*البشير ضيف الله
يجمع أغلب النقاد والدارسين لتجربة الشاعر الفلسطيني «محمود درويش» على أن هذه المرحلة التي أعقبت توقيع «اتفاقية أوسلو» 1994م،أهم مراحل تجربته الشعرية على الإطلاق ، وأكثرها نماء، وأقربها إلى روح الشاعر الذي بلغ درجة عالمية النص بعد انفتاحه على التجارب العالمية المختلفة، وبعد أن طوَف بمدن وعواصم ومنابر أدبية كبرى، فكان طبيعيا أن ينزاح محموله الشعري انزياحا متساميا ينبثق منه تاركا عباءة الانكفاء على قضية أو إيديولوجيا معينة تحدُ من ممارساته النصانية كشاعر منطلق، وعليه فقد خرج من كونه شاعر القضية الفلسطينية و«هدهد» القومية العربية ليكتشف الآخر/النص، الآخر بكل تأثيثاته وحيثياته، ويصبح شاعر الإنسانية ككل؛ وعرف بذلك تحولا لافتا خصوصا على صعيد البنية الإيقاعية ،فهو شاعر إيقاعي بامتياز.
تحولات العناوين:
لعل ما يستوقفنا من متحولات أسلوبية رغم حفاظه على كثير من الخصوصيات المشهودة في المراحل السابقة؛ ذلك الحراك الذي أصبح يميز عناوين مجموعاته ونصوصه الشعرية، خاصة وأن العنوان مفتاح إجرائي محوري في الدراسات الأسلوبية و السيميائية ، باعتباره عتبة رئيسية ،أو «مجموعة من العلامات اللسانية، كلمات أو جمل أو حتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه وتشير لمحتواه، ولتجذب جمهوره المستهدف..» (1).
لقد كان لصدور مجموعته الشعرية « لماذا تركتَ الحصان وحيدا؟»(2) صدى واسع نظير التحول البارز في شكل الخطاب الشعري «الدَرويشي» انطلاقا من عنوان المجموعة والذي جاء استفهاما مفتوحا ينقل حالة تعبيرية أخرى غير التي اعتدناها في مجموعاته السابقة، مع طغيان الأسلوب الخطابي المباشر،ولعل أهم تحول هو استعماله لمقطع شعري كعنوان، على غرار مجموعته الشعرية « لا تعتذر عما فعلت» (3)، حيث يهزنا العنوان هزًا غير مسبوق بصيغة النهي المشفوع بالأمر، وبخطاب مباشر يحمل شدة واقتضابا ، وتتحرك صيغته بين ضميريْ المتكلم المفرد وضمير المخاطب الغائب المجهول بحكم الفعل، ولا يتكشف إلا بعد الغوص في تفاصيل النصوص المشكلة للمجموعة، وإن كانت تعطي انطباعا بالرفض وعدم الانصياع، وتحمل دعوة إلى الصمود ورفع التحدي، رغم أن العنوان الرئيسي الداخلي للمجموعة هو « شهوة الإيقاع».وكمثال آخر نصه /المجموعة «أنت منذ الآن غيرك» (4)، حيث حمل خطابا مباشرا ، صريحا و قصديا(5) بكثير من المرارة والشدة.
التوراتيات، أو إعادة تفعيل الموروث الديني:
كما عرفت هذه المرحلة بروز التوراتيات بشكل لافت ومدهش في نصوصه رغم أنها لم تنعدم في المراحل السابقة، يقول:
«… وكل شيء باطلٌ أو زائل، أو
زائل أو باطل
من أنا؟
أنشيدُ الأناشيد
أم حكمةُ الجامعة؟
وكلانا أنا…
وأنا شاعرٌ وملِكْ
وحكيمٌ على حافة البئر..» (6) .
إن الشاعر يستقطب حكمة النبي «سليمان» –عليه السلام- في سفر «الجامعة»، هذا النبي الملك والحكيم والشاعر الذي بلغ السؤدد ،اقتنع في النهاية بزوال هذا الملك ، وهو ما نجده في سفر «الجامعة» بقوله: «باطل الأباطيل يقول الحكيم. باطل الأباطيل، كل شيء باطل» (سفر الجامعة، 1 – 2)، وهي العبارة التي وظفها «درويش» كلازمة تكرارية – كعادته- مما يبين اهتمام الشاعر بمثل هذه النصوص ، وإيمانه ببعض من حكمها، بل أن منها من جعلها توليفة شعرية يشد بها إزر نصوصه ، ويتخذها ملاذا آمنا يوصل من خلاها رسالته الإنسانية العالمية في نزوع إلى الحكمة و إعمال العقل. ولنستمعْ إليه وهو يعزف على وتر التوراتيات مستغلا أثرها كجانب جمالي وتاريخي وعقائدي :
«…عشتُ كما لم يعش شاعر ملكاً وحكيماً..
………………….
«سليمانَ كان»..
فماذا سيفعل موتى بأسمائهمْ
هل يضيءُ الذَهبْ
ظلمتي الشاسعهْ
أم نشيد الأناشيدِ
والجامعهْ؟»(7).
لقد وظف الشاعر المحمول الديني بما يضمن ألق النص، وبما يمنحه من ممكنات تعبيرية جديدة، خاصة فعل استقطاب الماضي انطلاقا من الحاضر، هذا الماضي الديني الذي جعله «درويش» أكثر حضورا بتركيزه على الفعل المضارع المشوب بالغياب كما في المقطع السابق، فيحرك القصيدة تحريكا لولبيا لينبثق النص من داخله انبثاقا متضافرا يصل في نهاية الجملة الشعرية إلى ذروة المعنى بعد التدرج و الانتشار.
إنَ «محمود درويش» وبحكم انتمائه للأرض المقدسة ومهد الرسـالات ؛ يحاول إعادة إنتاج ما يعتبره إرثا إنسانيا مشتركا قابلا للقراءة والتجديد، ودافعا آخر نحو الخروج من دائرة مغلقة عبر حكمة النبي «سليمان» –عليه السلام-. كما نجده أيضا يتناول شخصية «المسيح»-عليه السلام-هذه الشخصية التي كان لها حضور قوي في كافة مراحل تجربته الشعرية بحكم عقيدته، وربما أن انتماء الشاعر إلى «الجليل» موطن «المسيح» -عليه السلام- جعله يشعر برغبة في التعبير عن الاضطهـاد والمعاناة، محرَكا في ذلك تجربة أخرى، ومعرِجا على قيامة «المسيح» فيقول:
«…مثلما سار المسيحُ على البحيرةِ
سرتُ في رؤيايَ.
لكنِي نزلتُ عن ِالصليب
لأنني أخشى العلو، ولا
أبشرُ بالقيامة….» (8).
تحولات الرؤيا الشعرية:
سبق وأن تعرضنا لعلاقة الشاعر بالنص، و رؤياه الخاصة به للشعر، حيث يعتبره ثورة هذا إنْ لم يكن مرادفا لها،كما أن مقياس نجاح النص عنده هو مدى ترديده من قبل الجمهور ، إلا أن هذه الرؤيا شهدت تحولا كبيرا في المرحلة الأخيرة ، حتى وإن بقي محافظا على علاقته بالإيقاع الذي يمثل خاصية ثابتة ومتواصلة مع كافة مراحل تجربته الشعرية،و لتقصِي حيثيات هذه العلاقة ، نختار هذا المقطع من قصيدته « شهوة الإيقاع» حيث يقول:
« يختارني الإيقاع ،
يُشْرقُ بي
أنا رجع الكمان ولست عازفهُ
أنا في حضرة الذكرى
أنا في حضرة الذكر
صدى الأشياء تنطق بي
فأنطقُ….»(9).
إنه يحاول أن يتناول هامشا يتعلق بعلاقته كشاعر مع الإيقاع/ القصيدة ودوره في ممارسة الفعل الشعري الذي لا يعدو أن يكون امتثالا لهاجس يدفعه من حيث لا يدري إلى الاستجابة ، وبالتالي ممارسة فعل النص.إنَ التعمق في قراءة هذا المقطع ، يبرز ذلك التحول في علاقة الشاعر بالنص ، فإنْ كانت في المرحلة الأولى قائمة على أبوة الشاعر من جهة ومدى تلقـي الناس للنص من جهة أخرى، فالأمر مختلف الآن، فالنص هو الأب ، والمحرك و الفاعل وليس العكس ، والشاعر هنا صدى النص وليس صوته.
أ/- فلسفة النَص/تحولات الفكرة:
كلما مر العمر تتخذ قصائده بعدا مختلفا تصبح فيه << الواقعية اكتشافا للواقع وليست محاكاة له >>(10) كتحول على صعيد الفكرة، ويصبح خطاب الحياة/الموت مقابل الحضور/الغياب «موتيفا» شاخصا في متن النص، << أن الموت الذي تردد في معظم أعمال درويش الشعرية بأنساق وصيغ مختلفة، إفراداً وتركيباً، سيتخذ بعداً مناقضاً لمفهومه العادي باعتباره نهاية الحياة ودخول عالم الأبدية. إنه، بعبارة أخرى، معبر ضروري في المشروع الحيوي لشعب يرفض أن يعيش مهاناً فاقداً هويته التاريخية. وتأسيساً على ذلك، فإن الموت سيغدو استراتيجية أساسية لاسترجاع الكيان الروحي والمادي الذي تستحق به الحياة أن تُعاش>>(11) ، ليواصل متنه المتراتب في حركية يشوبها شيء من الحزن لكنه وهو ما تجسده قصيدته «سقط الحصان عن القصيدة» :
«كرٌ وفرُ، كالكمنجة في الرباعيات
أنأى عن زماني حين أدنو
من تضاريس المكان
سقط الحصان مضرَجا/
بقصيدتي
وأنا سقطت مضرجا /
بدم الحصان…» (12)
وتتأكد هذه الحقيقة في مجموعته الشعرية «كزهر اللوز أو أبعد»(13)، حيث تتجلى تلك الرؤيا التي تنزع إلى الغور في فلسفة الموت والحياة كثنائية جدلية قائمة تستفزُ كائنه الشعري حين يردِد في قصيدته «هنالك عرس» :
« قيل: قويٌ هو الحبُ كالموتِ !
قلتُ : ولكنَ شهوتنا للحياة
ولو خذلتنا البراهين ، أقوى من الحبِ والموت
ِفلننه طقس جنازتنا
كي نشارك جيراننا في الغناءْ
الحياة بديهيَة ٌ…وحقيقيَةٌ كالهباءْ»(14)
ولا يزال الشاعر يتعمقَ في أسرار الوجود ، ويبحث علاقة الإنسـان بالله في نزوع شبه صوفيٍ أكثر من أيِ وقت مضى ، ليصرح في نصه « منفى 3» : إن َ كلَ مكان بعيد عن الله أو أرضه هو منفى…» (15).
هو يشتغل على ثنائية القرب/البعد، في نزوع إلى الذات الإلهية التي تقترن بتحقيق رغبة العودة إلى الأرض المقدسة، و لأن « الله حال أصلا في وجدان الإنسان، وما عليه إلا أن يجده في كل عناصر الخير والحق التي تتضمنها إنسانية الإنسان..» (16).
ثمَ يعود مرة أخرى إلى فلسفة الموت والحياة في «منفى 4»:
«.. وإن َ لفي عالم لا سماء له ،
تصبح الأرضُ هاويةً…
واصرخْ لتسمع نفسك
وأصرخْ لتعلم أنك ما زلت حياً وحياً
وأنَ الحياة على هذه الأرض ممكنة
فاخترع أملاً للكلامْ !!
ابتكرْ جهةً أو سراباً
يطيل الرجاءْ،
وغنِ ، فإن الجماليَ حريَة ٌ /
أقول : الحياةُ التي لا تُعرَف إلا
بضدِية الموت…ليست حياةْ..» (17).
ولا يغـادر الشاعر هذه الثنائية ، فهي محور اشتغال شبه طاغ على أغلب نصـوص المجموعة التي غلب عليها هذا التحول :
« سيري ببطء، يا حياةُ،
لكي أراك بكامل النُقصان حولي،
كم نسيتكِ في خضمِك باحثا
عنِي وعنكْ.
وكلَما أدركت سرا منك قلت بقسوة:
ما أجهلكْ!
قلْ للغياب: نقصتني
وأنا حضرتُ لأكملكْ..» (18)
ورغم أن الشاعر لم يستطع التخلص من ثنائية الحضور والغياب إلا أنها تبدو أكثر دقة وتأثيرا في المشهد النصي ، فالغياب عنصر تشكيلي محفور في النصوص الأخيرة، ويمثل نسبة أعلى في تمفصلها، وكأن ثمة شعورا خفيا ينهش الشاعر في داخله، وينطبع على المتن الشعري فيما بعد، أو لنقل أنها حالة غياب بعد حضور، هي مرحلة جديدة وأخيرة في نفس الوقت تجعلنا نضطلع بشكل تعبيري مختلف وهادئ بعيدا تنعكس على الإيقاع الذي لم يعد عسكريا ضاجًا،فهناك انخفاض في وتيرة الشد الإيقاعي تعكس بوضوح نفسية الشاعر في مرحلة دقيقة من حياته.
ولا يتنازل الشاعر -كما في جل أعمال هذه المرحلة والمرحلة السابقة- عن السرد والحوار وتعديد المشاهد في توظيف للدراما ومسرحة للنص من خلال تعدد الأصوات و تنوع الرواة، موظفا الأسطورة تارة، وأخرى موظفا طاقات تعبيرية أخرى كالرموز والألوان والأمكنة وحتى الطقوس الدينية.
ب/انفتاح النص/استقطاب الآخر:
بدا الشاعر في هذه المرحلة أكثر انفتاحا على نصوص وتجارب الآخرين من لغات مختلفة فهو مثلا يستحضر شخصية الشاعر التشيلي «بابلو نيرودا» بعد أن زار بيته ، ليخلـَد هذه الوقفة في قصيدة «كحادثة غامضة»، ولم يمر دون أن يقف موقفا إنسانيا مشرفا مع الشاعر الكردي « سالم بركات» الذي أهداه نص « ليس للكردي إلا الريح» إضافة إلى تفـاعله مع نصوص الشاعر الإسباني «غارسيا لوركا»، ومن جهة أخرى يستحضر ذكرى الشاعر الراحل «أمل دنقل» في قصيدته « بيت من الشِعر الجنوبي».
كما حاول الكتابة بأشكال أخرى كالعمودي مثلا كما في قصيدته «طريق السَاحل» مستعملا أسلوب تكرار كلمة البداية في الشطر الأول ليكون الشطر الثاني تعليقا على فكرة الشطر الأول أو تأكيدا عليها:
« طريق يؤدي إلى مصر والشام
[ قلبي يرنُ من الجهتيـنْ ] طريق المسافر من ..وإلى نفسه
[ جسدي ريشة والمدى طائر] طريق الصواب.. طريق الخطأ ْ
[لعلي أخطأت،لكنها التجربةْ ]»(19).
غير أنه لم يتقيد بنظام القافية المتعارف عليه في الشعر العمودي،وإنما هو يجعلها مفتوحة غير محددة بروي موحد، مع التقيد بالجانب الشكلي لنظام الشطرين.
ج/- انغلاق النص /انكفاء الذات: في موقف صريح ومفاجئ، كتب الشاعر نصَه /المجموعة «أنت منذ الآن غيرك»(20)، حيث حمل انتقادا صريحا لحركة « حماس «، بكثير من المرارة والشدة، فجاء هذا النَص / الموقف فاصلا أو وقتا مستقطعا في عملية استقطاب استثنائية ، حيث وجد الشاعر أنَ به حاجـة ليعود إلى واقع فلسطيني مشتت بعد أن اعتقدنا أنه تجاوز تلك المرحلة، وحلَق عاليا فوق القضية/ الإيديولوجيا والمساحات الضيَقة ، فيقول:
« هل كان علينا أن نسقط من عُلُو شاهق، ونرى دمنا على أيدينا…
لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظنُ؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ،
كي لا تبقى حقيقتنا عذراءْ؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيركْ!
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا،
وقساةً مع مَنْ يحبونَنا
تلك هي دُونية المُتعالي، وغطرسة الوضيعْ!» (21).
وبعيدا عن الموقف، فإنَ هذه القصيدة سقطت في المباشرة والتقرير وعاد الشاعر إلى استقطاب أدواته الشعرية الأولى وارتداء عباءة القضية التي ميزت مرحلة البدايات ، و إنْ حاول التكلم بضمير الجماعة لبعث روح التوحد، إلا أننا نعتقد أنه وقع رهينة الخلافات السياسية الضيقة ، بل أنه لجأ إلى التهكم والسخرية وإثارة المواقف الدينية في شكل يوحي برفض الشاعر لما يحدث لا لكونه يمثل ضميرا جمعيا، وإنما لأنه يقف في الجهة المقابلة للطرف الثاني من الصراع الدائر، وهو ما نلمسه في قوله:
« لولا الحياءُ والظلام،
لزرتُ غزةَ،
دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديدْ،
ولا اسم النبي الجديدْ
ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء،
لصار لكل عصابةٍ نبيٌ،
ولكل صحابيٍ ميليشيا!»(22)
ويختتم قصيدته بهذا المقطع الذي يلخِص واقعا فلسطينيا مترهلا في مشهد درامي نازف، بالغ التأثير، فيهمس قائلا :
« لا يغيظني الأصوليون
فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة.
ولكنْ، يغيظني أنصارهم العلمانيون،
وأنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلا بدين وحيد:
صورهم في التلفزيون!.
……….
لا أخجلُ من هويتي،
فهْي مازالت قيد التأليف،
ولكنِي أخجل من بعض ما جاء
في مقدمة «ابن خلدون».
أنت، منذ الآن، غيرك!» (23).
غير أنه ورغم خصوصية الموقف وانحصاره في موقف محلي، فإن الشاعر لم يجر وراء الإيقاع العسكري الصارخ، بل حـاول قدر المستطاع التقليل من حدة التوتـُر، فهذه المرة جعل من نصه تحـولا في التعامل مع الموضوع /القضية في شكل واقعة أسلوبية جديدة لم نشاهدها في نصوص الشاعر إذا ما تعلق الأمر بالشأن الفلسطيني.
تعالي النَص/ تعالي الذات:
في مجموعته الشعرية «أثر الفراشة»(24)، ينتحي الشاعر في القصيدة -عنوان المجموعة- منحى مختلفا ، منحى يحرك الكامن الواغل في الذات المغتربة ، ليعزف للفراشة الفقيـدة بعضا من مقطوعاته في صياغة جمالية أكبر من المعنى، أغرب منه:
« أثرُ الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَضحُ السبيلُ
………………
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ… »(25).
في هذه القصيدة ، يرتفع «درويش» أعلى، أعلى، ويحلق في رحاب نظرية « تأثير جناحي الفراشة «فيوظفها توظيفا جماليا بعيدا عن تحولات الفيزياء والتأثيرات الجانبية(26) ، والشاعر هنا يقف ملامسا حريريتها في توليف جمالي يصف فيه حدث الكتابة ، فراشـة النص التي ترتبط بلحظة مسحورة لتولِد نصا عابرا للآفاق يحدث ارتجاجا من نوع آخر مختلف ، لا يعرف الحدود ولا الفرضيات.
إن الشاعر في هذا النص، ونصوص أخرى من»أثر الفراشة» يعيد قراءة الأمكنة من جديد كأنما ينفخ فيها من روحه بعد ما لحقها من اهتراء في عملية شبيهة بالتشكيل والألوان في عالم الأطفال نظرا لأنَ أغلبها مرتبط بطفولته، «فالمكان الذي يأسر الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا خاضعا لأبعاد هندسية وحسب،بل هو مكان عاش فيه الناس ليس بطريقة موضوعية ،وإنما بكل ما للخيال من تحيُزات..» (27).
كما اشتغل على رصيد لا ينتهي من المجاز والممكنات اللغوية والتعبيـرية التي يبرع في توليدها، فيتلاعب بها باحترافية عالية ويتجاوز بها حدود الانزياح إلى ما بعد الانزياح، إلى المدهش الفوق/فكري، يحلق حيث الفتح الآخر للمعنى، فيصير الصيف خريفيا، أو قصيدة نثرية، وتصير الأفعال هامشا بلاغيا ماكرا في تحريك لعبـة المعنى التي يراوغها ما شاء، وبكل الطرق المشتهاة، فيلامس الضِدُ / الضِدَ بعد أن يجمع بينهما، ويحنو كل طرف على الآخر في علاقة حريرية متجددة.
ولا نغادر هذه المحطة حتى تستوقفنا قصيدته «قرطبة» حيث للمكان قداسته ورائحته المعتقة و دلالته الضاربة كبارق في الشعور الجمعي العربي، فيستجمع بعضا من بقايـاه، ويفتتـح إنشاده:
أبواب قرطبةَ الخشبية
لا تدعوني إلى الدخول
لإلقاء تحية دمشقية على نافورة وياسمينة.
أمشي في الأزقة الضيقة
في نهار مشمس سلس.
أمشي خفيفاً كأنني ضيف
على ذاتي وذكرياتي،
كأني لست قطعة أثرية يتداولها السياح..» (28)
شعرية النثـر:
يتجه الشاعر نحو توثيق علاقة الشعر بالنثر، أو تشعير النثر باستعمال أدوات تجريبة مختلفة كعناوين النصوص مثلا،على غرار «كقصيدة نثرية» التي يقول فيها:
«صيف خريفي على التلال كقصيدة نثرية.
النسيم إيقاع خفيف أحسُ به
ولا أسمعه في تواضع الشجر.
العشب المائل إلى الاصفرار صور تتقشفن
وتغري البلاغة بالتشبه بأفعالها الماكرة.
لا احتفاء على هذه الشعاب إلا بالمتاح
من نشاط الدوري،
نشاط يراوح بين معنى وعبث» (29).
هي محاولة لتجريب ممكن تعبيري آخر ، و«شكل تجريبي بديع»(30) قد يكون هامشا إضافيا يركن إليه الشاعر بما يتيحه من فضاء هو بحاجة إليه ،أو هو حالة للتنفيس شكلت فاصلا إبداعيا في آخر أيامه.
ولا شك في أن مجموعته الشعرية «أثر الفراشة»، كشفت تجديدا في أدوات «درويش» الشعرية ، للوصول بها إلى الذروة ، ذروة المعنى العابر للآفاق ، فقد أبدع وتألق على مستوى الجملة الشعرية التي أصبحت تشكل في كثير من الأحيان نصوصا كاملة المعنى، والأمر ينطبق على عناوين نصوصه أيضا ، حيث أصبحت كثيفة متعالية، و متجاوِزة لما هو مُتجَاوَز، مع ميل واضح نحو النص النثري، فعندما يعنون أحد نصوصه «كقصيدة نثرية»؛ يضفي على المتن الشعري تحولا إيجابيا نحو التفاعل الشعري/ النثري في حوار جمالي راق. كما ابتدع هامشا تعبيريا آخر، جعل فيه من يومياته العادية نصوصا مقروءة كجلوسه أمام أو حديثه في المقهى ، أو قراءته الجريدة، أو لحظات الكتابة حتى وإن اتخذت طابعا قصصيا بحتا،فهي تمثل خربشات حاول أن ينفِس بها الشاعر عن نفسه قد ندرجها ضمن النصوص الشعرية أو القصصية كجنس أدبي متعارف عليه ، وقد تكون خارج مجــال التجنيس ، فنعتبرها خاصية أسلوبية مثل نصوص «البنت/ الصرخة»، « حنين إلى نسيان»، «مواعيد سرية»…
وكخلاصة نقول:
إن «محمود درويش» بقي وفيا لأهم خاصية شعرية وهي التجديد على مستوى البنيـة الإيقاعية فقد كان شاعرا إيقاعيا بامتياز، إضـافة إلى كونه استغـلَ ما أمكن من التقنيات التعبيرية دون الخروج عن خاصيته الشعرية ، وأهم فتح في هذا المجـال قصيدة السـَرد – كما أسميها- حيث أوجد للسرد متنا شعريا يناسبه وينقله من حالته الرتيبـة إلى حـالة مرنة قابلة للتشكيل الجمالي .
ويكفي أن نقرأ مقطعا ما لندرك أنه للشاعر الفلسطيني «محمود درويش»! الذي بقي محافظا على حركية المستوى الإيقاعي، منسجما مع كثير من قناعاته التعبيرية، واستمرَ يسعى لأنْ يضيف لها جديدا في كل مرة، وهو ما تجسد أثناء المرحلة الأخيرة في متنه الشعري، لمـَا انفتح على مختلف التجارب ، وخرج من عباءة شاعر القضية إلى العالمية، لينطلق محلـِقا في فضاءاتها، مبدعا بشكل مغاير تماما، فلم يكن شاعرا فحسب، بل كان لاعبا محترفا في ممارسة غواية النَص/لعبة المعنى التي لا يستطيع الفكاك منها ولو أراد ، ببسـاطة لأنَ الإيقـاع يختاره – كما كان يقول دائما- وليس له بد من الاستجابة، فثمـَةَ علاقة حميمية مقدَسة لا تشبهها إلا علاقته بالأرض ، وهو ما تبرزه آخر نصوصه الشعرية،إنه حالة شعرية مختلفة -كما يقول صلاح فضل-(31) .
الهوامش:
(1): Leo, Hoek, la marque du titre , dispositifes
semiotique d une pratique textuelle .la hage.mouton .
paris.1981 ;p:28
(2):صدرت طبعتها الأولى سنة1995.
(3):صدرت طبعتها الأولى سنة 2004.
(4): صدرت طبعتها الأولى سنة2007.
(5): الراجح أنه موجه لحركة حماس الفلسطينية، وهو ما سنقف عليه حال مرورنا بالنص.
(6): محمود درويش،جدارية، رياض الريس للكتب والطباعة والنشر ، ط1، بيروت، 2001، ص:86
(7): نفسه، ص:89
(8): نفسه.
(9) :محمود درويش،لا تعتذر عما فعلت، دار الريس للنشر،ط1، لبنان،2004، ص:15
(10):محمد نجيب التلاوي، القصيدة التشكيلية في الشعر العربي،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1998 ، ص:186
(11): عبد السلام المساوي ، جماليات الموت في شعر محمود درويش، (مرجع سابق)، ص: 60
(12): محمود درويش،لا تعتذر عما فعلت،(مرجع سابق)،ص:38
(13):صدرت طبعتها الأولى سنة2005 عن دار الريس للنشر ،لبنان.
(14):محمود درويش ،كزهر اللوز أو أبعد ، دار الريس للنشر، ط1، لبنان،2005، ص:39/40
(15): المصدر السابق، ص:167
(16): وجدان عبد الإله الصائغ، مباهج النص، الهيئة العامة للكتاب، اليمن،2006، ص:15
(17): كزهر اللوز أو أبعد ، (مصدر سابق):ص:194/195 . (18): السابق،ص:187.
(19): السابق،ص:125
(20): صدر سنة:2007.(21): السابق.
(22): نفسه.
(23): السابق.
(24):صدرت طبعتها الأولى سنة 2008.
(25): محمود درويش،أثر الفراشة،دار الريس للنشر والتوزيع،ط1،لبنان ، 2008، ص:131
(26): هذه النظرية الفيزيائية أساسا، و التي ابتكرها « إدوارد لورينتز» سنة 1963 ، تحاول إيجـاد علاقة ما بين حدث بسيط وأحداث كبرى قد تكون على علاقة بها في شكل ردود أفعـال، حيث قدم مكتشف هذه النظرية تمثيلا يبدو ساذجا للوهلة الأولى، حيث يمكن أن يُحدث رفيف جناحي فراشة في منطقة ما من الكون بركانا وأعاصير وارتدادات في مناطق أخرى بعيدة مـن العالم، وهو ما يجعل من هذا العنصر تخييلا علميا أكثر منه واقعا.
(27):سيزا قاسم،بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، القاهرة، 1984، ص:76
(28): محمود درويش،أثر الفراشة، (مصدر سابق) ، ص:192
(29):السابق، ص:21
(30):صلاح فضل،تحولات الشعرية العربية، دار الآداب، ط1، بيروت، لبنان،2002، ص:11
(31):راجع:
صلاح فضل،محمود درويش حالة شعرية، ط1، الإمارات العربية المتحدة، 2009.
________
*شاعر وباحث من الجزائر/ مجلة نزوى