عمر أبو الهيجا في( بلاغة الضحى) بين دائرة المعنى ودائرة الرمز

(ثقافات)

عمر أبو الهيجا في ( بلاغة الضحى): بين دائرة المعنى ودائرة الرمز

  • نايف النوايسة

      ماذا ينبغي علينا أن نفعل أمام قصيدة محكمة الإغلاق عصية على الاختراق؟

     قد يُعمّى الباب عليك أو يُموه لتكون أجزاؤه كالقلعة العصيّة فلا تدري كيف تدخلها، أمام هذه الحيرة أعليك انتزاع حجارة قلعة القصيدة سطراً سطراً لتصل إلى ما تريد؟ أم تقف مطولاً وتدير الأزمة بضياء الفكر وروية البصيرة؟

      أمام قلعة القصيدة، علينا قراءة أي علامة  وأي أثر لنهتدي إلى الباب..

    هذا ما فعله بنا الشاعر عمر أبو الهيجا وهو يحملنا إلى قلعته المنيعة( بلاغة الضحى)، ودعانا مع صخب اللحظة وبلاغة ما فيها لندخل، ويقول: هاكم قلعتي وفتشوا جيداً عن الباب والمفتاح، وحذار من حقول الغواية قبل أن تصلوا إلى مخادع المعنى..

   أفتح هذا الديوان بحذر شديد وأصطدم ب( مدخل..) وظننته سيقودني إلى حجرات القلعة الثلاث عشرة، وما خاب ظني، لأن الشاعر سلخ من ذاته ذاتاً لتنام وحيدة في الميادين وتتقلب على جمر الثورة وتغني للحرية، إذاً، نحن أمام ولادة جديدة لعصر جديد والحرية هي المبتغى، ولأن الشعر في أصله غناءٌ، فلا يليق بالحرية إلاّ القصيدة، والقصيدة في هذا الديوان موزعة على ثلاثة حقول للحرية؛ الثورة والمرأة والقصيدة ذاتها، ومبتدأ الحرية هي الثورة، وكذلك مبتدأ الديوان.

  نبدأ مع أبو الهيجا بقصيدة الثورة، وهو إذ يشبه البلاد في قصيدة( سماء تقهقه بالرعد) بامرأة تفور في الموقد فإنه يظل مع اشتعال البلاد بالثورة على الظلم كقهقهة الرعد بوجه الجفاف من أجل ربيع حقيقي يليق بالفجر والحمام والدم المزهر والشمس والشجر والتراب، وما الأصوات القادمة إلاّ إرادة الجماهير التي ستزرع شجر الحرية بوجه الظلم..

   وهذه البلاد هي بلادنا التي تحتشد فيها العساكر على حافةٍ لصناعة غبار الظلم والهزيمة، وعلى الحافة الأخرى يقف الأطفال كمقدمة للتحرير بعد أن طال أنين المدن على جدار الليل بانتظار تباشير الفجر..

   وبين( اقلب البلاد بين يدي) و( بلاد العرب أوطاني) نرى أغاني الحزن وغراب الموت ومعسكرات الظلمة وأقباء التعذيب بالأمونيا، ويأتي من معين الذكريات أول شهيد على درج الحرية، ومع قهقهات الرعد نرى شارات النصر والهتاف الخالد: ارحل..

   ويعبر الشاعر في قصيدة( الجهات مؤقتاً) حافة الظلمة إلى أرصفة النور.. وأي جهات يقصد؟ هي التي تسرق المعاني والعزيمة، هي التي تسرق الإحساس والذائقة وتحرّم على الآخرين التوجع والأنين لأنها معاقل للعواء، ويرى نفسه في الجهة الأخرى مع جسارة الجمر، ويمضي الشاعر في توصيف رحلة الجهات ودرجات الظلمة التي لا يناسبها إلاّ انفجار اللغة، وهنا يكون بالإمكان اصطياد الولادة من جهة، وبعد الرحيل من جهة أخرى..

  عند أبو الهيجا تولد القصيدة من الجهة الخامسة حين يسود المعنى، ولا يعني هذا إلاّ إعلاناً لولادة الحرية.. ويقول الشاعر:( لما خرجت عن النص، نمتُ في سلة الجرح وحيداً، لا أحد يشبهني، في الحطام).

   هل أراد السجن حينما بدت المعارضة منه؟ ويفسر ذلك فيما تلا من لوحات وهو واقع تحت ثقل الإحباط ونعمة الأمل.. ولكن:( الجهات لا تمل الوقوف/في انتظار/المتعبين.) هذا مثال على ما وجدته عند الشاعر في قصيدة الثورة، وقد استخدم ضمير المتكلم بدقة لوصف اغترابه وتشظيه أمام الواقع المدمر، ولا نعجب إزاء ذلك أن يتقن الشاعر رسم الصور المقلوبة تعبيراً عن سخطه وعدم رضاه، وحسبه من فنيات القصيدة أن يفاجئك ب( الفعل) من زوايا لا تتوقعها:( كلما خطّني نصٌّ، أخذتني متعة التحليق في ثياب التاريخ)، اعتراف بالهروب أو التواري لأنه مطارد من( الجهات):( ربما أنا شبيهي الوحيد، وكل الشواهد ضدي).

   أما قصيدة المرأة عند عمر أبو الهيجا فهي ملتحمة بالثورة والقصيدة، ولم يكن الشاعر زيراً للنساء ولا نزاراً في إشاراته وإنما هو دائرة للمعنى ويبحث عن متطابقاته ولأنه كذلك نجده قد جنح إلى الرمز لينشّط ما استرخى من ذائقة المتلقي كي يفيض من دائرة الرمز المحكمة إلى دائرة المعنى الرحيبة، فالقصيدة من أجل الثورة هي رسالة واضحة ضد الظلم ولا يختلف عليها اثنان، والقصيدة من أجل المرأة هي للارتفاع بها من ساحة الهوان إلى معاني العنفوان.

   وفي قصيدته( رغبة نهر فيّ) نقف على المرأة الحقيقية التي تسكن الشاعر، لكنه يدخل إليها من باب النفي( ليس تماما/ أن أسوق دمي إلى غيومه/ أو يأخذني نصف نومي/ لامرأة في حضرة الليل)، ويمضي غارقاً في التضاريس المادية للمرأة من الجسد والصدر والعطر والشفتين والخد والعيون، ومع كل ذلك لا أجد أبو الهيجا متشوقاً لجسد امرأة بتفاصيله المولّدة للجنس، إنه مشغول بشأن آخر يتفق مع مشروعه الرؤيوي الذي تتداخل به كل خيوط فهمه للحياة.. يقول:( مرري الآن حروفك/ على خدي الورق/ كي أحج معتمراً ببلاغة الضحى/ إلى كعبة روحك..) فمن التي طُلب منها هذا الأمر؟ أهي الثورة أم المرأة أم القصيدة؟ جميعها مؤنثة وأقربها لنا في الظاهر هي المرأة ولكن سياق القصيدة ووحدة الديوان يشيران إلى رؤية الشاعر حول( الثورة والمرأة والقصيدة)، وترد مفردات عديدة تؤشّر إلى ذلك مثل: التراب، العارف العاشق المتوحد، الأردية البيض، ومن جرح إلى جرح أصغيت لأنثاي، وتحمل كلمة الصعاليك كل معاني رؤية الشاعر، ويخاطب ابنة الموج قائلاً:( لي في حدود العشق مفردة/ وتأويل شاعر/لم يترك في منازل الحياة/غير ريش المنافي/ وسرد طير على حجر الغمام/ خمسون قنديلا/ في غيابة الجب..) ونلمّ من هذا المقطع، العشق والمفردة والمنافي وخمسون سنة من الضياع أو التضييع، جميعها تندرج في إطار البحث عن طريق للوصول للحرية، ولو كان الشاعر عابثاً كالشعراء الذين يأسرهم الجسد لقال: كل امرأة سريتُ بها إلى حقولي/زوجتها نبيذ إيقاع/وأسكنتها هواي.. لكنه سما بالمرأة التي تستحق وجودها في رؤيته بقوله:( كل امرأة أسْرَتْ بي إلى حقولها/زوجتها حنطة إيقاع/وأسكنتها دماي).

    ونجد الشاعر في أدق خصوصياته مع المرأة مختلفاً عن بقية الشعراء، يقول في( فتوحات):( كل المحبين يغنون على ليلاهم/وأنا اغني على/.. ليلاي)، إذاً، ليلى الشاعر هي ليست امرأة كبقية النساء اللواتي يغرق في عشقهن الشعراء، ولا أقلل من قيمة الشعر الخاص بالمرأة، ولكن أبو الهيجا له( ليلى) أخرى ليست من لحم ودم.. وفي قصائده الأخيرة من الديوان نجد المرأة بكامل حلتها المثيرة ولكن على حياء من الشاعر الذي أغرقها بغلالة من الصور والانزياحات وكأنه يرسمها رسماً، ولم تفارقه هواجس القصيدة، فهو مشغول بالمرأة من جهة وبالقصيدة من جهة أخرى، وتنزع الاثنتان إلى الثورة أو مفارقة( العادية) إلى اللحظة الاستثنائية.. المرأة عند أبو الهيجا وإن توافرت عناصر تكوينها الجسدي إلا أنها محمولة على الرمز برسم اكتشاف المعنى..

وفي قصائده( كأني خفة الصوفي) تنثال إلينا قصيدة القصيدة من الكلمة الأولى:( حزن يسقط من علٍ،/على ورق أقل بياضا،/ الكتابة عطشى،/وأنا/تفاصيل/الماء)، هو ذا مخاض القصيدة ومراودة اللغة والمفردات، ويغرقنا الشاعر بصوره الجميلة( يعري الأشياء من فكرتها،/يفك أزرار الحروف،/لتفيض/بالتراتيل/ والرقصات). وفي قصيدة القصيدة لا ينسى اشتعالات الثورة مُعلِنا( أنا الولد البكر،/ريشي قليل بعد،)، هذا الولد لحق بالشهداء شهيداً لتكون سيرته/الشهادة.. ويحقق بذلك ما حققه الصوفي بانعتاق روحه..

   وتتحقق لقصيدة القصيدة شروطها حين يعلن الشاعر في نصه( هذا أنا.. كما أنا) بأنه كان( وحيداً يجر خسائره في بهو النعاس/ذات ظلام مسجّى في الصالة..) وتمضي به القصيدة إلى المرأة مرة وإلى الوطن معظم الزمن.. هو مسكون بهذا الوطن إلى حد الصراخ بالناس، ويظل على إيقاع القصيدة المشتبكة مع جملة معاني الشاعر التي تتجه نحو الثورة والمرأة والحرية.. هو شاعر لا يحيد عن مبتغاه باعترافه الجميل( ونمشي مبللين/ بالغناء،/إلى/ أول بيت/وآخر صووووت).. وفي لوحة( الشاعر2) يعلن أبو الهيجا:( هذا أنا كما أنا،/شاعر بلا قبيلة أو حراس،/ألوذ بالقصائد،/أمشي على حبر مصفّى.. تتناقلني خمسون محطة)، اعتراف آخر للثمن الذي يكلف الشاعر حين يترجم ما بداخله موقفاً صارماً يقود إلى محطات الرؤية ومواقدها.. وانتهي ل( بياض الحرف) الذي كرّس فيه رسالة الشاعر الملتزم الجاد:( بين يدي القصيدة،/فتحت ألف نافذة على ألمي،/لم أرَ في بياض الحرف غير دمي….) هو دم مقدس يسيل على مذبح الحرية بتحطيمه كل صنم.

   ومن جرح القصيدة النازف يدخل لباحة السجن ملاقياً صديقه الشاعر موسى حوامدة، وفي قصيدته( ألقى السجن أثقاله عليك) يفصّل بأجمل الصور عن محنة الشاعر حوامدة وتغييبه وراء الشِباك جسداً لكن سجّانيه لم يستطيعوا تغييب لسانه.. فكان المقاوم الحر الذي يأخذ من أمه( مليحة) زيت المقاومة وضوء النهار وحبر القصيدة، وتباركه من موسى( سلالة الريح وعناوين مطرك)، ويبوح أبو الهيجا بقصة مصادرة ديوان( شجري أعلى) ويرجو الشاعر بأن يصمد ولا يتخاذل لأن القضية الكبرى( فلسطين) هي المبتغى، وينتهي إلى وجدانية جميلة على كف القصيدة( لك يا صديقي طمأنينة الحرف./لك القصيدة،/لك الجريدة،/وكل هذا المداد،/من نهب الذاكرة،/المهددة بالفناء./لك كل هذا الغناء.).

   هذه إضاءات منتهبة من ديوان يحتاج لوعي ما فيه وقتاً أطول ووقوفاً أعمق، أردت من ذلك أن الفت لخارطة الرمز المتشابكة وأفكّ بعضاً من أزرارها ومظانها لاقف على بعض المعاني التي تتشكّل منها رؤية الشاعر حول الثورة والتحرر، والمرأة والكرامة، والقصيدة السقف التي تضم كل هذا الوجع النابت من النفس والوطن والجرح والقضية.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *