(ثقافات)
حدود السرد في القصة التاريخية “وثيقة المطالبة بالاستقلال” للقاصة آمنة برواضي
د. محمد أمحور
أصدرت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الثانية من قصة وثيقة المطالبة بالاستقلال 11يناير1944، للقاصة آمنة برواضي.
والمتأمل لغلاف هذا الكتاب سيدرج هذه القصة في أدب الأطفال انطلاقا من اللوحة التشكيلية المرسومة من قبل الفنان بدر السنوسي بشكل بديع وأنيق، فهي تحيل مباشرة على الحدث الرئيسي لهذه القصة أو بالأحرى على المحكي الإطار لها الممتد من سنة 1934إلى 1955وهي الفترة التاريخية التي ناضل فيها الشعب المغربي من أجل الحرية والاستقلال تحت القيادة الرشيدة للمغفور له الملك المجاهد محمد الخامس طيب الله ثراه. وأن يتحلق الأطفال حول الجد في أسفل الصورة مرتدين مناماتهم والعلم الوطني يرفرف عاليا على صورة وثيقة 11يناير 1945 فهذا يعني أن السارد سيركز على رواية الأحداث التاريخية المصاحبة لوثيقة المطالبة بالاستقلال بشكل أساس، فهذا المحكي الإطار يفسح المجال لمخيال الطفولة لإثارة الجد بأسئلة قد تبدو بسيطة لكنها في غاية الأهمية بالنسبة لهذه الفترة العمرية من حياة الإنسان.
إن هذه القصة تتخذ من الحوار مدخلا أساسيا للسرد والحكي، على لسان السارد/الجد الذي يعمل على تكثيف الحكي في مقاطع سردية دالة على أحداث تاريخية هامة مستغلا ذكاء الأطفال وقدرتهم على التقاط كل شاذة وفاذة عبر فعل السرد العميق والرصين، ولا غرو فالمتن الحكائي غاص بالمفاجآت والأحداث، انطلاقا من الصفحة السابعة وعلى صفحات تترى من هذا السجل القصصي حيث تندغم الأحداث التاريخية مع السرد المعقلن. وأن يستغل المتلقون؛ نيضال، جيهان، ياسين، ولع الجد بالأحداث التاريخية للمغرب لإثارته بمزيد من الأسئلة فهذا يدل على رغبتهم العارمة في ربط الحاضر بالتاريخ المجيد للمملكة المغربية وبالمسقبل الذي سيعيشه هذا الجيل متسلحين بالذكريات المجيدة التي تحتفظ بها الذاكرة الوطنية.
إن المرسل أو السارد يفصح منذ الوهلة الأولى أنه يود ربط الحاضر بالماضي والمستقبل عبر فعل السرد المعتق. يقول موجها خطابه للأطفال المتحلقين حوله (حكايتنا اليوم يا صغاري لها علاقة باستقلال هذا الوطن، وحريته من قبضة المستعمر الغاشم. سوف تكون قصتنا عن حدث نوعي بارز من تاريخ ملحمة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، والتي تعد من الذكريات المجيدة التي تحتفظ بها الذاكرة الوطنية.) ص20.
إن السارد ينحت الأحداث التاريخية بشكل ينسجم وذاكرة الجيل الجديد المتعطش لهذه الحكايات المشوقة؛ إنها ملحمة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وتحقيق السيادة الوطنية والوحدة الترابية.
إن تشوق المتلقي /الطفل لفهم الأحداث التاريخية المصاحبة لهذه الوثيقة حفزه على الاستفسار عن دلالة بعض الأفعال السردية التي قد تبدو مفهومة لدى الأجيال التي عايشت هذه الفترة التاريخية لكنها تحتاج إلى شرح وتفسير للجيل الجديد لتمثل مغزى الكفاح والجهاد من أجل الحرية والاستقلال. وقد كان الجد متحمسا لتلقي هذه الاستفسارات وأحاطها بعناية تامة شرحا وتفسيرا بلغة سردية ماتعة. فشرح لأحفاده بطريقة ذكية ومناسبة لأعمارهم كيف تكالبت القوى الاستعمارية على المغرب، وكيف كان الطريق أمام المقاومين والوطنيين كان مليئا بالأشواك. ثم المطالبة سنتي 1934 و1936 بإصلاحات مستعجلة لما كان يعانيه من هشاشة في جميع الميادين، ووثيقة المطالبة بالاستقلال في 11يناير 1944، وكان المغفور له محمد الخامس من يعمل على إذكاء جذوتها وبلورة أهدافها السامية منذ توليه العرش يوم 18نونبر 1927م، وطرح محمد الخامس في مؤتمر أنفا التاريخي في يناير 1943 قضية استقلال المغرب، وإتمام نظام الحماية انسجاما مع مبدإ حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وقف المتلقون للسرد مليا عند كلمة (أنفا) مستفسرين عن دلالتها، وهنا تدخل الجد/السارد مفصحا أنها مدينة الدار البيضاء في تلك الفترة التاريخية العصيبة، ثم استرسل في سرد العلاقات بين سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية وبين الحركة الوطنية التي كان الملك محمد الخامس بطلها وملهمها بإيمان عميق وعزيمة راسخة هذا الاسترسال في الحكي لم يكن ليتم بهذه الوثيرة لولا أن الجد/السارد قد لمس في شخوص القصة الرغبة الأكيدة في المشاركة في بناء حبكة القصة عبر الحوار الذي استغرق صفحات عديدة (ص 7، 8، 9، 10، 8، 9 ، ، )، وهو زمن الحكي الذي اندغم مع الزمن النفسي للشخصيات الذي انصهر بدوره مع زمن الأحداث، أذ يصعب أن نفصل بين هذه الأزمنة ما دامت الشخصيات الواقعية مشاركة بشكل ضمني في أحداث القصة وتفاصيلها الدقيقة المعضدة بصور احتفت بالألوان الزاهية في الثقافة المغربية كاللون الأزرق وما يرمز أليه من مجد وسمو ورفعة وحضارة مغربية راقية، ولون العلم الوطني الاحمر والأخضر المرفرف في صورة غلاف الكتاب في الصفحات 25 و27، 28، على الرغم من كيد الكائدين وغطرسة المستعمر.
إن السارد قد أعان الشخصيات/الأطفال المستمتعين بهذه الحكاية على الوصول إلى استخلاص مغزى وثيقة المطالبة بالاستقلال بلغة سردية طيعة تستعين بالتاريخ تارة وتتترك فجوات وفراغات سردية هي بمثابة محكيات صغرى تارة أخرى. والجميل انها تمكنت من فهم هذا المغزى، وهو استقلال المغرب تحت قيادة ملك البلاد الشرعي محمد الخامس طيب الله ثراه. وأن تتدخل الخالة الشخصية الثانوية في هذه الأقصوصة لتسرد على الأطفال أسماء بعض الوطنيين الذين وقعوا على وثيقة المطالبة بالاستقلال، وتكلفهم باعتبارها أستاذة مادة الاجتماعيات للبحث عن باقي الأسماء مستعينين بوسائل التكنولوجيا الحديثة فمن أجل ربط الحاضر بالأحداث التاريخية واستشراف المستقبل الواعد.
لقد استطاعت القاصة آمنة برواضي أن تعيد كتابة وثيقة المطالبة بالاستقلال بلغة سردية وارفة يفهمها الطفل المغربي في زمن العولمة والإعراض عن القراءة، ونجحت إلى حد كبير اعتمادا على الأطر المعرفية والثقافية المغربية على تشكيل شخصية الطفل المغربي عبر إشباع اهتماماته السردية بالمنهجية المتزنة والصحيحة. والكاتبة تؤمن إيمانا راسخا بأن الطفل هو بمثابة بذرة ولكي يصبح شجرة يجب أن يسقى بماء نظيف حتى تزهر، ثم إن الحفاظ على الإرث التاريخي يسهم في بناء الوطن وإكساب الأطفال قيم وطنية .