*محمد الشحري
( ثقافات )
أن الرواية التاريخية لا تنقل لنا أحداث الماضي إلى مجريات الحاضر وتكهنات المستقبل فحسب، بل تقدم لنا خلاصة الأحكام التي يتصورها الروائي لذلك الماضي الذي كان شاهد عيان له كأي فرد من أفراد المجتمع وراصدا لأحداثه ككاتب، خاصة إن كان من صنف الروائي العُماني أحمد الزبيدي، المعاصر لتحولات سياسية وايديولوجية مرت بها المنطقة العربية والخليجية، والتي تأثرت بها عُمان، والتي يجدها القارئ ماثلة أمامه بين صفحات رواية الزبيدي الأخيرة امرأة من ظفار، الصادرة في ايلول 2013 عن دار الفارابي، والتي ما أن ينتهي القارئ من قراءتها حتى تدلف إلى باله عدة أسئلة عن وجه الشبه بين المرأة والثورة، فكلاهما يُفتتن بهما ويتعلق بهما، وكلاهما يحلمان بالأمل ويحملان بذور التمرد على الواقع السياسي والاجتماعي وعلى الظلم والاستبداد والقنوط والفنى، وكلاهما أيضا يتعرضان للخيانة، الخيانة التي افتتحت واختتمت بها صفحات رواية (امرأة من ظفار)، والتي اعتبرها مكملة لروايتين سابقتين هما (أحوال القبائل) ورواية (سنوات النار)، الصادرتين أيضا عن دار الفارابي، سواء بتقاطع البعد الزمان والفضاء المكاني، أو من حيث تواتر الأبطال في الأعمال الثلاثة، فالزمان هو ما بعد منتصف ستينيات القرن الماضي والأمكنة هي ظفار وعاصمتها صلالة ومدن الخليج العربي، ودمشق، والشخصيات ثوار يتعرضون لسلسلة من الهزائم العسكرية والنفسية وتدمير مشاريعهم الفكرية، فتتحطم معنوياتهم على مذبح التخاذل، الذي يتقدم إليه رفاقهم دون اعتبار للمبادئ التي آمنوا بها ولا لشرف دماء الشهداء التي أريقت في سبيل تغيير الحال إلى الأفضل، فتنهزم نفسيات بعض الثوار أمام اغراءات المال والوجاهة التي تهبها السلطات الحاكمة في الخليج، المدعومة من المستعمر الانجليزي.
إن كانت روايتيّ أحوال القبائل وسنوات النار، قد احتجبت خلف ساتر الرمزية التي مارسها الكاتب في هذين العملين، فإن امرأة من ظفار، قد هتكت هذا الحاجز، ووضعت الشخصيات والأحداث على محك الوضوح، ونفت عنهم الغموض، وهنا نتساءل هل تخلص الزبيدي من ذاكرته في هذه الرواية وقال مالم يقله في أعماله الأدبية السابقة مضاف إليها مجموعته القصصية انتحار عبيد العماني، واعدام الفراشة، أم أن الذاكرة قد تخلصت من الكاتب ونقده للمرحلة التي عايشها وكان جزءا منها، راصدا تحولاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ونتائجها التي تحدثت عنها(مثال) البطلة الرئيسة في صفحات امرأة من ظفار، فالمرحلة التي خاض الزبيدي غمارها كانت مرحلة تصاعد الايديولوجيات في الوطن العربي، وقيام حركات التحرر الوطنية في دول العالم الثالث، وكانت فعلا مرحلة الآمال والغايات المنشودة، والهزائم والنكسات والخيبات أيضا، مع ما تحمله معها من تحولات ومن انقسامات على عدة جبهات وتصدع نضالي وتبديل أماكن وارتداء قناعات وارتداد أفكار أفضت إلى خيانات للضمائر وشراء الذمم وتنكر لرفاق المرحلة والسلاح، وهي صفات لازمت الجنرال علوان الشخصية الأكثر جدلا في رواية امرأة من ظفار، والذي تقول عنه بطلة الرواية مثال ” كان بعلي علوان قد تسلق المناصب كما حرباء (مشحال)- المشحال باللغة الشحرية تعني الحرباء- في سرعة البرق حتى غدا رجلا هاما تضيق كتفاه بالرتب التي علقها، سنده في ذلك غباوة مطلقة وصاحبه الرجل الانجليزي الذي ألهمه الله “حب هذا الرجل” فجأة ودون سابق إنذار” ص161.
لم تقتصر رواية امرأة من ظفار على أحداث الثورة وارهاصاتها، بل تناولت الثقافة في ظفار، المعتقدات واللغات والفنون والعادات والتقاليد والمساكن وطرق الحياة التي عاشها الانسان في ظفار، فمن المعتقدات الدينية المؤثثة بالآلهة القدامى التي عُبدت في جنوب الجزيرة العربية، والتي بقيت في المخيال الشعبي مجردة من بُعدها الإيماني يستمد الروائي شخصيات روايته ” يرقص رقصة الخصب في حضرة “ربي” الخصب والحياة “واسنلي” و” سانلي” هذين الالهين الظفاريين الوثنيين خلدا في الذاكرة الشعبية بالرغم من تعاقب الأديان والأزمنة” ص 15، والمرجح أن يكون سانلي واسلني هما اسمين للالهة سين إله القمر عند العرب الجنوبيين والذي يرمز له بقرني ثور، ويتقرب له بالخيول المرسومة على جدران الكهوف، كما ذكر ذلك الكاتب العراقي جواد علي في الجزء السادس من سلسلة كتبه المعنونة بالمفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام.
كما وظف الروائي بعض الكلمات من اللغة الشحرية التي تصنف ضمن اللغات العربية الجنوبية الحديثة، من قبل علماء اللغات السامية تمييزا لها عن العربية الجنوبية القديمة، وأشهر تلك اللغات الحية ( الشحرية والمهرية والبطحرية والحرسوسية والسقطرية والهبيوت ) وأخذت الرواية من هذه اللغة عنوان جانبي تحت اسم ( تيث من ظفول) أي (امرأة من ظفار).
لم تكن شخصية (علوان المعاميري) شخصية عادية، بل كان الرجل الأمني القوي الذي يؤثر على المؤسسات الحكومية ومنها مؤسسة القضاء، وهذه شخصية تتماهى إلى حد ما مع عم (حنايا) بطلة رواية (عرق الالهة) للكاتب اليمني حبيب عبدالرب سروي الصادرة عن دار رياض الريس سنة 2008، وهي الشخصية التي كان لها نفوذ على السلطات العمانية لدرجة أنه أبعد أم حنايا الانجليزية ومنعها من دخول عُمان، ومنع ابنه أخيه من السفر لمقابلة أمها حتى تدخلت منظمات حقوق الانسان الأوروبية.
من يطالع رواية امراة من ظفار سيجد النقد الاذع الموجه نحو القيادات في الجبهة، التي راها الروائي قد انحرفت عن مسارها، فالعديد من الكتاب الكبار ينتقدون المرجعيات الايديولوجية التي ينتمون إليها أو هم قريبون منها، مثال على ذلك “الروائي السوفيتي فاسيلي غروسمان الذي كان مراسلا حربيا لجريدة الجيش الأحمر “النجمة الحمراء” في ليننجراد، المولود في أوكرانيا عام 1905، والذي انتقل إلى موسكو عام 1933 وأصبح أثيرا لدى مكسيم غوركي، وبتشجيع منه نشر غروسمان روايتين وأكثر من عشر قصص قصيرة، كانت منها رواية (الحياة والمصير)، التي صادرتها الشرطة السرية بعد سنة من انجازها، والتي لم تنشر إلا في العام 1985، بعد وفاة صاحبها عام 1964، كانت الرواية تصب جام نقدها على القيادة السوفيتية العليا وسالتين على وجه التحديد عبر تركيز الرواية على عدد من الضباط والرجال الذين ضمتهم دار واحدة، وكلهم يتمتعون بتفكير نقدي ويحتقرون السلطة السوفيتية ولكنهم أيضا يقاتلون الغزاة بطريقتهم الخاصة” (من مداخلة الروائي الباكستاني الاصل البريطاني الجنسية طارق علي بعنوان، تأملات في الرواية والتاريخ، ضمن كتاب الرواية والتاريخ الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في قطر 2006) ، وهذا ما نجده لدى بعض الشخصيات الثائرة في رواية الزبيدي التي حاولت انتقاد القرارات الصادرة من القيادة، التي ترى أنه لا يجوز انتقاد قراراتها، ولذلك انتهت الجبهة الى ما انتهت عليه.
لم تتجاوز الرواية الاحتجاجات الشعبية التي خرجت في معظم مناطق عمان بداية العام 2011، والتي بدأت من ظفار في تاريخ 25فبراير، وكأن التاريخ يعيد نفسه حسب الرواية، حيث وصل إلى مدينة صلالة كل من مثل وزوجها وابنها سانلي واختها ميزون، وهناك أخذتهم العارفة بأمور المدينة إلى قبو، ليجدوا أنفسهم في انتظار أبطال روايات أحمد الزبيدي من انتحار عبيد العماني مرورا بإعدام الفراشة إلى احوال القبائل عشية الانقلاب الانجليزي في صلالة، إلى سنوات النار إلى امرأة من ظفار، وكأن الأربعين الدقيقة التي انتظرها الزوار لمجيء أبطال روايات الزبيدي، هي نفسها السنوات التي انتظرها الشعب العماني بعد العيد الأربعين لحكم السلطان قابوس، الذي أعقبه خروج المواطنين إلى الشارع للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية، والتي استجيب للبعض منها، ليكتشف بعد ذلك حجم الفساد المالي والاداري الذي ينخر في جسد الاداء الحكومي.
من يقرأ رواية امرأة من ظفار، سيسأل – ربما الذين طالعوا روايته السابقة – عما سيكتبه أحمد الزبيدي، بعد هذه الرواية، التي تكاد تكشف إلى حد البوح، الأحداث التاريخية التي سكت البعض عن سردها مجاملة او خشية، ولكن الروائي أحمد الزبيدي قال كلمته فيما رآه وعايشه بعد أن أجال الأفكار في راسه.
لكني لا أظن أن أحمد الزبيدي الشخص الصلب الذي صمد أمام سلسلة من المضايقات والتهميش، سيتوقف عن السرد والكتابة، التي اتخذها وسيلة للمقاومة والاحتماء من الهزيمة والموت البطيء، حين تكون الكتابة منجاة والقراءة مفازة.
__________
*كاتب عُماني