أنسي الحاج: أفق معرفي وشعرية الرؤى الجمالية

أنسي الحاج: أفق معرفي وشعرية الرؤى الجمالية

ليندا نصّار

منحنا أنسي الحاج قراءة قصائد تخرج من لحظات استثنائية وإشراقات شعرية، يحشد فيها الطاقة الشعورية، وقد تمثّل

في قصائده صوت الحرية والتمرد على نحو عميق حيث تشكّلت فيه رؤيته وتبدّى أفقه المعرفيّ الذي فتح أبواب الحداثة

. أوليس أنسي الحاج الشاعر الذي تمكّن من بناء وعي مختلف بالقصيدة ومن امتلك القدرة على إنتاج السؤال الخاص،

لينقل القصيدة من التقليد عبر رفض التعصب واستقبال كل جديد؟

حين نذكر اسم أنسي الحاج تخطر في أذهاننا قصيدة النثر تلك التي تمتاز بالصفاء

، كما وصفها فاليري، فصاحب ديوان “الرأس المقطوع” امتاز بنصوص من الشعر الخالص

. وهو الذي دعا إلى اعتماد التكثيف في الكتابة. وقد كان يمتلك الوعي بكتابة الشعر

، وهو الذي ربطه بالواقع والتحولات التي تحدق به بلغة تكسب قصائده أبعادًا إنسانية.

كذلك عرف أنسي الحاج معنى جمالية القصيدة وخصّص مكانة للشعر، وأولى العناية للمتخيل

الذي يخرج الصورة الشعرية، فجاءت اللغة عنده على اتصال بالعالم. في تلك المرحلة،

شكّلت قصائد أنسي الحاج لحظة انفتاح ومحاكاة للواقع الجديد الذي ترجم الرؤى العصرية

 إنه شعر يتجاوز القديم ولا يجتر نفسه بل هو حوار الجمال والإبداع يدور بين الذات الشاعرة والعالم، كما ساهم الحاج في خلق وعي جديد، وهو الذي منح القصيدة فرصة التعبير عن النسج الإنساني، وجعلها انعكاسًا وصورة للتغيير والبحث عن إجابات للأسئلة القلقة ومنه خرجت الدعوة إلى التمرد ورفض المألوف.

نتحدث هنا عن خمسينيات القرن الماضي، حيث نبغت الأصوات الجديدة بقوة. تمكّن الشاعر من تحقيق ذاته واجتراح لحظة شعرية مغايرة جعلته يترك أثرًا فريدًا ما زال مستمرًّا في أجيال اليوم. لقد نحا الشاعر منحى التجريب بجرأة تعبّر عن شخصه وطبعه من خلال قصائد مختلفة عن تلك المتعارف عليها. وجعلها تخضع لتأويلات عدة، وتتخذ وجوهًا مختلفة، وقد جاءت قصائده كمحاولة اهتزاز للوعي العربي وأثّرت في الشباب في تلك المرحلة. لقد كان لأنسي الحاج التأثير البارز في الوسط الثقافي أيضًا منذ مجلة “شعر” التي تركت بصمة كبيرة في حداثة القصيدة مع يوسف الخال وأدونيس وشوقي أبي شقرا وغيرهم… خصوصًا من حيث الثراء الجماليّ وانفتاح المتخيل الذي عبّر عن الواقع العربي وشعرية الرؤى الجمالية فاتّسعت إمكانات التخييل الشعري.

وفي ذكرى غياب الحاج، أصدرت “دار المتوسط” الأعمال الشعرية الكاملة له تحت إشراف ابنته الشاعرة ندى الحاج، وكانت مناسبة دعا فيها “مهرجان بيروت للأفلام الفنية” إلى أمسية شعرية موسيقية ممسرحة في قاعة “مسرح ليلى تركي” في المكتبة الشرقية التابعة لجامعة القديس يوسف ببيروت. قدّم للأمسية الشاعر والصحافي عبده وازن في كلمة احتفالية تعبر عن أنسي الحاج وشعره، وبلمسات المخرجة لينا أبيض، بالاشتراك مع رفعت طربية، جوليا قصار، علي مطر، ندى الحاج، رانيا الحاج، وفريد نصر.

الأعمال الشعرية الكاملة يستهلها الناشر خالد سليمان الناصري بالحديث عن علاقته بالشعر والشاعر تحت عنوان “أنا وأنسي”.
وكتبت ندى الحاج ابنته في بداية الديوان كلمات تليق بوالدها الشاعر الذي أمّنها على هذا الإرث الأدبيّ:

تعال! أدعوك إلى حفل يليق بولائم شعرك/ تعال وذق من يدي زبيبًا عتقته لك/ وارتو بكروم عصرتها براحتي/ لن أستبدل الخوابي بضجيج الكؤوس/ تعال لمرة آتية/ وأعدك لن تكون ماضيًا.

وتحت عنوان “أنسي الحاج شاعرًا وناثرًا”، ثمة عرض عن ديوان “لن” والذي شكّل في تلك المرحلة صرخة شعرية قويّة، وإعلان ولادة قصيدة جديدة في ظل هيمنة الشعر الملتزم الذي دعت إليه القومية العربية والسورية الوطنية، حيث تمّ التغيير في اللغة والمضمون والشكل. فديوان “لن” جاء بعد الشعر الكلاسيكي الموزون المقفى والشعر الحر وكل الأشكال القديمة والمألوفة، وهو بالإضافة إلى أنّه جاء بمنزلة صدمة في الشعر العربي، فقد خلق جمالية جديدة فرضت نفسها بنفسها، وهذا ما ترمز إليه مفردة “لن”. لأنسي نزعة تمرد على القوالب الجاهزة والعالم الشعري المألوف المقيد، ففي شعره دعوة إلى التفلت والتحرّر من هذا العالم، إنه الخارج من المدرسة الجمالية وقد نسج خصوصية واجترح لحظة شعرية خاصة جامعًا، كما يقول الناشر، بين الهدم والبناء. إننا أمام عالم مناهض لا ما كان عليه العالم القديم، إنه عالم حلم به أنسي وتمكّن من تحقيقه كما حلم أن يرسم مشهدًا تأسيسيًّا لقصيدة النثر.

بعد دواوينه الأولى لم يترك أنسي تمرده بل ارتبط بعلاقته بالمرأة والحب، وكما ذُكر في المقدمة: تمكن أنسي في ما كتب من قصائد حب أن يجعل المرأة ذاتًا إنسانية وأن يرتقي بالعشق إلى أرقى تجلياته، ليصبح أرض خلاص، وملجأ يقيه بشاعة الزمن وهول السقوط ووحشة الموت.

وتحت عنوان “لن والبيان التأسيسي لقصيدة النثر” يقوم الشاعر ببناء مقدمة بيانه بسؤال: هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟

لعلّ الشاعر أراد من خلال هذا السؤال طرح إشكالية قصيدة النثر وأصولها ليعود مقارنًا بين النثر وطبيعته وأهدافه وطبيعة القصيدة باكتفائها بعالمها وطبيعتها المغلقة. بالنسبة إليه النثر سرد والشعر توتر. ويعتبر أنّه من واجب القصيدة أن تقوم على عناصر الشعر. وهنا عبارة تختصر كل شيء: القصيدة هي الشاعر، فالقصيدة هي العالم الذي يسعى الشاعر إلى خلقه. ويشتغل صاحب ديوان “الرسولة بشعرها الطويل” أيضًا، على توضيح ماهية قصيدة النثر معتمدًا على الكتاب الأحدث في عصره: “قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا” لسوزان برنار.

وينتقد الحاج الذين يعتبرون أنّ الموسيقى والوزن والقافية سبب الهزة الشعرية في القارئ، بالنسبة إليه ليست إلا قوالب كانت تصلح للشاعر مواكبة لعالمه ولا تتماشى مع التطور والتغيير في أنواع القراء والحياة. فللشاعر الحقيقي أدواته، إنه يواكب التقدم ويعتمد على المجازفة وخرق البالي والقديم.

بين الشاعر والقارئ

يقول أنسي إن ثمة حلفًا بين القارئ الرجعي والشاعر الرجعي. ثمة من يرفض النهضة ومن يقبلها بداعي التحرر بأشكاله كافة على عكس المتعصب الذي يلامس حدّ الدين. ويتابع أنسي الحاج طرح إشكالياته مناقضًا الرجعية على شكل استفهام وظيفته التأكيد على إجاباته المسبقة: “هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل”.

بالنسبة إليه ليس النظم هو الفاصل بين الشعر والنثر. وهنا يميز أنواع قصائد النثر. فمنها ما تشبه الحكاية ومنها ما تسمى قصيدة نثر عادية بحيث يستحضر مثال نشيد الأنشاد وسان جون بيرس، كما يورد قول آلان بو عن القصيدة: إنّ كل قصيدة هي، بالضرورة، قصيرة لأنّ الطويل يفقدها وحدتها العضوية.

ويؤكّد الحاج على ما كتبته سوزان برنار، بعد تساؤلات تمسّ بناء قصيدة النثر الذي قد لا يستخدم أدوات النثر، بأنّ قصيدة النثر قد تلجأ إلى أدوات النثر شرط أن ترفع منها وتعمل في مجموع ولغايات شعرية ليس إلا، ولقصيدة النثر الحقيقية شروط: الإيجاز والتوهج والمجانية، مستشهدًا بقول لرامبو: أريد العثور على لغة تختصر كل شيء؛ العطور الأصوات الألوان.

* عن ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

عبد الصّمد بن شريف يُحاضر بفاس حول تحوُّلات الإعلام بالمغرب

(ثقافات) عبد الصّمد بن شريف يُحاضر بفاس حول تحوُّلات الإعلام بالمغرب متابعة: إدريس الواغيش احتضنت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *