(ثقافات)
حكاية الفلسطيني في “رواية النهر.. بقمصان الشتاء” للأديب حسن حميد
رائد الحواري
إذا ما توقفنا عند العنوان سنجد مكان/النهر، ووقت/زمن الشتاء، وعنصر بشري مختفي “بقمصان، عادة ما يرتبط الشتاء بقصص وحكايات الجدات، وهذا ما جاءت به الرواية، حيث تتحدث عن قصة حب بين “دندي وشتيوي”، وأيضا يأخذنا فصل الشتاء إلى زمن/وقت موت الفلسطيني، هكذا تناوله كتاب الرواية الفلسطينية.
إذن نحن أمام (حكاية) حب وموت ومكان، متعلقة “بشتيوي ودندي” حدثت في “الشماصنة”، لكن صياغة (حكاية) شعبية بشكل روائي ليس بالأمر السهل، ويحتاج إلى قدرات أدبية استثنائية، وهذا ما فعله “حسن حميد” في رواية “النهر.. بقمصان الشتاء”.
فقد أعطا العديد من الشخصيات لتروي (الحكاية) وتتحدث بما جرى في “الشماصنة” وهذا التنوع في السرد منح الرواية جمالية أدبية، وأخرجها من حالة (الحكاية) البسيطة إلى الرواية العميقة، مما جعل المتلقي يستمتع بالأحداث وبطريقة السرد، رغم الموت والقسوة التي واكبت الأحداث والشخصيات.
“شتيوي ودندي”
نعرف القارئ بالحدث المركزي الذي تدور حوله الرواية والمتعلق ب”شتيوي” الفقير “بدندي” ابنة “سمعان” الملاك، حيث كان الحب متبادل بينهما، وهو حب عذري لم يصل إلى السفور، حيث كان “شتيوي” يكتفي بالنظر إلى حبيبته، وإذا ما التقى بها كان لقاءً بريئا.
يحلم “شتيوي” حلما فيقرر أن يذهب إلى “بنت جبيل” ليأتي بأساور فضة ل”دندي” وفعلا يذهب ويبدأ بالعمل عند أحد الأشخاص ليوفي ثمن الأساور، وبعد سنة كاملة يأتي بأساور الفضية ويهديها لحبيبته، تتطور العلاقة بينهما حتى أن والد “دندي” “سمعان” يبدأ في مراقبهما وملاحقة “شتيوي” الذي يمسك به فيقوم بربطه مع الدواب ليحرث الأرض، ومع هذا يبقى الحب قائما بينهما.
يقرر “سمعان” اللجوء إلى طريقة شيطانية يتخلص بها من “شتيوي” بحيث يعلن موافقته على خطبته لابنته، ويطلب منه أن يأتي بجاهة لخطبتها، وعندما تأتي الجاهلة ـ ورغم تحذير الراهب “عطايا” ل”سمعان” من أن يكون هناك خدعة في الأمر، إلا إن “سمعان ما أن يتم طلب يد “دندي” حتى يطلب “جرة ذهب” رغم علمه باستحالة جمعها حتى من قبل الأغنياء.
وهنا يبدأ “شتيوي” رحلته في جمع مهر “دندي” يذهب مرة أخرى إلى بنت جبيل وصيدا ليجمع المال، وما كان يجمعه يضعه عند “نعمة”، ولكن يتم سرقة الذهب من نعمة ويتم قتلها بعد أن تركت طفلها وحيدا، وهذه أول انتكاسة تصيب “شتيوي” ومع هذا يقرر الاستمرار في مهمة “جمع المهر” يذهب إلى “صيدا” وهناك يتعرف على “فتحية” صاحبة المقهى، يتعرف عليها وتعرف قصته فتعجب به وتقرر أن تخوض معه غمار المغامرة، تبيع المقهى لتلحق بحبيبها “نديم” في أمريكيا.
وبما أن “شتيوي” كائن بشري، فإنه يميل نحو “فتحية” لكن كان هناك ما يحول دون ذهابه بعيدا معها، فرغم أنهما مسافران في نفس الباخرة وفي ذات الغرفة إلا أنه لم يقترب منها: “على الرغم من أنها تنام إلى جواري، لا يفصلها عني سوى مسافة قصيرة، اثنان هما: نديم، ودندي، لولاهما لما اخترت مخلوقة أنثى سوى فتحية” ص196، وهذا تأكيد لسلوكه النبيل والأخلاقي، فهو رجل يتمتع بالقيم والوفاء، لهذا لم يقبل أن يذهب بغريزته إلى الخيانة، خيانة “دندي” وخيانة فتحية.
في أمريكيا يبدأ بجمع المهر الذي يحتاج إلى سنوات عديدة، فعمل في أكثر من مهنة: “عملت حامل أموات،…كما عملت في محل للخضار” ص200، وخلال عمله يتعرف على مجموعة من النساء اللواتي يستلطفنه لكنه يبقى محافظا على وفاءه وحبه ل”دندي”.
تطلب منه “فتحية” أن يرسل رسالة إلى أهله وإلى “دندي” ليعرف هذه التفاصيل المؤلمة: “أبي مات، وأمي ماتت.. أصبحا قبرين، البيت مغلق، ودندي تزوجت وطلقت، ولها ابنه عمرها سنوات اسمها “زانة” وسمعان تزوج” ص202.
يجمع “شتيوي” المهر ويقرر العودة إلى قريته، يحدثنا عن لقاءه ب”دندي” بهذا المشهد: “ولم أدر كيف تنبهت لصوت امرأة شق رأسي! فنظرت إلى جهة الصوت، فرأيت صاحبته.. إنها دندي.. تركض نجوي حافية، يا إلهي، هي دندي،.. أعرفها من بين نساء الأرض جميعا، المجنونة لم تصدق أنني جئت، ولم تنتظر وصولي إليها، فجاءت إلي!! أركض نحوها، وما إن أصل إليها حتى آخذها إلى صدري، وأطويها عليه فهتفت: “أخيرا.. جئت يا شتيوي.. جئت يا دندي.. جئت… وها أنذا أعود من أجلك يا دندي .. أعود.. معي الذهب الكثير” ص207و208 ما يحسب لهذا اللقاء أنه جاء ليؤكد روائية الحدث، وليؤكد وفاء الحبيبين لبعضهما، وإذا ما توقفنا عند لفظ “دندي” الذي كرره “شتيوي” نصل إلى عمق الترابط الذي يجمعه بها، وإلى أنها فعلا كانت حبيبته الوحيدة، لهذا تحمل الغربة وشقاء العمل ليحقق رغبة والدها “سمعان” الذي كان قد راجع نفسه وعرف خطأه، فيقرر أن يزوجه “دندي” دون مهر.
يتزوجان وينجبان الأطفال، ويقوم “شتيوي” بشراء الأراضي ومعصرة زيتون، ويصبح من وجهاء البلد، حتى إن “أمين الحسيني” يطلبه ليكون معه في الحزب الذي أسسه، وهنا تكون (النهاية سعيدة) حسب الحكايات الشعبية، لكن وجود الدخلاء، الإنجليز واليهود كان المنغص الحقيقي لهذا العائلة ولبقية سكان القرية والمنطقة، حيث يتم تدمير المعصرة وبقية المعاصر الأخرى، وتُسقط فلسطين ال48 وتضيع ثروة “شتيوي” فيلجأ إلى سورية ويبدأ حياته بصورة (عادية) إلى أن تقع حرب 1967 ويتم احتلال الجولان، وهنا يرفض “شتيوي الذي أصبح جدا مغادرة بيته قائلا: “لن أخرج! ولن يضحكوا علي مرة أخرى” ص273، علما بأنه عائلته كلها كانت قد غادرة قرية “نعران”، ويبقى مقيما في بيته، يزرع ويحصد، يأتي ابنه “قعدي” كفدائي يبحث عنه في القرية، ويبقى مصرا على البقاء وحيدا، إلى أن يتم قتله من قبل جنود الاحتلال الذين وجدوا في وجوده استفزازا لهم، فعندما يأتي “قعدي” لزيارته ولا يجده في البيت يبدأ البحث عنه مع رفاقه وبعد ثلاثة أيام من البحث يكتشفوا أنه قتل عند نبع الماء، فيقرر ابنه “قعدي” حمل ما تبقى من جثته في كيس ودفنه في سورية، بهذه الفاجعة تم إنهاء الحديث عن (حكاية) “شتيوي ودندي”.
الإنجليز والصهاينة
تناول الرواية الإنجليز وكيف مهدوا وأسسوا لقيام دولة الاحتلال، وكيف أن المحتلين الصهاينة لم يتوانوا عن استخدام كل الجرائم لتهجير الفلسطيني من وطنه، من هنا نجد العديد من الصور تتحدث عنهما: “..طار بها لغم أرضي قسمها إلى نصفين، فاشتعلت النيران بها، مات من مات، واحترق من احترق، وجرح من جرح، قتل السائق، وثمانية أنفار، وجرح الباقون، وتوزع الحزن على القرى، والبيوت، والناس!” ص111، هذا مشهد من مشاهد القتل الجماعي التي مارسها الإنجليز والصهاينة بحق الفلسطيني، فقد استخدموا القوة (المفرطة) لتهجير الناس من فلسطين.
ولم يقتصر الأمر على تفجير الحافلات بل تعداه إلى تفجير ونسف البيوت والمرافق العامة: “… إن العبوات والألغام التي دمرت الحمام هي من النوع ذاته الذي دمرت به بيوت قرية العباسية…
ما الذي فعلته لهم ليأذوني؟! وما الذي فعلته النساء لهم لكي يجعلوا أولادهن أيتاما!” ص164، إذن التدمير والقتل نهج اتبعه الإنجليز والصهاينة لتمكين الصهاينة من احتلال فلسطين وتهجير أهلها منها، من هنا كانت المستوطنات/”الكبانيات” تتوسع على حساب الأرض الفلسطينية وعلى حساب أصحابها: “الإنكليز يستعدون لتسليم البلاد إلى اليهود! قرى دمرت، وبيوت نسفت، وكبانيات اليهود تنتشر فوق التلال!” ص203، هكذا وبهذا النهج تم تسليم فلسطين إلى الصهاينة.
ولم تقتصر جرائم المحتلين على عام 1948 وما قبله، بل تعدته إلى ما بعد حرب 1967، حينما قامت بقتل “شتيوي”، فقط لأنه رفض أن يغادر بيته: ” كان ذاهبا لكي يملأ دلوه وإبريق الوضوء بالماء.. فقتله اليهود بجوار نبعة الماء، أفرغوا الرصاصات في رأسه” ص288، السارد من خلال تناوله لما فعله جنود الاحتلال ومن أوجدهم، الإنجليز، يتأكد للقارئ أن جرائم المحتل متواصلة ومتتابعة ومتكررة، وأن الهمجية والوحشية تلازم المحتلين، وعلى أنهم لا يمتون للإنسانية بصلة، فلا مجال للقاء/للأمل في إصلاحهم أو تغييرهم، فهم معنيون بقتل الفلسطيني أينما كان وحيثما حل.
الفلسطيني
ما يحسب للرواية أنها قدمت الفلسطيني بصورة إيجابية، بصورة المقاوم للمحتل، فقد تم استشهاد “أبو عبادة” زوج “نعمة” إثناء تصديه للاحتلال، مع أن زوجته كانت حامل وفي شهرها الأخير: “لو أنه انتظر شهرا واحدا فقط ليرى ابنه، ويكبر في أذنه” ص139، بهذا المشهد أراد السرد أن يرد على كل من قال بسلبية الفلسطيني وخنوعه للمحتل، فهناك العديد من الشهداء الذي ضحوا من اجل فلسطين، ولم يستسلموا لجرائم ووحشية الاحتلال، وها هو “الحديدي” الذي نسف حمامه يقول: سأبنيه، ولو ألف مرة، ولن أسمح لهم بالدخول إليه” ص164، فالإصرار على البناء ـ رغم الهدم والتدمير والقتل ـ يعد إيجابية مطلقة، هكذا تعامل الفلسطيني مع جرائم المحتلين.
ولم تقصر المقاومة على الأفراد العادين، بل طالت أيضا رجال الدين، المسيحين والمسلمين، فها هو “عطايا” الراهب يقوم بإيواء المقاومين في الدير وينقلهم إلى أماكن أكثر أمنا: “ألبسناهم جميعا ثياب الرهبان، وصعدنا بهم إلى العربة التي جهزها غطاس، ووضعنا التابوت في منتصفها، ومددنا الجريح بداخله، وانطلقنا بالعربة نحو قرية (المرج) في ليل شديد البرودة” ص179و180، ولم تقتصر مشاركة رجال الدين على الإيواء ونقل المصابين، بل تعدته إلى ما هو أهم وأكثر حميمية، يستشهد أحد المقاومين، يحاول الثوار نقله إلى قريته، لكن الراهب “عطايا” يخاطبهم بهذا المنطق: “هذا حصة الدير! سندفنه بجوار الدير حرصا عليكم وعلى أهله” ص181، الجميل في هذا المنطق أنه جاء ليؤكد مشاركة مكان العبادة/الدير المقاومين، وما استخدامه “حصتنا” إلا ترجمة لهذه المشاركة.
والمشاركة لم تقتصر على رجال الدير، بل طالت النساء أيضا: “رشيدة التي كانت تبحث عن غطاس ابن ربيحة، هي التي ندبت نفسها لتذهب مع غطاس في العربة، من اجل توصيل بعض القنابل اليدوية للثوار، قرب وادي الحمام، قالت لي برجاء:
“دعني، أعمل شيئا نافعا يا سيدي، ليصير لحياتي معنى” ص183و184، وهذا الشراكة في المقاومة تؤكد أن الفلسطيني لم يتخاذل أو يجبن أو يسلم للمحتل، بل تشارك فيه المجتمع كاملا لمواجهة الأعداء والتصدي لهم.
هذا بالنسبة لرجال الدين المسيحي، أما بالنسبة لرجال الدين المسلمين فهناك الشيخ “المصباحي” الذي وعي وعلم حقيقة الاحتلال التركي لبلادنا وحقيقة الاحتلال الإنجليزي يقول عن الأول: “اليوم عادت البلاد من غربتها” ص220، وعن الثاني: ” لا بد من مقاتلتهم” ص220، اللافت في هذا التقديم أن السارد يعيد رجال الدين إلى مكانتهم الصحيحة، محاربة الاحتلال، محاربة الأعداء، وليس تخريب البلاد وحرق الأوطان وإشغال الناس بقضايا جانبية تهدم ولا تعمر، وتخرب ولا تبني.
ولم يتوقف عطاء الفلسطيني عند مواجهة المحتلين ومقاومتهم، بل تعداه إلى مسامحة ابن جلدته والشعور بهمومه ومشاكلة، “شتيوي” الذي كان له أموال كثير على الناس، أثناء النكبة عام 1948 يرفض أن يطالب أحدا منهم بهذه الديون: “طلب مني أن أجمع ديوني! بكيت…لأنني كنت أخجل من أن أطالب الناس بها! فمحاصيلهم لم يحصدوها، وظروفهم الصعبة أعرفها جيدا!” ص252، هذه الأخلاق هي التي اتسم بها الفلسطيني، فنجده منتميا لشعبه، يفكر ويتصرف حسب مصالح الشعب وليس حسب مصالحة الشخصية.
وهنا لا بد لنا أن نتوقف قليلا عند ما قاله وفعله “شتيوي” (الإقطاعي) فهو رغم ثراءه الفاحش وامتلاكه لأراضي كثيرة ومعصرة، إلا أنه تأذى اقتصاديا ونفسيا واجتماعيا كما تأذى بقية الناس، فالاحتلال لم تقتصر جرائمه على (الطبقة الفقيرة) فحسب بل طالت كافة شرائح المجتمع الفلسطيني وطبقاته، وهذا رد على من تحدث وقال بأن الصراع في فلسطين هو صراع (طبقي)، فالصراع فيها هو صراع وجودي، صراع على الأرض وعلى الإنسان معا.
وبعد سقوط كامل فلسطين في حرب 1967، يصبح العمل الفدائي ظاهرة فلسطينية وعربية تعيد الكرامة والأمل للعربي: “… وأن الفدائية هي الطريق الوحيدة التي تجعله يعود إلى نعران” ص262، لم تكن مقاومة الفلسطيني هوجاء، بل اعتمدت على أسس فكرية ومنطقية، وربطت فلسطين بمحيطها العربي، من هنا عندما يحاول جنود الاحتلال إقناع “شتيوي” بأن مكانه عند أهله الذي ذهبوا إلى سورية، وأن “نعران” أرض سورية وليست فلسطينية، يرد عليهم: “…إنها الأرض التي أحبها، الأرض التي احتضنته وأطعمته بعيدا عن أرضه، التي اغتصبوها…وأنها الأرض المطلة على أرضه وقرية الشماصنة” ص267و268، بهذه الوعي الناضج الذي يحمل البعد الوطني والقومي أكد “شتيوي” أنه مثقف ثوري، يستطيع الرد على العدو ومنطقه المشوه للطبيعة الصراع، وعلى أن أرض فلسطين وأرض سورية تتشارك وتتشابك في العديد من المسائل وتربطهما الكثير من القضايا، من هنا عندما يستنتج “شتيوي” وفاة “دندي” يقول ابنه “كعدي” هذه العبارة: “لقد صار لنا قبر في بيلا يا أبي” ص280، وهذه إشارة إلى وحدة الأرض السورية كاملة، (بلاد الشام)، فرغم ألم الابتعاد عن الوطن إلا أن الأرض العربية تحتضن الفلسطيني كما احتضنه وطنه.
لكن تبقى الأرض الفلسطينية أحق بأنباءها من غيرها، والفقرة التي جاءت في خاتمة الرواية تؤكد هذه الأحقية: “وأولاد كعدي يحسون بأن أجراسا تطوق أعناقهن، تقرع في آذانهم دوما، تقول لهم: متى ستكسرون بلاطات القبر… ليعودوا بالعظام ..إلى الشماصنة!!” ص290، بهذه الطرح/الفهم أرادنا السارد أن نفهم علاقة الفلسطيني بالأرض، فهو يدعونا إلى تحرير فلسطين ليعود إليها أولاد من هجروا منهم، الأحياء منهم، فمن هجروا رحلوا إلى العالم الآخر.
المرأة
الأدب الجيد/التقدمي هو الذي يرفع الأفكار والقيم للمتلقي فتجعله يعيد النظر فيما هو سائد من أفكار وسلوك، السارد يقدم لنا المرأة في أكثر من شخصية، فهناك أم “دندي” التي وقفت مع ابنتها وحاولت قدر المستطاع أن تحميها من بطش “سمعان”، كما أن “دندي” التي خاضت تجربة حب عذري أكدت أن المرأة تقدر أن تحافظ على جسدها، حتى لو انتهكت، فبعد أن تزوجت من رجل بعمر والدها، ولقيت المعاملة القاسية منه، وأنجبت، بقيت محافظة على روحها وحبها لشتيوي، لهذا ما أن سمعت بقدومه حتى أتته “حافية” القدمين، كإشارة إلى استمرا حبها لشتيوي رغم زواجها وإنجابها ورغم السنوات الطويلة التي قضتها بعيدة عنه، كما أن “رشيدة” التي قامت بتوصيل القنابل للمقاومين ما هو إلا صورة عن دور المرأة في المقاومة.
لكن المرأة الكاملة كانت “فتحية” فهي التي عاشت في مجتمع (ذكوري) بامتياز كانت تضع حد لكل من يحاول أن ينال منها أو حتى يلمسها، من هنا عندما حاول “عمورة” الرجل الذي احبها وتزوجها أن يلمس يدها قبل الزوج هددته وتوعدته: “إن حاول لمسها مرة ثانية، ستقطع يده وترميها لكلاب البحر” ص190، وبعد أن تزوجها أخرجته من عالم الفقر إلى الغنى بعد أن حثته على العمل، فأصبح من أغنياء ووجهاء صيدا: “وحين جرت الأموال بين يديه أحس عمورة أن فتحية هي التي بنته، وجعلته مخلوقا آخر له قيمته، ومكانته، ومهابة” ص191، فهي من خلق من (زير نساء) رجلا حقيقيا حيث كان يهيم على وجهه، وهي التي اقترحت على “شتيوي” ليمضي إلى أميركيا لتلحق بحبيها “نديم” بعد أن فقدت زوجها وأولادها في البحر، وما كان “لشتيوي” أن يصل إلى ما وصل إليه ويجمع مهر “دندي” دونها، من هنا كانت الرواية تقدمية في تناولها للمرأة.
الأسطورة
ينقل لنا السارد طقس أسطوري مارسه السوري القديم منذ آلاف السنين، وأعاد أقامته السوري المعاصر في فلسطين، من خلال هذا الغناء الشعبي:
أم الغيث غيثينا حلي الكيس واعطينا
عنيزتي جوعانة وغنيمتي بردانة
وسقف البيت واطي والله مع العاطي
أم الغيث غيثينا حلي الكيس واعطينا
اللي تعطي بالغربال يصبح ابنها خيال
واللي تعطي بالمنخل يصبح ابنها يدخل” ص100 و101.
هذا المقطع يأخذنا إلى طقوس الخصب المتعلقة بعشتار، فنلاحظ أن هناك ما هو متعلق بخصب الماشية “عنيزاتي، غنيمتي” وما يقاله السوري عن حمل الغنمة (عشرت) إلا إشارة إلى عشتار رمز خصب الحيوان والأرض.
ونجد خصب آخر متعلق بالإنسان “ابنها خيال، ابنها يدخل” وهذا أيضا له علاقة بعشتار التي تحمي الناس من الأشرار والشرور وتكثر النسل من خلال طقوس الزوج المقدس، فالقيمة المعرفية في هذا المقطع تتوازي مع القيمة الجمالية، حيث نجد فيه بعدا تاريخيا/تراثيا/شعبيا قدم بطريقة (عابرة/سريعة) لكنها تستوقف المتلقي ليفكر فيما جاء فيه معاني ودلائل.
الرواية من منشورات الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة الفلسطينية، الطبعة الأولى 2005.