ميلودراما رواية “غابات الإسمنت” للعراقية ذكرى لعيبي

(ثقافات)

ميلودراما رواية “غابات الإسمنت” للعراقية ذكرى لعيبي

 صالح الرزوق

مع أن رواية “غابات الإسمنت”* للعراقية ذكرى لعيبي تحذرنا منذ أول صفحة أنها تحتوي عبارات قوية خادشة للحياء لم أسجل كلمة بذيئة واحدة.

وبالعكس تبدو الرواية كلها منضبطة وتستعمل مفردات وتصورات تحت الخط الأحمر. بمعنى أنها تحترم التقاليد التي وجهت لها سهام النقد اللاذع  و استهدفتها بالهجاء والتجريم.

تدور الحبكة حول حكاية إنعام التي تقتل زوجها المتلبس بالخيانة الزوجية، ثم تودع في سجن النساء، وهناك تتحول إلى خليلة لابتسام مديرة السجن. وخلال هذه المحنة لا يصدمنا في الحقيقة سوى حجم بركة الدماء في المشهد الافتتاحي، ثم حجم اتساع بركة الأكاذيب التي تغمر حياة السجينات.

وبالنسبة لمجتمع مغلق يتعايش مع الذنوب والأخطاء يجب أن نتوقع ألفاظا نابية تعبر عن حالة القلق والفوضى. ولكن أبعد ما بلغته الرواية هو تصوير مشهد حميم ببن ابتسام وإنعام، وفيه تتعرى الواحدة أمام الأخرى وتلعق أصابع قدمها أو باطن كفها، أحيانا توجد قبلة أو لمسة خفيفة أو ضغطة أقوى للصدر. وإذا قارنا هذه اللغة مع لغة رواية حداثية مثل “يا كوكتي” لجنان حاسم حلاوي، أو بلغة مصادر تراثية تابعها عبد الله الغذامي في كتابه “ثقافة الوهم” سنلاحظ أن ذكرى لعيبي أكثر بيوريتانية في تصوراتها عما يجري في المخادع، وأعتقد أن ما يدور في ذهنها هو ديكور المجتمع المخملي، وربما فانتازيا النصف الأعلى منه، فقد كانت تسعى للصعود باستمرار على سلم النفاق الاجتماعي. وبعد  معاشرة النقيب ابتسام تعاشر رئيس غرفة التجارة. وأخيرا تتطوع للعمل في المخابرات، وتسافر إلى لندن، وتنشط في فنادق الخمس نجوم، وبين كبار السياسيين ورجال الأعمال (وتقول عنهم من له ثقل ووزن).  وتبدو لي صورة إنعام وهي في هذا المستنقع الآسن كما لو أنها حواء خبيثة وظيفتها الكيد لآدم حتى يأكل من تفاحتها ثم يتمرغ في وحل الواقع. بمعنى أنها كانت فخا محكما لصيد الرجال الناجحين.

وفي هذا الجزء من الرواية تأخذ العلاقات منحى ميلودراما فجائعية، وتذكرنا بسيرة “نانا” بطلة رواية إميل زولا، فهي معبودة الرجال، ولكنها لا تخلص لأحد، وتبدل رجلها كما تبدل حذاءها. ويبرر زولا هذا الانحطاط الأخلاقي بثنائية الفقر والرغبة، أو بلغة أوضح باستثمار ما يمكننا إدارته حتى لو أننا لا نتحكم به.  وهي نفس حبكة “مداعبة الفرج” Tipping the Velvet لسارة ووترز. فبطلة الرواية تهرب من ظروف عائلتها وتلقي نفسها في أحضان امرأة عاشقة للمراهقات، وهكذا تسقط من حفرة الفقر إلى حفرة الرذيلة.

ولكن تخلو شخصية إنعام من هذه الدوافع، وتركز على سلوك انتقامي. وإذا قتلت زوجها بالرصاص فهي تغتال عشاقها بالمكر والخديعة، وبعد سقوط كل رجل تشعر بالطهارة، كأن الرجل رسوبيات كونية، تفرض نفسها على جنة النساء، حتى أنها تتبنى إيديولوجيا نسائية تبرر ابتزاز الذكور ثم التخلص منهم. وهو ما يتكرر في حكايتها مع رئيس غرفة التجارة، ثم مع زوجها الثاني عبد الحق الذي استعارت منه الحيامن للإخصاب قبل أن يلقى حتفه في حادث سير. كانت انعام أشبه بجيش نسائي يتبع سياسة الأرض المحروقة مع جمهورية الرجال. وبتعبير آخر طبقت إيديولوجيا: اضرب – تقدم- احرق. وهي إيديولوجيا دموية وأحفورية، تؤمن بالدور المطلق للأم الإلهة وبسلطتها على أبنائها الكبار – الرجال أو الذكور.

وتوجد إشارات متعددة على أنانية ونرجسية إنعام، فقد كانت سجينة مدللة – إحدى بدائل شخصية “الطفلة الخبيثة” بطلة رواية ماريو بارغاس يوسا، ولذلك كان يسمح لها بارتداء بذة مديرة السجن. كما أنها محظية لمديرة السجن وتزورها في بيتها وتحتل مخدعها. بالإضافة إلى أنها صورة عنها، وحينما ترتدي البذة وتنظر بالمرآة ترى أنها اثنتين في واحدة، هي إنعام وابتسام، وهي سر سعادة ابتسام أيضا. ص85 بتعبير آخر هي مكافأة وعقاب.  ولذلك تقول لها ابتسام في لحظة مكاشفة: أنت إلهة ص85.

وابتداء من هذه النقطة ينتقل الغرام المدنس إلى شعور بالتعاطف، وتخرج النظرة من العين لتدخل إلى الوجدان والقلب، وكأنها تعيد سيرة العاهرة ذات القلب الذهبي، وهي  إحدى أهم شخصيات عصر الإصلاحات الكبرى الذي واكب الثورة الصناعية. ولكن إنعام من نتاج عصر العولمة والشركات متعددة الجنسيات لأنها دون حدود جسم واضحة، ودون قيد أو ما يسمى بلغة الموظفين سجل مدني. وقد ألقت بها ذكرى لعيبي على مسرح الأحداث بهيئة امرأة ليس لها أب أو أم، وأيضا ليس لها قبيلة، بمعنى أنها دون أولاد. وابنها الوحيد الذي تنتهي الرواية قبل ولادته لا يزيد على أنه جنين أو بطن منتفخة. فهو أيضا حاضر وإنما دون قيد أو سجل مدني. وأضيف لذلك أن جذور إنعام كلها مدفونة تحت طبقة كتيمة من النسيان، كما أننا دون أي تصور عن ماضي أبويها وزوجها. وهذا ما يرشحها لتكون بداية ونهاية، أو إلهة يبدأ عندها التاريخ، وبالضرورة ينتهي بها. وهي صورة تعود لعصر الإمبرياليات الكبرى وتأسيس الرواية التي تتطور مع أخبار المعارك والفتوحات وما يتبعها من اكتشاف للأرض وما فيها من كنوز. وتبدو ذكرى لعيبي مخلصة لهذا المبدأ حينما تتناوب على إنعام أطوار أسر وحرية، ثم تعقبها حقبة التلصص بعد الانضمام للمخابرات، ويتخللها تصوير السهرات الماجنة التي تنعقد في بيوتات الأكابر. وبهذا الجو يبدو كل شيء مزيفا ومرذولا، حتى أن انعام تنظر لجسدها باشمئزاز وكره ص204، ولا ترى فيه غير ندوب وأطياف من مروا فوقها وقتلتهم أو تخلصت منهم ص203. ولكنها أيضا تلاحظ وجهها الأسود في المرآة وتقول عنه: يبدو كأنه الإله بجبروته وعظمته ص204.

وأرى أنها مبالغة وثنية عجيبة. ولكن لاحظت مثلها جولاندا غواردي في دراسة مفصلة عن سمر يزبك وصبا الحرز وزينب حنفي، وقدمت دليلا آخر يؤكد أن المرأة وأدبها هما صناعة ذكورية بامتياز. حتى أن أساليب الغزل ووصف الأجساد العارية عند المرأة لا تختلف عن المعايير التي سنها الأدباء الذكور. وأي مقارنة بين ما ورد في هذه الروايات عن جمال المرأة وما ورد في أعمال أدباء ذكور مثل هنري ميلر تشير إلى أن المنبع واحد. فالكلام في الحالتين يدور على البطن الرقيقة والساق الطويلة والصدر الناهد، وقلما تجد شيئا آخر له علاقة بإستاطيقا المرأة حينما كانت هي ربة الأسرة. وكذلك تخلو الأحداث من الامتطاء ومرادفاته (بالطريقة التي تجدها في “مداعبة الفرج” لوترز. فهي تستعمل السيور الجلدية لتحل محل القضيب. وأعتقد أنها حالة سادية تعبر عن  الفحولة – و الهيجان الإجرامي بدرجة تتساوى معها إرادة الإذلال مع المتعة – وفي ذهني أيضا عدة نماذج بهذا السياق ومنها قصة “الخيل والنساء” للعجيلي  وبعده رواية “الارتياح للغرباء” لإيان ماك إيوان. وكلا العملين يدور في طقس مقابر macabre  يعود بنا إلى فجر الخليقة حينما كانت التضحية بالضعيف ضرورية للتقرب إلى الإله القوي).

وأخيرا لا بد من الإشارة أن غزل النساء العربيات متشابه مع حفلات العربدة بين الذكور في الأدب الأوربي، كما هو حال “أمهات وأبناء” للإيرلندي كولم تويبين. لكن الأمر ليس كذلك في الرواية العربية، ومن أمثلتها “شارع العطايف” لعبدالله بن بخيت. فبطلات لعيبي تتبادلن العطف والمحبة مع قليل من النشوز الذي لا يرقى لما يزيد على الدلال أو الجفاء المؤقت، ولكن عند ابن بخيت تكون الحالة بالإرغام والقسر، ويتبع ذلك إحساس بالزهو عند الفاعل وإحساس بالهوان والذل عند المفعول به، وهو ما يؤكد مجددا أن أخلاق الرجال لم تدخل في غسالة العولمة بعكس أخلاق النساء كأن النسوية مسألة كوكبية ولا علاقة لها بالهوية أو الحضارة أو الثقافة، وما هي إلا إعادة اكتشاف لنماذج بدئية طمرتها في وعينا الباطن الثورات المتلاحقة، والتي بدلت وجه حياتنا عدة مرات.

*دار الدراويش للنشر والترجمة. ألمانيا. 2023. /2018ص.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *