أقدام أم جذور؟

(ثقافات)

أقدام أم جذور؟

كتابة وترجمة: ميادة خليل

تنامى التوجه إلى الفلسفات الكلاسيكية في العقد الأخير، وبالأخص الفلسفة الرواقية. لأنها تتبنى مفاهيم أخلاقية يحتاجها الإنسان المعاصر لإعادة التوازن إلى حياته، ولجعل الحياة قابلة للعيش وفقاً للفيلسوف وأستاذ علم النفس الدنماركي سڨيند برينكمَن. تناول برينكمَن في كتابه “الصمود تحت كل الظروف وأن تبقى نفسك”* أهمية الثبات والفضيلة في حياتنا للتخفيف من أعبائنا. فالجذور هي الثبات، والأقدام هي التقلُّب.

تفرض “الحضارة المتسارعة” كما يسميها برينكمَن امتلاك أقدام رمزاً للتغيير المستمر، وتحقيق أكبر قدر من الأهداف في أقصر وقت ممكن، ومواكبة تطورات لا نهائية. تعالى سقف الطموح وابتعدنا عن محيطنا وواقعنا، وارتبطنا أكثر بوهم الدعايات والشخصيات المؤثرة وأزدادت حاجتنا إلى مدربين وكتب تنمية لتساعدنا على فهم أنفسنا. فالدعاية هي “شِعر الرأسمالية؛ المكان الذي تختبأ فيه الهياكل اللاواعية ورمزية المجتمع”.

يصعب على الإنسان المعاصر تحمل إقامة علاقة جادة وطويلة، لأن علاقاته تحكمها المشاعر؛ المهم هو تجربة المشاعر، والآخر مجرد وسيلة للتنمية وليس هدفاً بحد ذاته. أصبحت قدرة “الحداثة السائلة” على التحرر من الجذور ولو نسبياً متفردة وإنسانية في عصرنا.

“فكرة إن الإنسان المعاصر لديه كل شيء، مجرد وهم يصدقه الجميع” ووفقاً لهذه الفكرة يكون الذنب ذنبك إذا لم تحقق النجاح المرجو منك. لذا “ليس غريباً بحث الكثير من الناس عن تشخيص نفسي يحررهم من شعورهم بالذنب نتيجة معاناتهم عجز شخصي”. أسس مدربو التنمية البشرية لما أسماه الكاتب “عقيدة الأنا”، فهم يساعدون الزبون على معرفة نفسه وما المناسب له. “مفهوم الصداقة أصبح قديماً، وتم استبداله بمفاهيم أخرى مثل: شبكة التواصل. صارت الصداقة نوع من الرأسمالية الاجتماعية”. كل ما تحتاجه هو صديق حقيقي، شلة أصدقاء، وليس مدرباً.

 كلما شعرنا بالشك في هذا العالم المضطرب توجهنا إلى دواخلنا لننجو، لنظل ندور في الحلقة المفرغة نفسها، لأن لا شيء في الداخل، المشكلة تكمن خارجنا. كما أن التضارب في أشكال فلسفة الحياة في عصرنا جعل الثبات صعب للغاية. ففي مجال التغذية والأنظمة الصحية والتمارين البدنية، على سبيل المثال، ثمة معتقد متغيّر دوماً؛ تتجدد هذه الأنظمة باستمرار وتحدد بدورها ما يتبعها ويعيش بعدها. الأدمان على نصائح المطورين والمعالجين النفسيين وخبراء وكتب التنمية ودليل السبع خطوات التي تدعم التطور الذاتي في ازدياد وتتصدر مبيعات الكتب.

يقول برينكمَن عن كتابه:”هذا الكتاب هو من الكتب المعادية للمساعدة الذاتية. كتاب يساعد على العيش في الحضارة المتسارعة مع الفلسفة الرواقية الكلاسيكية” التي تهتم بالسيطرة على الذات والاسترخاء، وتقدير وإدراك التزاماتنا. يمكن لهذه الفضائل منح سعادة أعمق من التنمية والتغيير المستمر.

الرواقية تقليد أساسي في الفلسفة الغربية، وهي فلسفة حياة من اليونان القديمة والامبراطورية الرومانية لاحقاً. ومبادئها بسيطة: التخيّل السلبي، معرفة العوائق والتعايش معها، ضبط النفس وكبت المشاعر، التفكير بالموت والاسترخاء.

“باختصار: هذا الكتاب موجه إلى القارئ الذي يبحث عن صوت مضاد لكل عبادات حتمية التنمية في حضارتنا المتسارعة”.

لا تنصت إلى صوتك الداخلي

 انصت إلى صوتك الداخلي واعرف نفسك أو ثق بحدسك من أكثر العبارات شيوعاً وخطورة في عصرنا لسببين: لن تسمع شيئا مهما حاولت، ولإيمانك بأن إجابة ما في انتظارك. وكلما زادت العلاجات تعاظم شعورنا بالمرض. “عليك تعلّم النظر إلى الخارج والانفتاح على الآخرين، والحضارات والطبيعة من دون النظر إلى داخلك. ينبغي ألّا تترك المفتاح تحت تصرف ذاتك فيما يخص الأفكار الأساسية عن الكيفية التي يجب أن تعيش فيها حياتك”. فالحاجة إلى التشفي والإنصات إلى الحدس ينتهي عند معرفة أن لا شيء في الداخل، “لن تجد الإجابة إلا في الواقع مهما كان مجنوناً”. يعد روسو أول من دعى في عصره إلى أهمية الإنصات إلى داخلك وإيجاد نفسك.

فلسفة الثقة بالحدس حفزّت وطوّرت الكثير من المشاعر.  لأن الإنسان هو من يمنح المشاعر معنى وليس العكس، “نحن بشر ولسنا آلهة، والبشر يتوجب عليهم التأقلم مع العالم الخارجي”. كما أن الحدس أو الشعور الغريزي ليس ذكياً. ذكر ماركوس أوريليوس في كتابه “تأملات” إن التعود على الانصات إلى حدسك سيجعل من الصعب عليك معرفة المطلوب منك في حالة معينة. لذا لا تتخذ قراراتك وفقاً لما تشعر به.

تولدت فكرة تغيير المجتمع وكسر التقاليد وتحرير الذات من تلقاء نفسها أثناء ضغوطات إعادة بناء المجتمع. أنسنة أماكن عملنا أو التنمية الذاتية عبر العمل تبدو أنها تؤدي إلى طريقة مماثلة لـ “صهر الشخصية” التي عرفها الباحث الاجتماعي ريتشارد سينيت. “المناشدة المستمرة في عصرنا بوجوب أن يكون الإنسان خلاقاً ومبادراً ويتفوق على ذاته هدفها تكريس هذه الفوضى”.

ينصح الكاتب بفعل عمل تكره القيام به لأسباب لا علاقة لها بما تشعر، أو ما أطلق عليه الرواقي المعاصر ويليام إيرڨين “برنامج عدم الارتياح التطوعي”. كي تتدرب على الاستعداد العقلي لما هو أسوء، وتقلل من خوفك مواجهة الصعاب مستقبلاً.

ضبط النفس فضيلة أخلاقية رواقية أساسية، “قم بعمل ذا قيمة أخلاقية، حتى لو لم تشعر إزاءه بالارتياح” كأن تعتذر لشخص رغم شعورك بالخجل. يؤمن الرواقيون بأن قوة الإرادة يمكن تدريبها مثل العضلات.

ركز على الجوانب السلبية في حياتك

يصوّر المجتمع المعاصر السلبية على أنها خطر، فليس من حقك أن تفكر وتتحدث كما تشاء حول الغلاء والطقس وكل ما يزعجك. وليس القصد الشكوى المتواصلة حول كل صغيرة وكبيرة في حياتك. إنما المزعج عدم امتلاكك حق التذمر. فالتركيز على السلبيات يمنحك فرصة معالجة المشاكل والامتنان. إذ يستحيل حل جميع المشاكل أو التعبير عنها بإيجابية، لذا تجرأ على النظر إلى الجوانب السلبية في حياتك، لأنك إن عرفتها تمكنت ربما من تغييرها، وربما لا، وعندئذ عليك تقبلها.

انتقدت عالمة النفس باربارا هيلد في كتابها “Stop smiling, start kvetching” استبداد الإيجابية وعدّتهُ شكل من التقبل النفسي الشعبي لمفهوم تقبل المشاكل على أنها “تحديات مثيرة”. تقدم هيلد بديلاً عن الإيجابية: التذمر. لأن الحياة ليست رائعة تماماً وهناك دوماً ما يدعو إلى التذمر. “الحياة شاقة، وهذه ليست مشكلتنا. إنما المشكلة في إجبارنا على التصرف كما لو أن الحياة ليست كذلك”.

يذكر سينيكا في رسائله إلى مارسيا: “كل شيء يمكن حدوثه في يوم ما، قد يحدث اليوم”.

لكي تتمرن على ذلك؛ فكر في فقدان شخص عزيز، تخيّل ذلك. أو تخيّل أنك مُت.

أرتدِ قبعة كلا

 

لا تتطلب منك الاستقامة ملاحقة آخر صيحات الموضة، إنما مد جذورك في شيء تراه أهم من غيره. وعلى العكس  قول بلى دائماً وعدم التردد في خوض تجربة جديدة. يرى عالم النفس الدنماركي پير شولتس يورغنسن أن قول كلا يدل على استقلالية الشخصية، أما قول بلى فيجعل المرء ضحية كل دافع خارجي أو داخلي، ذاك لثقته بحدسه، والحدس سهل التأثر بعوامل خارجية عديدة من بينها الإعلانات. فيما التردد يعتمد على المعرفة بالقيم الأخلاقية، وفهم معنى الواجب، والتفكير لتحديد ما هو مناسب في موقف معين. لذا الرفض منطقي غالباً، فهناك الكثير من الحالات في عصرنا يتوجب إزاها الرفض. ولا يعني هذا نزع قبعة بلى دوماً، بل استبدالها بقبعة ربما، أو قبعة الشك.

أحد أسباب شيوع ارتداء قبعة بلى هو الوجودية المستندة على الخوف من ضياع الفرص، لقصر الحياة ووجوب كسب ما باستطاعتنا منها. إنما الرفض مبدأ أساسي في الرواقية: “ما لم يُكسر، لا تحتاج إلى إصلاحه”، لأن معرفتنا غير دقيقة حول تجربة ما، وجواب الشك هو الرفض، “نحن على دراية بما لدينا، لكننا نجهل ما ليس بحوزتنا”. قول بلى دوماً يجنبنا الأزمات التي سببتها فلسفة: “افعلها فحسب!”.

ينصح الرواقيون بالتعقل في كل ظرف، لذا قل كلا للمشاريع الجديدة إذا كان لديك التزامات عديدة، مهما كان العائد. قل كلا خمس دقائق كل يوم، وحين يكون لديك سبباً للرفض. ليس هدف الرواقية رفض الفرص بعدوانية، بل جعل الشك والتردد عادة حياتية لأجل الثبات والصمود.

 تمرن على قول: سأفكر بالأمر، بدلاً من قول بلى فوراً.

اكبت مشاعرك

المشاعر السلبية ضرورية لتنبيهنا على حدوث أمر سلبي. “شعورنا بالخجل يمكننا من رؤية أنفسنا عبر عيون الآخرين، ونستطيع بذلك إصدار حكم فيما يخص ماهيتنا” ومن دون هذه القدرة على ملاحظة أنفسنا من الخارج، لن نملك وعياً تأملياً لأجل حياة معقولة. أما التعبير عن المشاعر سلبية أو إيجابية فقد أصبح قيمة أخلاقية وذكاء اجتماعي. لأن ثقافة عصرنا عاطفية للغاية، وصفها عالم الاجتماع زيجمونت باومان بالحداثة السائلة، “الكيفية التي طور بها المجتمع ثقافة المنع وثقافة العرض متعلق بالنظرة المتغيرة للمشاعر كأخلاقيات”، فليس معيباً في عصرنا الإفراط في المشاعر بل نقصها. والأمراض النفسية الناتجة عن نقص الطاقة والمشاعر تُشخص على أنها كآبة، وليست أمراضاً عصبية. لأجل ذلك نسمع بكثرة كلمات مثل: حماس، لطيف، جميل. “الرأسمالية العاطفية هي ثقافة أحاسيس، حيث المشاعر أداء أساسي في التعاملات بين الناس. ثمة تسويق للمشاعر ونحن نبيعها ونشتريها في سوق العمل”.

“كل المجتمعات بحاجة إلى طقوس وتقاليد حتى يتمكن الناس من التعامل مع بعضهم بطريقة متحضرة. ارتداء قناع مبدأ أساسي في المواطنة” يقول المؤرخ وعالم الاجتماع الأمريكي ريتشارد سينيت. فالمشاعر تتغير وفقاً لتغيّر المعروض والموضة في عصرنا، ولا تمنحنا أرضية للثبات. لذا الاعتقاد بأننا نستطيع أن نكون أخلاقيين عبر اكتشاف مشاعرنا والتعبير عنها مجرد وهم. “احتفظ بمشاعرك حتى تكون بحاجة إليها”، فالمشاعر ليست حقيقة دائماً. وقد تجرح الآخرين بلا مبرر.

الغضب مادة سامة أنتجها وعينا وفقاً لسينيكا، وهو شعور إنساني مركزي. سينيكا سيواجه الغضب بالسخرية، فالرد بسخرية على الإساءة أكبر قيمة من الغضب. إيكتيتوس سيختار التخيل الإسقاطي؛ تخيل مثلاً أن صديقك هو المسيء إليك. أما أوريليوس فسيفكر في أن كل شيء مآله إلى زوال.

تدرب على ارتداء القناع، وعلى ألاّ تُستفز من أي أحد.

 

اقرأ رواية

الشغف بقراءة كتب السير والتنمية سببته الفردانية، لأن هذه الكتب تعرض الأحداث بتسلسل زمني خطي يمنح تأثيراً مشابهاً لتأثير المهدئات. وإذا لم يثق المرء بهويته يحتاج إلى كل أنواع الكتب المساعدة. ثمة حقيقة واحدة حول هذه الكتب؛ أنها غير فعالة. لأنها تعرض الأزمات على أنها نعمة، وفرصة للتطور، ولا تتناول أزمات لا يمكن حلها.

“يجب تعلم تقبل ظروف الحياة عبر قراءة الروايات” يرى الكاتب، لأن الروائيين غير مقيدين بصوت واحد، بل عدة أصوات، ولأنها عادلة في عرض الحياة  المعقدة والمتعسفة والفوضوية، والمتعددة الأوجه.

 “تتأثر الأخلاق بعالم تعددي حيث لا تكون الغاية اكتشاف الحقيقة عن نفسك بل الحياة. يمكننا أن نصبح أشخاص أفضل عبر قراءة ديكينز، ونوبوكوف، وكورمك ماكورثي”.

نصح الكاتب بالروايات متعددة الأصوات والعوالم كالتي يكتبها هاروكي موراكامي. ولفهم عصرنا نصح بروايات  الفرنسي ميشال ويلبك لكونه “مراقب للحضارة المتسارعة. ويحاول في كتبه إظهار حياتنا وذواتنا على أنها نتاج سيرورات تاريخية واجتماعية ونحن كأفراد لا نملك أي تأثير فيها”. كما يصعب معرفة إن كانت رواياته محض خيال أم سيرة ذاتية. كذلك كتب كارل أوفه كناوسغارد، والروايات الكلاسيكية الغربية، وكتاب “عزاءت الفلسفة” لآلان دو بوتون.

تأمل الماضي  

تأمل أحداث الماضي مبدأ رواقي يساعد على فهم الحاضر، ولأن “نظرتنا إلى المستقبل نظرة ناقصة ومقيدة بحياتنا القصيرة”.

“عليك تعلم التوجه إلى الماضي لرؤية نفسك على أنك مخلوق تاريخي. وبهذه الطريقة فقط يمكنك الثبات”.

التكرار مصدر ملهم للتعلم؛ “التكرار والتقاليد يمكن أن يكونا ذا قيمة عظيمة”. لأنك حين تكرر القيام بعمل فإنك تؤديه كل مرة بطريقة مختلفة. مثال على ذلك الأبوة: “الأبوة تقليد حيّ” ومتجدد، ومهنة التدريس التي يمتهنها الكاتب عبر تكراره  الدرس كل مرة بشكل مختلف. في الطقوس والعودة إلى الماضي رسوخ وطمأنينة.

“فيما يخص المسؤولية تجاه الآخرين؛ من الأفضل أن تمتلك جذوراً بدلاً من أقدام”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*العبارات بين مزدوجين مقتبسة ومترجمة من النسخة المترجمة الهولندية للكتاب عن اللغة الدنماركية: “Stå fast: Et opgør med tidens udviklingstvang” (يمكن ترجمته إلى: الثبات في مواجهة قيود التنمية ).

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *