circa 1840: English novelist Charlotte Bronte (1816 - 1855), author of 'Jane Eyre' and sister to Anne and Emily Bronte. (Photo by Stock Montage/Stock Montage/Getty Images)
الأخوات “برونتي”.. رومانسية وفن ومأساة
فبراير 16, 2023
(ثقافات)
الأخوات “برونتي”.. رومانسية وفن ومأساة
حاتم السروي
يحظى الأدب الإنجليزي بمكانة مرموقة في تاريخ الآداب العالمية، وهو أدب ثري يحفل بالكثير من القوالب الفنية والأساليب المختلفة والمدارس ما بين الكلاسيكية متمثلةً في “شكسبير” و”بايرون” والواقعية متمثلةً في “تشارلز ديكينز” و”جورج إليوت” والرومانتيكية متمثلةً في “الأخوات برونتي” وهُنَّ ثلاث أخوات كتبن الشعر والرواية، وتميزت أعمالهن بقوة المشاعر والتعبير الخالص عن الوجدان والانطلاق من الجانب الإنساني الشاعري، والاهتمام بـ “الذات” لتظهر من خلال ذلك ” الرواية الرومانسية القوطية”.
والأخوات “برونتي” بنات أدركتهن حرفة الأدب، وهن على الترتيب “شارلوت برونتي” 1816-1855، و”إيميلي برونتي” 1818-1848، و”آن برونتي” 1820-1849م، وقد نشأن في بيت محافظ ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، وكان والدهن قسيسًا، وقد ماتت والدتهن سنة 1821 فعشن مع الوالد “باتريك” والعمة “إليزابيث”.
ويبدو أن القدر هيأ لهن العمل بالكتابة من خلال تعليم راقي حظين به في أماكن مختلفة وهو الأمر الذي لم يكن يتوفر للعديد من الفتيات اللاتي ينتمين إلى طبقات اجتماعية أقل، وقد بدأ تعليمهن من المنزل ثم الالتحاق بمدرسة بنات دينية “كليرجي دوترز سكول” في عام 1824م وكانت هذه المدرسة تحمل طابعًا دينيًا ملتزمًا. ومن الواضح أن لهذه المدرسة تأثير على بعض أعمال الكاتبات الروائية، يبدو لنا ذلك مثلًا في رواية “جين آير” للكاتبة “شارلوت برونتي”.. ويضاف إلى ما سبق أن الأختين”شارلوت” و”إيميلي” توجهتا إلى “بروكسيل” عاصمة “بلجيكا” لتحسين لغتمها الفرنسية.
ويظهر لنا من تتبع سيرة الأخوات برونتي أن لديهن حسًا عمليًا و”ديناميكية” والحق أن هذا النشاط إحدى أبرز وأهم سمات الشعب الإنجليزي، ولا نقول ذلك من فراغ، فقد بدأ الأخوات برونتي العمل مبكرًا كمعلمات ومربيات، وبدأت على التوازي مسيرتهن الأدبية وهن لازلن في مطلع الشباب، وتجلت الهمة الإنجليزية والجَلَد في أول مجموعة شعرية نشرها الأخوات والتي صدرت عام 1846م وكانت على نفقتهن الخاصة، وقد استخدمن أسماءً ذكورية للتواري خلفها؛ حيث كان يشيع لدى الأوساط الأدبية في إنجلترا ومحبي الشعر والقصة أن الكتب التي يؤلفها النساء بسيطة وسطحية وتمتلئ بالموضوعات غير الهامة! من أجل هذا كان التحدي أمام الأخوات كبيرًا وقد أثبتن تفوقهن وكُنَّ أكبر من التحدي.
ونظرًا لأهمية وأصالة الأعمال الروائية الصادر عن الأخوات برونتي؛ فقد بقيت هذه الأعمال حتى الآن ولا يزال لها قراؤها، وهي روايات تصنف بشكل عام ضمن أمهات الأدب العالمي، ولازالت تُدَرَّس في المدارس والجامعات في دول مختلفة، ومن أهم هذه الأعمال روايات “جين آير” و”شيرلي” و”فيليت” و”الأستاذ” للكاتبة “شارلوت برونتي” والرواية الشهيرة “مرتفعات ويذرينج” للأديبة “إيميلي برونتي” و”نزيلة قصر وايلد فيل” للأخث الثالثة ” آن برونتي”.
ومن العلامات الفارقة في مسيرة الأخوات أن بدايتهن الفنية كانت في سن الطفولة، وكانت الكتابة هي التسلية التي يقضين بها وقتهن؛ إذ كان تأليف القصص أفضل لديهن من اللعب! ومع الوقت تحول اللعب إلى شغف، وبدءًا من عام 1827 بدأت أفكارهن تأخذ شكلًا مكتوبًا، ومع الوقت نضج قلم الأخوات وتعمقت الأفكار، واستطعن أن يُكسبن القصص حبكات درامية شائقة، وقد أضاف إليهن بلا شك حب القراءة والإقبال على المجلات الأسبوعية والشهرية التي كان والدهن مشتركًا فيها، فقد كان قسيسًا مثقفًا، وكان دائم الاطلاع على الصحف اليومية.
وعلى الرغم من التفوق والشهرة فقد غشيت حياة عائلة برونتي سحابات من الحزن والكآبة؛ حيث كان للشقيقات الثلاث أخٌ ذكر هو “برانويل برونتي” وقد اعتبره والده وأخواته عبقريًا، وتدلنا سيرته أنه كان مهتمًا بالأدب ومتعدد المواهب، لكنه – مع الأسف- لم يستطع أن يتحصل على عمل يناسبه، وأدمن على الكحول؛ بل كان يتعاطى مستحضر أفيوني عُرِفَ باسم ” اللودانيوم” وانتهت حياته الدرامية بوفاته إثر إصابته بمرض السل.
فإذا جئنا إلى “إيميلي برونتي” وجدناها زاهدة في أي شهرة، وكانت تكتب لترضي ذاتها فقط، وقد يحلو للبعض وصفها بـ “أبي هول الأدب” إذ لم تكن تهتم بأي إطراء أو مقابل مادي، وكانت تكتب لتستمتع بقلمها البارع، ويمكن القول أن هذا الزهد البالغ كان سببًا في قلة أعمالها التي اقتصرت على بعض القصائد، ورواية واحدة على قدر من الأهمية في تاريخ الأدب، وهي رواية “مرتفعات ويذرينج” التي اشتهرت على مستوى العالم وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي، ويخبرنا النقاد أن هذا الإقلال المتعمد لم يكن مرغوبًا فيه، لأن “إيميلي” روائية متميزة، ولكنها لم تهتم بالكتابة المستمرة.
أما الأخت “آن برونتي” فقد كانت الأقل شهرة، ومن المستغرب حقًا ما صنعته أختها “شارلوت” بعد وفاتها المبكرة من منع إعادة نشر روايتها “نزيلة قصر ويلد فيل” بدعوى أنها أخطأت في اختيار الموضوع نظرًا لقلة خبرتها! ومن أسفٍ أن “آن” ماتت في ريعان الشباب وتحديدًا في سن التاسعة والعشرين.
أما الحادثة الكبرى التي تركت بصمتها على أعمال الأخوات الثلاث، فقد تمثلت في وفاة شقيقتيهن “ماري” و”إليزابيث” في سن الطفولة بمرض خطير، وشعر الأخوات بالصدمة، وتبدى أثر هذه الفاجعة بالخصوص في أعمال “شارلوت”.
ويمكن القول أن مرض السل قضى على الأسرة كلها لكن على فترات متفاوتة؛ حيث قضى على الأختين “ماري” و”إليزابيث” أولًا، ثم قضى على “برانويل” سنة 1848م لتلحقه أخته “إيميلي” بعد أشهر بنفس المرض، ثم توفيت “آن” في النهاية بعد خمسة أشهر من “إيميلي” سنة 1849.
ومن الواضح أن “التعليم” الصارم الذي تعرضت له الأخوات، والحياة الجافة التي حرص عليها والدهن، كان لهما أثر على أعمالهن الروائية، وللقارئ العزيز أن يتصور حجم المعاناة في بيت “متشدد” يمنع الكثير من طيبات الحياة، لدرجة أن دخول “اللحم” إلى المنزل كان ممنوعًا، يضاف إلى هذا أن المدرسة التي التحق بها الأختين “ماري” و”إليزابيث” كانت السبب في وفاتهما؛ فقد كانت مدرسة يتسم معلموها بالقسوة والفظاظة والجفاء، والقسوة في العقوبة مع ترصد الأخطاء، ناهيك عن أطباق الطعام الهزيلة والفناء المُوحِش، وقد رسمت “شارلوت” هذه اللوحة القاسية في روايتها الشهيرة “جين آير” وإن آلاف القراء عبر العالم آلمتهم وأبكتهم فصول الرواية التي تتحدث عن هذه القسوة غير المبررة، كما أحزنهم موت “هيلين بيرنز” بطلة رواية “جين آير” بالسل وهي الفتاة الطيبة العاقلة الرزينة التي كانت تتحدث مليئة بالعطف والرقة والحنو.
والأمر الذي يهيج مشاعرنا أن “جين آير” في الحقيقة هي قصة “ماريا وإليزابيث برونتي” اللتين ماتتا كلتاهما بسبب نظام المدرسة المجحف، وبشكلٍ عام فقد أغرت حياة عائلة “برونتي” صناع السينما لعمل عدة أفلام تحكي هذه السيرة الدرامية الغريبة.
وعلى كل حال فإن روايات الشقيقات الثلاث أعمال فنية ملهمة تعكس لنا القدرة على التخيل وإحداث الحبكة المثيرة وخلق الأبطال، وإن من يرى “إيميلي برونتي” الخجولة يستغرب حقًا كيف استطاع قلمها أن يبتكر بطل “مرتفعات ويذرينج” الغامض، وقد اعتقد النقاد أن الكاتبة امرأة، مع أنها نشرت باسم رجل، غير أنهم توقعوا أن الكاتبة سيدة عركت الحياة وخبرت أنماط البشر وسافرت إلى عدة بلدان، ولم يَدُر في خَلَدهم أنها فتاة قروية بسيطة وخجولة لكنها عبقرية.. إنها “إيميلي برونتي” أيقونة المهارة الفنية والإبداع الأصيل.
وفي الختام..
بقي أن نقول شيئًا مهمًا لعشاق السينما بشكلٍ عام، والسينما العربية الكلاسيكية أو “أفلام الأبيض والأسود” بشكلٍ خاص؛ ذلك أن الفيلم العربي الشهير “هذا الرجل أحبه” للفنانة المصرية الشهيرة “ماجدة” وهو سيناريو وحوار وإخراج الراحل: حسن حلمي المهندس، وبطولة كل من: ماجدة، يحيى شاهين، عزيزة حلمي، نجمة إبراهيم، ميمي شكيب.. إلى آخر كاست الفيلم المكون من 18 ممثل وممثلة، هذا الفيلم مأخوذ عن رواية “جين آير” للكاتبة “شارلوت برونتي” ونجد هذا مكتوبًا على “أفيش الفيلم”..
وقصة هذا الفيلم باختصار:
صابرين التي تقوم بدورها الفنانة “ماجدة” فتاة لقيطة، تربت فى الملاجئ حتى بلغت سن الرشد وحتى يمكنها العيش تعين عليها أن تذهب للعمل فى بيت رجل ثرى يقيم مع ابنته فى مزرعة، ومهمتها تحديدًا أن تعتني بالفتاة ابنة الرجل الثري “الفنان يحيى شاهين”.. وعندما تذهب إلى القصر تفاجئ بأن هناك أشياء غريبة وكآبة تعم البيت.
وتعتنى “صابرين/ ماجدة” بالطفلة “عديلة” ويثق بها مراد بك “يحيى شاهين” الذى نراه يعيش حياة قاسية ويكاد يصدم “صابرين” يومًا بجواده، وهو يقيم فى غرفته لا يكاد يخرج منها، غير أن صابرين تقترب منه بدافع الفضول والشفقة وينمو الحب فيما بينهما، ثم تعرف صابرين أنه لديه تجربة حب فاشلة مع فتاة لاهية، وأنه لا يثق فى النساء، وتحاول أن تسرى عنه همومه، ويزداد الحب، الذي بدأ فى شيءٍ من الحذر، وشيئًا فشيئًا يبدأ طمراد بك” فى الانفتاح على الحب، وينسى أوجاعه فيقيم حفلاً بهيجاً.
وتعرف صابرين أن فى البيت امرأة مجنونة، تحاول إثارة الخوف فى المنزل، وترتكب المزيد من الحماقات، وهي “بثينة” قريبة مراد، وحين يقرر الرجل الثري الحزين أن يتزوج من صابرين، يرفض المأذون، حيث يثبت أن بثينة المجنونة هى أخت لصابرين، وهي أيضًا زوجة لمراد، وتقوم الزوجة المجنونة بإحراق المنزل ويصاب مراد بإصابات بالغة وهو يحاول إطفاء الحريق. يفقد مراد بصره، وتموت بثينة، وتقرر صابرين الوقوف بجانبه.. ومن الواضح بالطبع أن الفيلم مثير للنكد لكن يشفع له أن ينتهي نهاية سعيدة تقول لنا: “رغم كل شيء هناك أمل” وعلى أية حال فإن الفيلم يعكس طبيعة المرحلة الرومانسية التي كانت تعيشها مصر في تلك الفترة، وهي فترة مخاض وتحدي وفي نفس الوقت هي بامتياز فترة “الآمال الكبرى” والرغبة في النهوض، ولذلك كانت الأفلام التي تحمل الكثير من الأزمات وتنتهي بـ “الأمل” تلقى رواجًا لدى الجمهور لأنها تلامس أوتار قلوبهم وتعبر عن احتياجهم للأمل.
مرتبط
إقرأ أيضاً
الأنطولوجيا وفن الحذف*خيري منصورالمهمة المزدوجة لأي أنطولوجيا هي الاختيار والترك، لأن كل اختيار يقتضي بالضرورة حذفا، لهذا…
-
فن الكتابة وفن الحياة*سارا جين/ ترجمة - محمد الضبع لدي اعترافان أريد أن أدلي بهما، اعترافي الأول إن أكبر…
شاهد أيضاً
(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …