الإيمان القارونيّ والإيمان الغفاريّ

(ثقافات)

 

الإيمان القارونيّ والإيمان الغفاريّ

د. يوسف كوفحي*

 

يشيع عند كثير من المسلمين أنَّ الإنفاق الواجب والمفروض في الشّريعة الإسلاميّة هو الزّكاة، الزّكاة المحدّدة شرعا، والمصطلح عليها في المدونة الفقهية بـ “المال اللازم إنفاقه في مصارفه الثمانية وفق شروط مخصوصة، وهي حقٌّ معلوم من المال، مقدّر بقدر معلوم، يجب على المسلم بشروط مخصوصة، في أشياء مخصوصة”. وبهذا، فإذا التزم المسلم بدفع ما عليه بتلك النِّسبة المئويّة إذا كان مستوفيا لشروط الزكاة، بعد ذلك، فأمواله المتبقيّة هي ملكه شرعا، ينفقها كيفما شاء منها على بيوته وقصوره وسياراته وخدمه وملابسه وعطوره، وهو باعتقاده إنفاق مشروع ما دام أنَّه أدّى ما عليه من زكاةِ أمواله، ولا يعنيه إطلاقا، ولن يُحاسب يوم الحساب، حتى لو مات كلّ يوم مئات المسلمين حزنا وهمّا وغمّا من الجوع والفقر والبِطالة والتّخلف والجهل. ظنّا منه أنّه ليس مسؤولا ما دام أنه أخرج 2.5 بالمئة من أمواله المقدرة بمئات الألوف أو بالملايين وربّما بالمليارات.

وفي حقيقة الأمر، فإنَّ هذا المعتقد الباطل القابع في أذهان المسلمين حول مفهوم الزّكاة بوجه خاص، ومفهوم الإنفاق والصّدقة بوجه عام، هو الاعتقاد المسؤول عن غياب واجب المسلم مجتمعيّا واقتصاديّا تجاه الأفراد، وهو المسؤول عن الظّلم المجتمعيّ وغياب العدالة الاجتماعيّة بين المسلمين، وهو المسؤول عن تمزيق المسلمين إلى طبقتين، لأنّه معتقد رأسماليّ بامتياز، فثمّة طبقة مترفة لا تعرف أين تذهب بالمال، وتنفقه على بطونها وملذاتها، وأرصدتها البنكية مصابةٌ بتخمة المال الزائد عن حاجتها، ومثل هؤلاء كمثل الذين يكنزون الذَّهب والفضة الذين بَشَّرهم الله بعذاب أليم، وهم لا يعلمون أنَّهم هم المعنيون بتلك البشرى، ونسبة هؤلاء قد لا تتجاوز 2.5 بالمئة من هذه الأمة. ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾. ولو تمثلنا في هذا السياق بقوله تعالى: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾، لقلنا إن مجرد منع أداة بسيطة عن الناس توجب دخول ويل، وهو وادٍ في جهنم، فماذا سيكون حال من يمنع مساعدة الجائع والمحتاج واليتيم والأرملة والمريض بحجة أنه أخرج ربع العشر 2.5 بالمئة، وهي النسبة التي أقرها الفقهاء؟

وثمَّةَ طبقة أخرى، هي الطّبقة المسحوقة المُعدمة التي لا تجد قوت يومها، المثقلة بالدّيون والهموم، المفكّكة والمشرّدة بسبب فقرها، الغارقة في غياهب الجهل والمرض لغياب ما يُنفق على التّعليم والصّحة، وربّما لغياب المدارس والمستشفيات من أصله، تلك الطّبقة الّتي باتت تشكل نسبة كبيرة في مجتمعات هذه الأمّة، لأنّها تقتات، وإنْ اقتات، على 2.5 بالمئة من أموال كهنة المَال وعبيده.

لقد فَهِم ذلك النّفر من كهنة المال، ولا ألومهم على ذلك؛ لأنّ المؤسّسة الفقهيّة ساهمت إلى حدٍّ بعيد في إفهامهم هذا الفَهْم عن الإسلام، وهو أنَّ الإسلام دين رياضي أو قانوي، دين أرقام وماديات، لا دين مَعانٍ ومقاصد وإنسانيّات وأخلاق وقلوب ومشاعر، فأصبح المسلم مجرّدا، إلّا من رحم الله، من كلّ الأبعاد الإنسانيّة الّتي هي أساس الإسلام، وهي محور القرآن ومقاصده، فما عليه حتى يكون مؤمنا صالحا ضامنا دخول الجنة إلا أنْ يدفعَ ما عليه من نسبة مئويّة، ولا يعنيه بعد ذلك لو هَلَك النّاس عن آخرهم؛ لأنّ المالَ الزائد عن تلك النِّسبة هو ماله الخاص، وملكُه الذي حصَّله من تعبه وجهده وسهره الليالي، إذن من حقه أنْ ينفقه على ملذاته وبطنه وقصوره وخدمه وحشمه، وزينته الماديّة الدنيويّة، وما كان ذلك ليتأتى من زينة وفساد لولا المنطق الفاسد لفلسفة المال وسيكولوجيته، وهذا هو المنطق القارونيّ في فهمه لهذه المعادلة؛ إذ فَهِم قارون أنّ أمواله جاءت نتيجة عمله وذكائه ودهائه التّجاري والتّسويقي وعبقريّته في نماء ماله، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾. ومرادف القول القاروني ذلك، نسمعه باستمرار ممن نعرفهم من المسلمين وغيرهم، من المتدينين وغير المتدينين، في سياق الحديث عن أموالهم وثروتهم، من قبيل: “هذا تَعَبي”، “هذا من عَرَقِ جبيني”، “هذا مالي، أنا جنيته”،  “هذا شَقَى سنين”، “هذا شَقَى عمري”، “هذا ميراث أبي وأجدادي”. وهكذا، فإنهم يروا أن لهم الحق، بزعمهم، أن يتصرفوا في أموالهم ما شاؤوا، كما كان يرى قوم شعيب ذلك، فقد استنكروا على شعيب منعهم تلكم المشيئة، ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾.

وهذا هو المنطلق نفسه الذي دفع قارون ليتباهى بثروته وماله، ويتعالى على النّاس بزينته وبَطَره وتَرَفه ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. منكرا بذلك أنّه مِن عند الله وأنّه لله، ولا بد أن يُنفق لله، فجاءه الرد الإلهي بالخسف والهلاك ليبيّن له ولنا ولِمن تمنّى أنْ يكون مكانه عاقبة النّكران والكفر ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ﴾.

فالرّزقُ لا منطق له إطلاقا، فالله سبحانه يبسطه لمن يشاء ويقدّره على من يشاء لحكمته سبحانه من جهة، وأجلَ ابتلاء الفريقين بالمال أيضا، من جهة أخرى ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾. فكلاهما مبتلى بالمال، بإكرام اليتيم، والحض على طعام المسكين، ومن هنا، فإن على الإنسان ألّا يكون عبدا للمال ذليلا له، فلا لأحد سلطة على المال إطلاقا إلّا في إنفاقه والتّصدق به، وكلّ مُحاسب على ذلك في ما يَسمح به رزقه.

إنَّ مبدأ الإنفاق أو الصّدقة أو الزّكاة في الإسلام لا يقوم على أرقام ونِسَب وحِساب ومكاييل وأوزان وغير ذلك، بل يقوم على تحقيق البعد الإنسانيّ والأخلاقيّ الذي يُعدّ أهم مقصد من مقاصد الشّريعة الإسلامية، فلا قيمة لأيّ عمل صالح إنْ لم يكن مؤسّسًا على الأخلاق والقيم العليا، كالعدالة الاجتماعيّة والكرامة والأخوة والمحبّة والرّحمة والإيثار والعطاء والتّضحية والتّسامح، فهذه أسس الإيمان، الإيمان الذي يُدخل الجنة ويُرضي الرّب سبحانه، لا الإيمان القائم على اللّهم نفسي، ولا شأن لي بغيري. وهو، أيْ إنفاق المال، مبدأ مؤسّس على نَسْف الطّبقيّة والحاجة وسؤال النّاس، مبدأ مؤسَّس على تداول المال بين النّاس لا احتكاره لفئة على حساب فئة ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾.

وهو المبدأ الّذي آمن به أبو ذرٍّ ودافع عنه، وضحّى من أجله، فإيمان أبي ذر ينطلق من أنّ المسلمين مجبرون على إعانة الفقراء ومحاربة الفقر بأموالهم، ودعم المحتاجين والبائسين حتى تتغير حالهم وظروفهم ومعاشهم ليتساووا مع غيرهم من النّاس، فالمسلم مُلزم بالتّصدق على الفقراء والمساكين ما زاد عن حاجته، وهو العفو الذي أمرنا الله بإنفاقه، في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، فالعفو هو ما زاد عن حاجة الإنسان كما ذَكَرَ ذلك غيرُ واحد من المفسرين، وكما تعاطى معها أبو ذرٍّ من قبل ذلك.

“فليس لأحد أن ينعمَ كلَّ النّعيمِ وجاره بائس كلّ البؤس”، وقد عبّر  أبو ذرٍّ عن ذلك بقوله لعثمان: “لا ترضوا من النّاس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات”. فالإنفاق لا بدّ أن يتخلله الإحسان والمحبة والرّضا، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّـهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، ولقد جاء في الحديث الشريف: “ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ”.

ولقد عُرِف عن أبي ذرٍّ زهده وقوة إيمانه، وهو القائل فيه رسول الله: “مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ”، وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: “وَكَانَ رَأْسًا فِي الزُّهْدِ، وَالصِّدْقِ، وَالعِلْمِ، وَالعَمَلِ، قَوَّالًا بِالحَقِّ، لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، عَلَى حِدَّةٍ فِيْهِ”، ويقول عنه أبو بكر بن العربيِّ: كان أبو ذرٍّ زاهدًا، وكان يقرّع عمّال عثمان، ويتلو عليهم، ويرى النَّاس يتَّسعون في المراكب، والملابس والقصور والمنازل حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم؛ وهو غير لازمٍ، فوقع بين أبي ذرٍّ ومعاوية كلامٌ بالشَّام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه النَّاس، فجعل يسلك تلك الطُّرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت. ومعنى ذلك أنَّك على مذهبٍ لا يصلح لمخالطة النَّاس. ومن كان على طريقة أبي ذرٍّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط النَّاس، ويسلم لكلِّ أحدٍ حاله ممَّا ليس بحرامٍ في الشَّريعة، فخرج زاهدًا فاضلًا.

فقد روى البخاريُّ عن زيد من وهب قال: مَرَرْتُ علَى أبِي ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ فَقُلتُ: ما أنْزَلَكَ بهذِه الأرْضِ؟ قالَ: كُنَّا بالشَّأْمِ فَقَرَأْتُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ، ولَا يُنْفِقُونَهَا في سَبيلِ اللَّهِ، فَبَشِّرْهُمْ بعَذَابٍ ألِيمٍ} قالَ مُعَاوِيَةُ: ما هذِه فِينَا، ما هذِه إلَّا في أهْلِ الكِتَابِ، قالَ: قُلتُ: إنَّهَا لَفِينَا وفيهم.

 ولا ريْب في أنّ الزّكاة عبادةٌ مفروضة، لكنها فُرِضت على العَبد على صورة “صدقات وإنفاق”، وهي على فرضين أو واجبين: فرض يدفعه المرء لما يعرف بــ (بيت المال) بنسبة تحددها السّلطة بما يتوافق مع الوضع الرّاهن، امتثالا لقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾. أمّا الفرض الثّاني فهو ما يدفعه المرء لكل محتاج وفقير ومسكين، أو لبناء المشاريع والمساهمة في التّنمية الاقتصاديّة والصّحيّة والتّعليميّة، كإنشاء المصانع والمزارع وبناء المدارس والجامعات والمشافي، وحتى الحدائق والمتنزهات، وغير ذلك من أعمال خيرية وتنمويّة.

فالصّدقة كما تجلّى لي قرآنيا هي ما يُدفع للفقراء والمساكين والمحتاجين، وهو ما يُعرف بمصارف الزّكاة عند الفقهاء، استنباطا من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.

أمّا الإنفاق فهو أعم من الصّدقات، فالعلاقة بينهما علاقة العام بالخاص، فالإنفاق عدا عن أنّه يشمل مصارف الزّكاة، فهو يشمل الإعمار والتّنمية والاقتصاد، وبناء المشاريع والتّجارة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور، ويظهر لي أنّ السّرية والعلانية في الإنفاق تكمن في أنّ السّرية في حال التّصدق على الفقراء والمحتاجين، والعلانية في تشغيل الأموال واستثمارها. وبمعنى آخر، فإن الإنفاق هو صرفُ الأموال الزّائدة عن الحاجة على المحتاجين، وعلى البناء والنّهضة والعمران. وعدم اكتنازها وحبسها أو تجميدها في البنوك والقاصات، أو صرفها على الرّفاهية والزّينة والتّفاخر.

وهكذا، فإنّه لم ترد مفردة الزّكاة –في الأغلب- في القرآن إلّا مقرونة بالصّلاة: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾؛ أيْ فكما أنّ الصّلاة لا تقام إلا بتحقيق أركانها كقيام وركوع وسجود، فإنّ الزّكاة هي أيضا، لا تؤتى إلا بتحقيق أركانها ممثلة بالصّدقات والإنفاق، وكذلك بقية العبادات من صيام وحج، فلها أركان مخصوصة.

أمّا حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الّذي يُبيّن الأنصبة التي تجب فيها الزّكاة، والحدّ الأدنى الذي لا تجب فيه، في قوله صلى الله عليه وسلم: “ليسَ فيما دونَ خَمسةِ أواقٍ صدقةٌ، ولا فيما دونَ خَمسِ ذَودٍ صدقةٌ، وليسَ فيما دونَ خمسِ أوسُقٍ صدقةٌ”، فهو حكم قضائي خاضع للزمان والمكان، وقوله صلى الله عليه وسلم لا يفيد الإطلاق ألبتة، فهو صلى الله عليه وسلم، ها هنا، يحكم ويقضي بوصفه حاكما أو قائدا في شؤون النّاس السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بما هو متناسب مع زمانهم وظروفهم وطبيعة عيشهم، وهذا جليّ من ظاهر كلامه عليه السلام بلغته وأسلوبه.

ولقد غاب عن علماء المسلمين من المفسرين والفقهاء تحريم التّرف والبطر والرّفاهية، تحريما شرعيّا، على الأقل مع وجود الجوعى والمحرومين؛ إذ لم يرد التّرف والرّفاهية في القرآن الكريم إلا في سياق الذّم والحرمة والفساد، وأنّ هذا الفعل نذير شؤم للهلاك والعذاب الرّبّانيّ ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا أمرنا أيْ كثَّرنا، فكثرة التّرف علامة خطيرة على الهلاك والإبادة، ولقد جاء في سياق الحديث عن هلاك الأمم السّابقة كقوم ثمود أنّهم كانوا أهلَ ترفٍ ورفاهيّة ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾. أفلا يتدبرون القرآن أمْ على قلوبٍ أقفالها، وفي ظلّ غياب هذا التّدبر، وفي ظلّ الآيات الواضحات البيّنات، لن ينقذكم فقه الفقهاء، ولا تفسير المفسرين، ولا حديث المحدِّثين يوم يقوم النّاس لربّ العالمين.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *