شذرات من نظرية جمالية التلقي

(ثقافات)

شذرات من نظرية جمالية التلقي

منال رضوان

 على العكس من نظريات النقد الكلاسيكية، والتي تعتبر إحدى آليات التأريخ للمؤلفين والنصوص، تجد أن بظهور نظرية “جمالية التلقي” قد أتيحت البدائل المنهجية للنظر إلى النص الإبداعي في صيرورته ووظيفته التحررية، التى لم تمنحها النظرة التقليدية إليه من وجهة نظر متلقيه، وصار القارىء الشق الثاني من معادلة شقها الأول النص الإبداعي، وإن كانت بعض الآراء المعتبرة قد أقرت بوجود الأفكار ذاتها بين طيات النظرة الكلاسيكية للنقد وإن اختلفت المصطلحات؛ لذا فلا يمكننا الجزم بشكل صريح أن النظرية الكلاسيكية في النقد قد أغفلت تلك الجماليات كليًا*، وإنما صار الاهتمام بجمالية التلقي إثر ظهور النظريات الحديثة لعلم تداول النص أعمق وأكثر رسوخًا، وهو ما يصطلح عليه وفق (إيكو) ” معالجة شطر النشاط التعاضدي، الذي يعمل على حث المرسل إليه على أن يستمد من النص ما لم يقله، ولا يصادر عليه مسبقًا، وإنما يقرأ ما يتضمنه أو يضمره صراحة أو ضمنًا؛ كي يتسنى له الربط بين النص وبقية التناص”.

وعليه فإن جمالية التلقي تعنى من جملة ما تعنى به بتنظيم الكفاية الموسوعية التي يمكن للغة بواسطتها تحقيقها في هذا النظام عن طريق فهم الرموز المترابطة فيما بينها في إطار تفعيلات الخطابية الموجهة من جانب، والاستخدامات المتاحة في ظروف وسياقات مخصوصة، وبين نظرية أمبرتو إيكو حول تكوين التفاعلات الخطابية وتأويلها.

 ووفق المفهومين السابقين (تنظيم الكفاية الموسوعية ليتمكن القارىء من الفهم عبر اللغة، وتكوين التفعيلات الخطابية وتأويلها) تتضح معالم معادلة جديدة قال ياوس عنها: “لقد أخذت مني وقتًا طويلًا لتحويلها عن (كاتب – نص) إلى (قارىء – نص)”

ذلك الإبدال أو الإحلال حَوَّل الأنظار صوب نظرية التلقي وجمالياتها، والتي اعتمدت على إعادة تشكيل (أفق الانتظار) أو الجمهور الأول بالنسبة إلى العمل الأدبي، والنظام المرجعي المصاغ بصورة موضوعية، حيث يبزغ نجم النص الجديد الذي يكون بواسطة متلقيه،

ولذا فبالنسبة إلى المروج الأول لنظرية جمالية التلقي (ياوس) Hans Robert Jauss ، فإن أفق الانتظار يتضمن ثلاثة عوامل رئيسة، أولًا: التجربة السابقة التي ينتظم بداخل إطارها الجمهور بالنسبة للجنس الأدبي الذي ينظم النص الأدبي. ثانيًا: شكل وثيمات الأعمال الأدبية السابقة، والتي يفترض للعمل الأدبي الجديد معرفتها، وهو ما يعرف بالقدرة التناصية. ثالثًا: التعارض القائم بين اللغة الشعرية واللغة اليومية، “بين العالم المتخيل والحقيقة اليومية”.

ولكي نجمل ما تقدم – في سطور يسمح هذا المقال بها- فإن الاهتمام بجمالية التلقي أو علم تداول النص، وهو الذي يمنح ما يعرف (بالنص الجديد) عقب كل قراءة يجب ألا يكون أكثر من الاهتمام بأثره، أو بمعنى آخر أورده فرانك شويرويجن في مقاله الأشهر (نظريات التلقي) ” من المآخذ التي أخذت على ياوس أنه اهتم بالتلقي أكثر مما اهتم بأثر هذا التلقي، أو بتعبير آخر كان له توجه نحو إعطاء الامتياز للعالم الأكبر macrocosme للتلقي في بعده التاريخي على حساب العالم الصغير microcosme للأثر”  وبالمقابل، فإن الأثر التداولي الحاسم الذي سينشأ عقب ذلك أو : ” الإبدال الجديد الذي تقترحه جمالية التلقي هو الاهتمام بأثر النص في القارىء، لا بالأدب في حد ذاته أو في مرجعيته/ حمولته الفكرية أو تاريخيته، ولا حتى من حيث ماديته الشكلية أو اللغوية، بل.. بوقع النص على القارىء”…

 إذ أنّ “النص وجود عائم ولولا القارىء، لما كان للنص قيمة.. ونص يكتب ويخزن في الأدراج هو نص بلا وجود، وكذا أي نص يظل محفوظًا في مكتبة من المكتبات هو نص لا وجود له؛” لأن الأهمية تتجلى فيما يوليه القارىء من تأويل للنص، مما أدى لأن يولي “وولفغانغ إيرز” (١٩٢٦- ٢٠٠٧) عظيم اهتمامه بتحليل النص، حيث استخدم ما يمكن تسميته بمفاتيح القبة الثلاثة للنظام الإيزري أو ما يعرف بثلاثية إيزر: تصور مفهوم القارىء الضمني، مفهوما “السجل” والاستراتيچية ، فكرة النفي باعتبارها ترتبط بالطابع النافي في النص الأدبي. وتلك المفاتيح الثلاثة لإيزر الذي ضمن أن يقدم من خلالهم قراءة حقيقية للنص تبرز جمالياته، وسنتكلم عنها لاحقًا.

هوامش:

– موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي- ١

النقد الأدبي الكلاسيكي/ تحرير: جورج كيندي، مراجعة وإشراف أحمد عثمان. المشروع القومي للترجمة.

– القارىء في الحكاية(التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية) امبرتو إيكو

– جمالية التلقي، هانز روبيرت ياوس.

– نظريات التلقي(مقال) فرانك شويرويجن.

-ڤولفغانغ إيزر ناقد ألماني ومن أهم المنظرين لنظريات التلقي  (١٩٢٦- ٢٠٠٧).

منال رضوان

كاتبة وناقدة – عضو اتحاد كتاب مصر

شاهد أيضاً

قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة

(ثقافات) قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة سامر حيدر المجالي على غير ما يُظَنُّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *