أدونيس *
الصديق الحبيب أنسي،
منذ بدأتَ استقصاءَ العالَم، ذهبتَ في اتّجاه أبعاده القُصْوى. احتضنتَ مَن كان رائداً، لكن جعلْتَ مِن كلّ فجرٍ يطلعُ دليلاً. وما كان في الكتابة ارتِجالاً أو طَيْشاً، أسّسْتَ له، لكي يتخطّى نفسَه ويندرجَ في تجربةٍ أو مشروع.
أردتَ للكتابة أن تنسخَ شيخوختَها وأن تستعيد سنَّ رُشْدها الأوّل.
هكذا غيّرتَ العلاقةَ بالزّمن، مُدرِكاً أنّ الحاضرَ لم يكن في الوعي السّائد القائد إلاّ وظيفةً تاعسةً في المستودع المتصدّع، التاعسِ هو أيضاً، والذي يُسمّى الماضي.
أردتَ أن تنفخَ من روحكَ في عالمنا، تأسيساً لحقوقه، هو الذي لا يعرف غيرَ الأمر والنّهْي. أردتَ أن تفجِّر أهواءه الخالقة، أملاً بولادة الفرْد، الفرْد الحرّ، المستقلّ، سيّد مصيره، في مواجَهةِ الكمّ التراكُميّ الجَمْعيّ. أردتَ أن تهدمَ تلك السلاسل التي سُمِّيت مبادئ وقواعد، والتي ليست إلاّ إكراهاتٍ خانقة، وسجوناً.
«أنتَ أنقانا»، قلتُ لك، مرّةً. وأكرّر هنا قولي هذا. وفيما أخذتَ تقتحمُ بقوةِ هذا النّقاء، جميعَ أشكالِ العَسْفِ، كنتَ تنحتُ في جسد الشّعر شامةً آسِرةً لطفولةٍ لا ينفد نِسْغُها. إذاً، داعبتَ الحداثةَ كما لم يداعبْها أحدٌ في زمنِكَ، ورسمتَ لها وَجْهاً بحبْرِ حَدْسٍ خلاّقٍ يبدو كأنّه نوعٌ من الجنون الضّاربِ في غياهبِ التعقُّل. وفهِمْتُ وأفهمُ، اليوم، على نحوٍ أكمل، كيف رأيتَ نفسَك مدفوعاً إلى أن تُراعيَ بعضاً وترعى بعْضاً بين أولئك الذين كانوا يتدافعون في موكب هذا الاقتحام. لا رغبةً منك ولا رهبةً، بل انتشاءً واحتفاءً بهذا التّكَوْكُب.
هكذا تأسلَبَتْ حياتُك في مختَبَر كتابتك، وتأَسْلَبَتْ هذه في مختَبَر تلك، في أنْسٍ مُفْرَدٍ كأنّما يمتزج فيه لُطفُ النّوارِسِ بصَخَب الموْج.
سبَقْتَني.
أكادُ أن أرى في ترابكَ العاشقِ جذرَ نبتةٍ غريبةٍ ومجهولةٍ، يمتدّ في أفُقِ ترابيَ المُقْبل لكي يعقد أواصرَ الصّداقةِ بين موتكَ وموتي، استكمالاً لتلك الأواصر بين حياتك وحياتي، والتي كانت تضطربُ – لكن راسخةً أبداً، وعاليةً أبداً.
الأبديّةُ هذه اللحظة، تديرُ ظهرَها إلى الموت.
صديقك
أدونيس
باريس في 10/2/2014
( الحياة )