيّ فيلسوف آخر أو تأويل لمعنى الكينونة في العالم لم يُسبق إليه. ولم تخطئ أوروبا في نعته باسم «الشارح الكبير». ولابدّ أنّه يفرح به ولا يرى فيه أيّ استنقاص لمرتبته. لكنّ ابن رشد له مفعول رمزي آخر تماماً بالنسبة إليه، نحن الذين ننحدر من سلالة التوحيد الشرقي. ولسنا يونانيين أو غرباً إلاّ عرضًا كونيّاً فحسب. إنّ ابن رشد الذي يهمّنا هو الشخص وليس الشارح. إنّه شخص نموذجي عن نوع من المفكّرين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة ثقافة الملّة على نحو لم يعرفه اليونان ولا أرسطو نفسه. ولذلك فإنّ نموذجيّة ابن رشد أخطر من كلّ شروحه على أرسطو. إنّه بطل أخلاقي، وليس منظّراً. وبهذا المعنى فإنّ منزلته الأكثر طرافة ليس اختتام طبقات الشراح في العصر القديم بل لكونه يوجد في وسط سلسلة فلسفية خطيرة جدّاً تمتدّ من القدّيس أغسطينوس إلى الغزالي، ومن الفارابي إلى سبينوزا وكانط، ومن المعرّي إلى كيركغارد ونيتشه: إنّها سلسلة تفكيك خطاب الملة والتمرّد البنيوي على حقيقة السلطة في أفقها. ربّما سُمّي هذا التقليد الطويل باسم «التنوير»، لكنّ التنوير بحصر المعنى هو تقاليد «حديث» ومن ثمّ يقوم على «علمنة» القيم المسيحية دون سواها. لكنّ تفكيك خطاب الملة مهمّة لا يطالها التنوير وإن كان يدّعيها بكلّ قوة.
في مكانه
لا يُقال إنّ ابن رشد لم يعد إذن من المنفى.- لكن علينا أن نقول إنّه لا يمكن أن ننفي إلاّ ما ينتمي إلينا. وحين نُفي ابن رشد إلى اليُسانة أو إلى أوروبا فهو قد حمل المكان معه. إذْ لا يمكن تجريد أيّ كان من مكانه. والفلسفة سياسة مكان لا يمكن لأيّ دولة أن تؤقلمها (في المعنى الذي افترعه دولوز). الفيلسوف في مكانه دائماً. تحتاجه الدولة كي تفكّر لأوّل مرّة. لكنّها سريعاً ما تنزعج من مفعول الحقيقة الذي ينبجس منه. لا يقصد الفيلسوف أكثر أو أقلّ من مفعول الحقيقة الذي ينتج عن وجوده في أفق ثقافة ما. إلاّ أنّه غير مسؤول عنه إلاّ عرضاً. ثمّة شكل من الحياة يريد أن يظهر حين يأخذ فيلسوف ما في التفكير في أفق شعب لم يفكّر على هذا النحو من قبل. كانت دولة الملّة هي التي احتاجت لابن رشد كي تفهم أرسطو، كي تفهم ما يتخطى نوع العقل الذي قامت عليه. لكنّ شرح أرسطو كان أكثر من آمال دولة الملة وأخطر ممّا احتاجت إليه من الوضوح. لذلك عوقب ابن رشد لأنّه قبِل أن يساعد دولة الملة على التفكير وفشلت في تحمّل مساعدته. بيد أنّه ليس ثمّة أيّ شيء شخصي في ما يقوله فيلسوف ما عن الله أو عن العالم أو عن النفس. ولذلك فإنّ محاسبة الفلاسفة كما لو كانوا أشخاصاً هو تهكّم أسود على النوع البشري. كثيراً ما يُلام الفيلسوف على عدم ظهوره. ولكن ماذا أعددنا له حتى يظهر بيننا؟ ابن رشد كان مرتبة أو موجة عليا من أنفسنا القديمة، وليس ما يدلّ على أنّنا احتفظنا بها لوقت طويل. وعلينا أن نسأل مرة أخرى: أيّ ضيافة يحقّ لنا أن نعده بها؟.
________
*الاتحاد