محمود قرني وفرادة تجربته الشعرية والثقافية

(ثقافات)

يعيش وضعًا صحيًا صعبًا

محمود قرني وفرادة تجربته الشعرية والثقافية

موسى حوامدة*

محمود قرني ليس شاعرًا عابرًا، أو عاديًا، لذلك حورب رغم أن مصر تمتلئ بآلاف الشعراء، لكن محمود قرني لم يكن شاعرًا طيعًا، تتقبله الساحة بسهولة ويسر، كما فعلت مع من هم أقل موهبة منه حتى، ولم تمنحه الفرص التي كان ينبغي أن يتبوأها، لعدة أسباب، أولها وأهمها، أن محمودًا مُنظرٌ رصين وعميق لشعرية الحداثة، ولم يكن سباقه مع القصيدة أو مع زملائه من الشعراء الآخرين على تفوق قصيدته، بل على تحريك العقلية العربية الراكدة، والقابعة في كهوف الماضي، والتي تعتبر التجديد تهديدًا وجوديًا لها، ولثقافتها، ولذا كانت معضلة محمود هي معضلة أمة، لا تريد للحياة أن تتغير، ولا تريد للقوالب أن تتكسر، ولا تريد لعصر التنوير أن يبدأ..

وكما تمت محاربة النهضة في بدايات القرن العشرين وتم وأدها، تم تجاهل تجربة محمود، والتعتيم عليها، لأنه لم يكن يكتفي بكتابة قصيدة عابرة، بل حاول تأسيس ثورة حقيقية في كتابة الشعرية العربية، وكانت ثقافته الفلسفية والنقدية الواسعة، واطلاعه الواسع على المدارس النقدية والفلسفية في العالم، تعطيه تلك القناعة بامكانية التغيير، أو التعبير على الأقل، وإذا أضفنا أنه لم يكن يفكر بعقلية القطيع والانضواء تحت جناح شلة أو سلطة، وحفاظه على حريته، حرية المثقف الحقيقي، وعدم انصياعه للواقع، وتمرده الدائم على الجمود، ليس في الشعر فقط، بل في كل مناحي الحياة، جعل المؤسسات الرسمية والمنضوين تحت لوائها يحاربون مشروعه، ويغلقون عليه مساحات العمل والتعبير.

 ولم يحاول عمل تكتلات ثقافية، أو شللية، ولم يواكب السائد، فيداهن لهذا الشاعر أو الناقد، بل ظل يكتب قاناعاته في التجربة الشعرية العربية، دون حساب الربح والخسارة، وهو ما جعل كتابته رزينة، وقيمة.

 آمن محمود قرني، وما يزال بالإنسان العربي، وقدرته على التغيير والتعبير والإبداع، وكان يستفز الآخرين بكتابته عن تجارب عالمية، وتشبثه بقيمه الجمالية العالية، وقد واجه حربًا، وكأنه الوحيد الذي يكتب قصيدة نثر، لكنه لم يكن يستكين، ولا يجامل، بل دافع عن حقه في الكتابة، وبالحداثة، ورد الهجوم على قصيدة النثر ممن حاربوها وأطلقوا عليها ألقابًا لا تليق بمن أطلقها مثل القصيدة الخنثى، او الخرساء.

  لم ينعزل في حيز ضيق، لا معرفيًا، ولا كتابيًا، لأن إيمانه بهويته العربية، وعشقه لمصر، وترابها وتراثها لم يجعله مترددًا في اتخاذ المواقف الحادة والتي لم نعتد على تقبلها في ثقافتنا، كما أن ارتباطه الوثيق بالقضية الفلسطينية وبالثقافة العربية في فلسطين، وإيمانه بعدم فصل الثقافي عن السياسي، ولا فك ارتباط القضية الفلسطينية عن أي مشروع تحرري وطني أو قومي، جعله نافرًا من كل محاولات التطبيع أو غسل الأدمغة، والتعامل مع التوجهات والمنظمات التي تفتح أبوابها لدعم كل ما يساهم في تمييع دور المثقف العربي، وتطويعه لقبوله بالعولمة، التي تخفي في ثناياها الهيمنة الاستعمارية بشكل محدث.

أضف إلى كل ذلك نزعة الكبرياء الشخصية لديه، والتي تمنحه الثقة بمشروعه، والتي كانت تحدث إرباكًا لدى الكثيرين، ووعدم مجاملته لعديمي الموهبة، زادت من حجم القطيعة حوله، ومن إحساس الاغتراب لديه.

ومع ذلك مارس قناعته بضرورة تحديث الكتابة الشعرية، والانتقال بالذائقة العربية من الايقاع التقليدي القديم، وحتى التقليدي المعاصر، والذي تحول إلى كلاسيكية موازية للماضوية العروضية، وازداد ايمانه بضرورة قصيدة النثر، كمدخل لعصر تنويري وتحرري جديد.

من يقرا أعمال محمود الشعرية سوف يلاحظ فرادته في التعبير، وإدراكه للتحولات الشعرية والفلسفية في العالم، ولو تأملنا قصائده سنرى حرصه على إعادة تعريف الشعر حتى من خلال القصائد التي كتبها.

إنني مؤمن برؤيته ورؤياه لضرورة التغيير، ومؤمن ان قصيدة النثر ليست ترفا أو محاولة لاحداث انقلاب ثقافي على الشعرية التقليدية فقط، بل ضرورة  وجودية، وإبداعية لاحداث صدمة في الوعي العربي الذي غطاه الصدأ، طيلة العديد من قرون التخلف والسكون الحضاري، ودائمًا ما كان ينادي ويكتب بان هذه الثقافة، بحاجة إلى نضال حقيقي وعميق، للتغيير، واننا بحاجة إلى إعادة تعريف مصطلح الحداثة، والانفتاح المعرفي للشاعر على أن قصيدة النثر ليست مرحلة مشابهة للمراحل السابقة بل عملية مستمرة من التحولات دون بناء جدران جديدة، او مدرسة إحيائية جديدة، إنها صيرورة دائمة متغيرة ومتجددة باستمرار.

 ولا أنسى موقفه، حينما توفي المرحوم الصديق الشاعر والكاتب الفلسطيني اللامع خيري منصور، حين طلبت منه، أن نفعل أقل واجب تجاه خيري، فأبدي استعداده الكامل لأي عمل، تقديرًا لخيري، وما قدمه للثقافة العربية، واقترحت أن نفيم حفل تأبين في القاهرة، فوافق فورُا، بلا تردد، ونسقنا لذلك، ودعونا عددًا من الأصدقاء للحديث عن خيري، بينهم النبيل الدكتور نبيل عبدالفتاح، والمتوكل طه الذي أرسل رسالة تأبين مكتوبة، ودعا محمود عددًا من المثقفين المصريين الذين حضروا حفل التأبين في حزب التجمع.

ليس هذا فقط، فمحمود من أكثر المدافعين عن القضية الفسلطينية، وعن الثقافة الفلسطينية وهو على صلة ودراية كبيرة، بتطور الأدب العربي في فسطين والأردن، ومعرفة أزماته ومبدعيه.

محمود يمر الآن بظرف صحي صعب، ويحتاج إلى عملية جراحية، ولا أقول ذلك لاستدرار عطف أحد، فأكثر ما يكرهه محمود هو احساس الشفقة، ولم أكتب إلا قناعتي وشهادتي في الرجل، وفي نفس الوقت لا نريد أن نزاود على دعم ورعاية وزارة الثقافة المصرية، واتحاد كتاب مصر، للمثقفين المصريين وحتى العرب عمومًا، لكن الواجب يقتضي تذكير المؤسسات الثقافية في فلسطين والأردن تقديم باقة ورد إلى شاعر ومثقف من طراز نادر، وأصيل.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *