من رواية ( شارد الذهن) قيد الكتابة

(ثقافات)

من رواية ( شارد الذهن) قيد الكتابة

أحمد طمليه 

الحياة العسكرية مختلفة تماماً عن الحياة المدنية، فيها ضبط وربط. أنت تمثل أعلى سلطة عسكرية عربية أثناء تأديتك وظيفتك العسكرية. أنت بصلاحيات تقوق التصور. يمكنك أن توقف بقوة السلاح من يقف في طريقك. من يتراءى لك. من تظنه قد مر، قد يكون طيفا، قد يكون شبحا.

كثيرا ما رأى أشباحا، أثناء تأديته وظيفته العسكرية، خاصة إذا كان توقيت الوظيفة ليلا، بعد منتصف الليل. أشباح كانت تمر من أمامه، ولا تقف، حين يصرخ بها:

قف مكانك.

لا ترد.

الأشباح لا ترد على من يمتلك أعلى الصلاحيات أثناء تأديته وظيفته. وهو لا يملك أن يفعل شيئا أمامها. ماذا يفعل؟ يطلق النار عليها؟ حتى لو أطلق النار، لن يضيرها ذلك، أنها أشباح، لا تمسك باليد، لا تصيبها رصاصة. لكن يمكن هي أن تمسكك من عنقك، وأن تطوف بك، تطوف، ثم ترميك بعيدا. هي لا تقتلك، أنها تميتك من الخوف.

ذات ليلة، كان الظلام دامسا. لم يكن يرى أصبع يده من حلكة الظلام. كان يتحسس من وقت لآخر، البندقية على كتفه. يتحسسها، يمرر اصبعه على الزناد، ليتأكد من جاهزيته، وجاهزية البندقية في حال حدوث طارىء ما.

كان يشعر أن الليلة لن تمر على خير. العتمة ناصعة السواد. يحمل بندقيته على كتفه ويمشى بحذر والطريق وعرة. الطريق المحاذية للأسلاك الشائكة التي تفصله عن حدود العدو، كانت وعرة، بالكاد يقدر أن يتوازن أثناء المشي. يختل توازنه من وقت لآخر. يوشك أن يتعثر. يتهاوى جسده، يترك جسده يقع على الأرض، وهو يمسك بيديه الاثنتين البندقية، خشية أن تسقط. كله ولا تسقط البندقية عن كتفه، أنها طوق نجاته الوحيد، إذا باغته الأعداء بهجوم، أو إذا هاجمته الأشباح.

كان يخاف من الأشباح أكثر من خوفه من العدو. يرى أن العدو بني آدم مثله، يخاف مثله. سوف يتحصن العدو أثناء مهاجمته خلف صخرة، وسوف يتحصن هو أيضا خلف صخرة ، ثم يتبادلان إطلاق النار.

فرصة نجاته واردة، قد تكون رصاصة العدو طائشة، وقد تصيب رصاصته في مقتل. المهم أن فرصة النجاة ممكنة. أما الأشباح لا نجاة منها. أنها لا تتخندق خلف صخور. تهاجمه دون أن تأبه لرصاص بندقيته. تظل متوجهة نحوه، حتى يفرغ كل ما في حوزته من رصاص، ثم تقبض عليه. يتمنى لحظتها لو أنها قبضت على روحه. الموت أرحم من الوقوع بين أيدي الأشباح. أنها لا ترحم. الموت رحمة، والاشباح لا ترحم.

حذره زميله الجندي، الذي استلم منه الوظيفة على الشيك الفاصل مع العدو، من أن يدخن. قال له: الظلام دامس الليلة. احذر من التدخين، جمرة السيجارة المشتعلة سوف تتسبب في مقتلك، إذ سوف يستدل العدو عليك من جمرة سيجارتك، فتستقر رصاصته في رأسك، بعد أن تمر من فمك.

تلك الليلة، كانت أعصابه مشدودة جدا. قرر أن يدخن وليحدث ما يحدث. لو على قطع رأسه سوف يدخن. نظر إلى ” الشيك” الذي يفصله عن العدو. لاحظ أن العدو ليس موجودا. من باب الإحتياط، احتمى بجذع شجرة محاطة بصخور، تأكد، قبل أن يشعل سيجارته أنه ليس مرئيا. وبالتالي، حتى لو أطلق العدو عليه الرصاص، فلن تدخل الرصاصة من فمه وتفجر راسه.

لكن ما حدث تلك الليلة كان مفاجئا، إذ هاجمته الأشباح فور أن اشعل السيجارة. وبعد أن ذبحته من الضرب، هددته أن لا يخبر أحدا.

مات من الخوف الجندي الذي أستلم منه الوظيفة وجه الصبح. لاحظ الدماء على وجهه. وآثار ضرب مبرح على جسده. لكنه لم يسأله عن السبب. كان شائعا في المعسكر أن من يقول ما جرى معه مع الأشباح، سوف تعود له الأشباح من جديد، ومن يسأل سوف تأتيه الأشباح.

كانت الأوامر واضحة قبل أن يستلم الجنود وظائفهم: يجمعونهم في مكان بعيد عن سمع الآخرين، ويقولون لهم، همسا، كلمة السر. لا يعرف هذه الكلمة إلا من لديهم وظائف عسكرية. وهذه الكلمة تكون المعتمدة في جميع المعسكرات العسكرية العربية. وهي تتغير كل ليلة. ينتظر القادة في معسكراتهم إلى أن تأتيهم كلمة السر من القيادة الموحدة للقوات العربية المشتركة.

الأوامر واضحة: إذا رأيت طيفا يمر في منطقة وظيفتك، أصرخ عليه بأعلى صوتك: قف مكانك. يجب أن تصرخ عليه وهو يبعد عنك عشرة أمتار. بعد أن يقف تماما. بعد أن تتأكد أنه واقف مكانه لا يتحرك. بعد أن تتأكد أنه لا يحمل سلاحا. قل له: تقدم. لا تتركه يتقدم كثيرا. خطوتان أو ثلاث، ثم أصرخ عليه مرة أخرى: قف مكانك. اطلب منه كلمة السر. إذا عرفها دعه يمر.

يسكت الضابط.

يسأل يوسف بأعلى صوته، بلهجة عسكرية جادة: وإذا لم يعرفها سيدي؟

لا يرد القائد.

يكرر بصوت كأنه يتسول إجابة: إذا لم يعرفها سيدي؟

يرتبك القائد أمام السؤال، يحاول أن يتجاهله، غير أن العسكر كلهم ينظرون إليه في إنتظار إجابة.

يرد القائد والارتباك واضح عليه، كأنه لا يقصد ما يقول: طخه.

يكرر في محاولة للثبات هذه المرة: نعم.. نعم..طخه.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *