(ثقافات)
قراءة في رواية المرتزق “رقم 9” للروائيّة والشاعرة سميحة التميمي
– د. دورين نصر
(الجامعة اليسوعية وجامعة البلمند -لبنان)
لم تكن علاقة الرواية بالحرب علاقة عابرة، في أيّ يوم من مسيرتها بل لطالما بدت عميقة، ووطيدة، ذلك أنّ موضوع الحرب شكّل رافدًا للرواية بالأحداث الصّاخبة، وأفسح المجال بتناول قضايا مختلفة كقضيّة الهويّة والمصير والوجود، وصولاً إلى الرؤية إلى الحريّة والتضحية والموت مرورًا بالالتزام والخيانة.
ولمّا كانت الرواية تكتسب أهميّة بقدر ما تطرح من قضايا إنسانيّة وفكريّة، وتُحفِّز على التأمّل والحوار، فإنّ المجال الذي تفتحه الحرب لها بهذا الشأن، يجعل من هذه الأخيرة شرطًا مُؤاتيًا كي تزيد ثراءً. إلاّ أنّ انتقاء موضوع الحرب كمادة في الرواية، يتخطّى المستوى الدلالي إلى المستوى السردي، إذ تقترن الحرب دومًا بقضيّة، فليس هناك من قضيّة من دون قَصص أي من دون خبر وسرد، كذلك ليس هناك من حرب من دون تأريخ يستدعي سردًا للأحداث. ولمّا كانت الحرب انقلابًا للمألوف، فإنّها توفّر شروطًا مناسبة لتغيير أنماط السرد، وابتداع أنواع جديدة غير معهودة.
ولو عاد بنا الزّمن إلى القرن السابع عشر، لالتمعت في ذاكرتنا رواية “دون كيخوت” للكاتب الإسباني سرفانتس، التي طرحت فكرة خدعة الحرب. فتصوّرات البطل الخادعة عن الفروسيّة، دفعته لأن يخوض حروبًا خاسرة مرّة بعد مرّة. وفي القرن الثامن عشر جسّد فولتير فكرة الشّر في روايته “كانديد”، التي كتبها عام 1759، وتطرّق فيها إلى حرب السنوات السبع مع أوروبا.
وعلى الرغم من قيمة هذه الأعمال، يُعَدّ القرن التاسع عشر البداية الحقيقيّة لظهور روايات الحرب، ليقدّم الأدب رؤية جديدة تناقض تمجيد الملاحم القديمة للحرب. كما أنّ رواية الحرب والسلم لتولستوي رصدت قيمة الحياة، وأظهرت عبثيّة الحروب، وما تخلّفه من حزن وفراق ومعاناة والأمثلة عن روايات الحرب كثيرة، أذكر منها سريعًا: “وداعًا للسلاح” للكاتب إرنست همنغواي، “الثلج الحار” للكاتب يوري بونداريف، “مخاوفي السبعة” للكاتب سلافيدين أفيدتش، “جوني حمل سلاحه” للكاتب دالتون ترامبو، والأمثلة كثيرة لا يتّسع المجال لذكرها كاملة في هذه المحاضرة.
والواقع، إنّ علاقة الرواية بالحرب بحاجة إلى إثبات، ليس من زاوية الرّكون إلى وجهة النظر القائلة بالصلة الأكيدة بين الواقع الاجتماعي والنتاج الفنّي، بل على أساس رؤية تعتبر هذا الواقع كُلاًّ مركّبًا في سيرورة مستمرّة من جدليّة التفاعل بين عناصره ومستوياته. والحرب كما الرواية، ضمن هذا المنظور، جزءٌ من ذلك الكلّ.
والحقيقة، إنّ الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن لدى قراءة رواية “المرتزقة رقم 9” عديدة، منها: لمَ اختارت سميحة التميمي هذا العنوان وهذا الرقم تحديدًا ولا يوجد أيّ إشارة إليه في الرواية سوى ص (50) “وصلنا إلى السنة الثالثة من الحرب، أدخلوني العنبر رقم (9). فما هي المعطيات الأساسيّة التي ينسج النّصّ الروائي علاقته بها في إطار الوضع الاجتماعي الكليّ الذي يضمّها؟ وكيف تحقّقت صورة الوطن في الرواية قيد الدرس؟
أحببت قبل أن أشرع بالتحليل أن أتحدّث قليلاًعن مفهوم الوطن. الوطن لا يعني أبدًا المعنى المتأخّر الناشئ في القرن التاسع عشر، وإنّما يعني “الوطن”، ما نسمّيه اليوم “الموطن”، أي مكان النزول والميلاد والإقامة. وقد قيل لإعرابي: ما الغبطة؟ قال الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان، وقيل فما الذلّة؟ قال التنقّل بين البلدان والتنحّي عن الأوطان.
ولعلّ في حنين الناقة كمعنى قديم لهذا اللّفظ، ما يشير إلى هذه العلاقة التكوينيّة بين لفظ “وطأ”، ولفظ “وطن” في العربيّة، حيث أنّ القربى الاشتقاقيّة بين اللّفظين أكيدة والقربى والتلازم بين معنَيَيْهما. عن أيّ وطن تحدّثت سميحة التميمي، وعن أيّ حرب؟ كيف تجلّت صورة المكان في هذه الرواية ونحن نعي جيّدًا أنّ روايات الحرب هي روايات الأمكنة بقدر ما هي روايات الشخصيّات؟
جاء على لسان المرتزقة “بشنو”: “يا إلهي العظيم، لقد أحببتك وأحببت الأرض، ولكن لا أحبّ الحرب ولا الساسة”، وجاء في مستهلّ الرواية: ” إنّ التاريخ ليس بحاجة إلى شخصيّة مثل نورس الماجد كي يعيش أسطورة جديدة”. يشعر المتلقّي وكأنّه يقرأ أسطورة، أو هو في عمليّة بحثٍ عن أرضٍ وعن جذور؛ بَيْدَ أنّ النّصّ الروائي لا يتورّع عن الكشف عن العلاقة التي تجمع نورس الماجد ببهيجة العربي وقد تعيّن ذلك منذ البداية : “من نورس الماجد إلى بهيجة العربي”، ما جعلنا نعتقد أنّنا أمام نوع أدبي آخر ألا وهو الرّسالة.
وإذا كان توزيع الرواية إلى فصول شائعًا، فإنّ اعتماد مقدّمة لها بعنوان: “ما لم تَقُله بهيجة العربي” ليس مألوفًا. و إذا كان للمقدّمة أن تؤدّي دور المطلع البنيويّ للنّصّ الروائي، فإنّها تؤكّد في هذا الشكل الذي يتقدّم فيه هذا المطلع النمط الفكري أو المعرفي الحاكم أو الغالب في هذا النّصّ، وهي بذلك تنسج ضمنيًّا عَقِد قراءة الرواية بقدر ما توحي بالنّمط المذكور وما يفترضه من تعامل متميّز يولي اهتمامًا خاصًّا للعلاقات، باعتبارها قبل أيّ شيء آخر دالّة على رؤية للوجود ونظرة إلى الحياة، وبالتالي استدراج القارئ ليحدّد هو نفسه موقفًا منها، من هذه المواقف ومن الرواية ككلّ، إذ جاء في مطلع الرواية: “ولأنّ المعرفة المطلقة كما الخير المطلق كما الشرّ المطلق غير ممكنة على الإطلاق، عليك ألاّ تنسى أنّ الذين ولجوا بوابة البلد قادمين بأحلامهم أفنتهم في ليلها، ولقد ملكتم الجوّ في حربكم لذلك كسبتموها، ولكنّكم لن تنكروا أبدًا قبور من ماتوا ودموع من فُجعُوا”.
فيا ابن الأحرار الموشح بالتبع والانتصارات الباهتة، أقول لك:
ما زال أمام الباب بحر فهل تُجيد العوم؟
“قلت لي إنّ كلّ القوانين الحمقاء تُسَنُّ لكي تُخرَق، فالكوكب لن يسير بلا جنون لأنّ التعقّل دائمًا لن يجعلنا نتقدّم ونباغت ونحرّر الأرض ونخدم العباد؛ إذن فلتكن المغامرة والجنون”.
في الواقع سُقت هذه الأمثلة لأقول بأنّ هذه الرواية تتقدّم كمادّة للتفكير على مستوى الأحداث والصراعات (الحكاية) وعلى مستوى الحبكة والتأليف (السرد والخطاب). فإذا كان المستوى الأوّل يحول دون الاطمئنان لوجهة نظر وحيدة، إذ يقدّم مواقف متعدّدة تتجابه وتتكامل، بحيث يتطلّب بلوغ المراد بالنّصّ العام تبيّن الأقوال المختلفة، والإصغاء إلى الأصوات المتعدّدة الكامنة في النّصّ الشامل واستكناه أبعاده ودلالاته، فإنّ المستوى الثاني يحول دون الاسترسال في خطّ وحيد الاتجاه، ليفرض بذلك إعادة ترتيب الوقائع والتطوّرات، وبالتالي وضع المواقف في سياقها. فتلتحم ضرورة التمحيص (ماذا يجري؟ من يفعل وماذا ومتى وأين؟) بضرورة التعيين (من يروي وماذا يروي وكيف؟) لاستكمال حقيقة المواقف ودلالاتها، ليلتحم بذلك المستويان في مسعى روائي تنهض جماليته من خلال التحام الشعريّة بالمرجعيّة.
فالموت الذي يحاول الجميع الهروب منه وتلافيه، يدفع بحضوره السّاحق حياة معظم الشخصيّات ووجودهم اليومي، بل إنّ هذا الحضور يبلغ من كثافته وضعطه من خلال الحرب الجاثمة حدّ تدبير حياتهم، إذ جاء في بداية الفصل الثاني ما يلي:
“إنّ ازدراء الموت سنة الحروب”، “الريح تغضب حين يئنّ الجريح ويصرخ مناديًا أمّه في الحرب قبل أن يموت أو حين لا تُحترَم الأرواح”.
كما أنّ الموت يخلق عند الجنود فلسفة خاصّة بالحياة، إذ يقول الجندي حامد الراعي: “إنّ وعينا بذواتنا هو بداية الارتقاء بها لمعرفة من نحن”، أمّا نورس الماجد فيقول: “سألعن المجد كلّ صباح ومساء، لأنّ المجد لا يليق بالقادة العشّاق”. ويردف قائلاً في معرِضٍ آخر: “فالوضع الميداني على الأرض هو ما يحدّد مزاج القائد العام”.
والواقع، إنّ الأذى الناتج عن سيطرة قانون الحرب يبلغ حدّه الأقصى، إذ جاء في الرواية: “حدّثني العقيد جاك بريان” حين كنّا نلتقي للتدريبات عن قصص الحب التي دفنتها الحروب، وأخبرني بأنّهم انتزعوا من أصابع القتلى ما لا يقلّ عن عشرة خاتم حبّ، وقلائد من أعناقهم كانوا قد أخذوها من الأمهّات والحبيبات”، “قاسية جدًّا باقات الورد عندما تذكّر بالفقد بعد أن كانت تذكّر بالحبّ”.
فنلاحظ هذه الدلالة الرمزيّة للورد، لخاتم الحبّ والقلائد في الأعناق إضافةً إلى الفعل “انتزعوا”، ما يشي باستلاب الذات الإنسانيّة حيث تنقلب القيم والمقاييس إلى أضدادها ونقائضها المروّعة، فتتحوّل اللّغة من كونها أرقى تعبير عن الحضور الإنساني حضارة وثقافة وجمالاً إلى عنصر صارخ من عناصر إلغائه، وينقلب الوجود الإنساني برمّنته إلى سلطة متداولة في سوق الحرب والتدمير. ضمن هذا المنظور تمثُل الحرب كأنّها وباء أصاب كلّ البلاد، فتغيب كلّ الاتّجاهات ويهيمن صوت واحد على كلّ الأصوات وهو صوت الراوي الذي يصير: صوت بهيجة، صوت نورس الماجد، صوت المرتزقة بشنو ، صوت أم نورس وصوت والده صوت سعيد فننار وغيرهم، كما تتّحد كلّ الأمكنة (البلاد، القرية، مشتل النعناع، المحكمة، المنزل) لتجسّد علاقة الإنسان بالأرض.
هكذا نلاحظ بأنّ الراوي هو الذي يُمسك بزِمام الأحداث وكأنّه قائد المسير، ومقابل الموت الذي يَعني الإلغاء والعدم تتجلّى قصّة الحبّ بين نورس وبهيجة. فهذه القصّة (بين بهيجة ونورس) تمثّل الحركة اللولبيّة في الرواية.
وتجدر الإشارة بأنّ أحداث الرواية في بدئها ،ونكوصها، تقدّمها وتراجعها، التفافها وتسلّلها، كَـــ (استرجاع الذكريات مع الأمّ – محاكمة والد نورس الماجد وقتله، محاكمة بشنو، موت بهيجة…) كلّها تؤدّي أشكال الصدام والمناورة التي تفرضها الحرب المدمّرة. وكأنّ حركة السرد اللولبيّة المتداخلة المتقاطعة المتعدّدة المحاور والمختلفة الوتائر، شكّلت حيلة الحكاية في حربها ضدّ الموت بقدر ما هي وجه من وجوه فتونه وسحره.
فالأحداث بمعظمها وإن كانت منتزعة من الواقع، ليست واقعيّة، فالتاريخ متخيّل والشخصيّات أيضًا متخيّلة، والكاتبة تتخطّى فيما تكتب حدود الجغرافيا لتلامس في القضية التي تطرحها، أعماق الذات الإنسانيّة.
واللّافت في هذه الرواية تضمينها بعض الإشارات التي تُعلن عن أنّ سميحة التميمي تُخبر عن الرواية داخل الرواية، فتغدو كتابة الرواية تعويضًا عن الحرب، إذ تقول:
“الوطن هو أن نكتب هذه الرواية من أجل أن تتوقّف الحرب”.
“لو كنت متّ أمس مع كلّ هؤلاء الجنود، كيف كنت سأسرد في الرواية كلّ هذا البؤس والخوف”،
“تلك الريح التي أتعبها المسير تجعلني أكتب روايتي”،
“لولا كلّ هذا البؤس لما كتبتُ هذه الرواية”.
في الواقع، إنّه فعل الكتابة الذي قد يبلسم جراح الحروب، وتجدر الإشارة بأنّ تقافة الكاتبة دفعتها لتضمين روايتها ببعض الأمثلة والوقائع التاريخيّة الحقيقيّة، والأقوال الفلسفيّة لنيتشه وغيره ما أعطى الرواية بعدًا فلسفيًّا وجوديًّا .كما لفتني التناص مع أنطون سعادة في عبارة “يا خجل التاريخ” ص 62، فهذه المقولة نقلها عن أنطون سعادة الكاهن من عائلة برباري ووثّقها سعيد تقي الدين .
والمتأمّل في لغة الرواية، يتبيّن هذه النفحة الصوفيّة (ما يصلح أن يكون بحثًا قائمًا بذاته)، وكأنّ الّلغة تؤدّي وظيفة سابعة تحرّك بنية السرد.
تأسيسًا على ما سبق تقدّم رواية المرتزقة رقم “9” الحرب بلاءً يقع ويضع شخصيّاتها إزاء خيارات وجوديّة حاسمة، وكما أنّ الرؤية العامّة التي ينضح بها النّصّ الروائي هي في النهاية خلاصة اشتباك المواقف المختلفة، وجدليّة تداخلها وتفاعلها وما تُفضي إليه من وضع نهائي، هو في الحقيقة إرهاص بالمرتجى والمأمول، ورهان على اتّجاه تتطوّر فيه الأحداث.
تعبّر هذه المواقف عن وجهات نظر خاصّة بالحرب وتقدّم رؤى متمايزة إلى الإنسان والمجتمع من خلالها، قد يكون في تقصّيها ما يمهّد إلى ما يمكن استخلاصه من رؤية عامّة يرجّح تبنّي النّصّ الروائي لها أو انحيازه إليها. ولقد طرحت الرواية أسئلة الوقائع والخيال، الحرب والسلم، الصدق والكذب، الحقيقة والوهم، الوفاء والخيانة… أسئلة تفتح على أسئلة تستدعي سواها، طارحة مقاربة الفرادة والشعريّة لهذا العمل الروائي. فرادة قد تتراءى متمثّلة في تآزر عوامل أساسيّة ثلاثة: البناء السردي والمشهد الدرامي والعبارة الشعريّة في مدارات التعبير التي ينهض بها الخطاب الروائي.