(ثقافات)
إدوار الخرَّاط ..
45 شارع أحمد حشمت بالزمالك
أحـمـد الـشَّـهـاوي
لا أعرفُ عنوانًا لبيتٍ في حي الزمالك سوى ٤٥ شارع أحمد حشمت ، في الطابق الثاني، حيث اسم إدوار الخراط موجودٌ بخطٍّ صغيرٍ على باب البيت.
وعلى الرغم من مرُور سنواتٍ طويلةٍ على معرفتي وتردُّدي على هذا العنوان ؛ فإنَّني لم أعرف سواه حتى كتابة هذه السطور .
العنوانُ هو بيتُ الكاتب إدوار الخراط ، الذي سكنه منذ العام 1956.
لكن كيف عرفتُه ؟
في يوم قرأتُ في صحيفةٍ مصريةٍ – لا أتذكرُ اسمها الآن – حوارًا للخرَّاط يتحدَّث فيه عن أهم الشُّعراء الذين يُفضِّل قراءتهم ؛ فوجدتُ اسمي بين عددٍ قليلٍ من شُعراء جيل السبعينيات الذي كان يتردَّد بعضُهم على بيته بشكلٍ أسبوعيٍّ ، خصوصًا أنه قدَّم لهم وفتح لهم طرقا عديدة في النشر ودعم تجاربهم والتبشير بشعرهم . ولم أكُن قد أهديتُ إدوار كتابًا شعريًّا لي ، وهذا يعني أنه يقتني الكُتبَ ، ويتابعُ الأصوات الجديدةَ ، ولا ينتظرُ من أحدٍ أن يهديَه كتابه .
فبحثتُ عن هاتفه وقلتُ له : هل تقصدني أنا أحمد الشهاوي خصُوصًا أنَّ هناك شهاويًّا آخر فقال : لا ، وضحك بنُبل الكبار ، واتفقنا أن أراه في اليوم التالي .
دخلتُ البيتَ فلم يكن سوى إدوار وحده والسيدة جورجيت ، التي كانت تفرحُ بنا ، وترى في زوجها اسمًا كبيرًا ومختلفًا ، وتدركُ الدَّورَ الذي يقومُ به مع الطليعيين من الكُتَّاب والشُّعراء .
ومنذ ذلك اليوم وأنا أزورُه بشكلٍ دائم مرَّةً أو ثلاثًا أو أربعًا كل أسبوع . كان دقيقًا في مواعيده ، والتزمتُ معه في المجيء ، المهم أن أخبره قبل الزيارة ، وصار شارع أحمد حشمت جزءًا مني ، وكذا الشوارع المُحيطة به ، حتى صار حي الزمالك مكانًا حميمًا لي بسبب إدوار الخراط، لأن بيته كان مفتُوحًا لي وكذا مكتبته .
إذْ كان من عاداته إذا وجدَ كتابًا مهمًّا فيشتري منه نسخًا كثيرةً ليوزِّعها على ” الأحباب ” وكُنتُ منهم أو في طليعتهم .
كانت لدى الخرَّاط أريكةٌ في غرفةٍ مكتبه ما من مرةٍ أزورُه إلا وجدتُ جانبيها عامريْن بالكتب ؛ فأقلِّب فيها فإذا به يقولُ هذه الكتب لمن يرغبُ في حملها ، وظللتُ سنواتٍ آخذُ كُتبًا من بيته ، ومنه تعلَّمتُ أن أهديَ من أحبُّ كتبًا بشكلٍ يوميٍّ .
وقد تعلَّمتُ من إدوار الخرَّاط الكثيرَ من الفضائل أو السمات، ويمكن أن أوجزَها في الآتي :
*الانحيازُ إلى الجمال في الحُكم على العمل الإبداعي ، والبُعد عمَّا هو ذاتيٌّ وشخصيٌّ ، والتجرُّد في القراءة النقدية والتعامُل مع النصُوص ، والنظر فقط إلى المتن .
* أن يمنحَ الكاتبُ وقتَه للأجيال التي تلته في الظهور والنشر ، وتبنِّي ما هو جديدٌ ومختلفٌ ومغايرٌ ويمثِّلُ إضافةً إلى المشهد الأدبي.
*أن يتعلم المرءُ ممَّن هُم أصغر منه ، بقدر ما يمنحُهم تجاربه ومعارفه وخبراته .
*أن ينوِّعَ الكاتبُ في قراءاته ومصادر معرفته ، وأن يقدِّمَ جديدًا في كُل كتابٍ يصدرُه ، بحيثُ لا يُكرِّر أو يقلِّدُ نفسه .
*أن المنْحَ والعطاءَ لا يعنيان الزَّعامة الأدبية ،ولكنهما سمةٌ من سمات المُبدع ، إذْ حاول أحد كُتَّاب جيل الستينيات عندما استقر في مصر أن يأخذَ مكانَ إدوار ، على الرغم من صداقتهما القديمة ، وبدأ يجمعُ ” الكُتَّاب ” حوله ، لكنَّه لم يكُن يحملُ جينات نُكران الذات ، بل الإنكار للآخر وسرعان ما فشلت تجربتُه في الاستقطاب والاحتواء غير المبنييْن على المحبَّة والإيمان بما يكتبُه الآخر ، بل كان يعادي بعضًا ممَّن استقطبهم.
*أستطيعُ أن أقولَ إنَّ إدوار الخرَّاط قد منحني ، ومنح غيري آلاف السَّاعات بل الأيام من عمره ، ولم يكُن يضيقُ باختلافي معه ، هذا الاختلاف القائم على الجدل المعرفي والحوار الخلاق .وكان يمكن أن يوفِّرَ وقته لحياته الأدبية والاجتماعية ، لكنَّه عاش يؤمنُ أنَّ له دورًا تجاه الكتابة الجديدة التي يتبناها وعليه أن يضطلع بذلك .
* تعلمتُ من إدوار أن أكُون صبُورًا ومحتمِلًا ، وأن أقدِّم غيري عليَّ ، وأن أقدِّم يدَ العون والمُساعدة ما استطعتُ في النشر .
* تعرَّض الخرَّاط إلى تهجُّم الكثيرين الذين اختفى أغلبُهم ،لكنه كان يغضُّ الطرف عن تُرَّهات هؤلاء وتفاهات حُججهم ، خصُوصًا أنَّ أغلبهم من كارهي القراءة والمُتعطِّلين عن الكتابة ، ولم يقدِّموا إضافةً إلى المتْن الأدبي ، وقد تعرَّض إلى تهجُّم بعضِهم بسبب الكِتابة عن تجربتي ، وأشهدُ أنه كان من أكثر الذين تبنُّوا تجربتي الشعرية ، وقد ناقشها في أماكن كثيرة ، وما كتبه عن شِعري يشكِّل كتابًا وحده ، وقد فعل ذلك مع غيري من الذين آمن بهم ، وإنْ كُنتُ حظيتُ بكرمٍ منه أكثر ؛ فلم يرد على أحدٍ ، وأنا أيضًا لم أمنح أحدًا شرفَ الرد على المتبطِّلين لأنَّ الردَّ إضاعةٌ لوقتٍ أنا في حاجةٍ ماسَّةٍ إليه .
* لا أنسى أنني طلبتُ منه طلبًا غريبًا بعض الشيء ، ولولا أنَّني أعرفُ نبله ما طلبته أبدًا ،إذ كنتُ مدعوا لثلاثة أشهر من The International writing program
في الولايات المتحدة الأمريكية ، ومطلوب مني أن أقدِّم محاضرةً افتتاحيةً فطلبتُ من الزميلة مهى شهبة ترجمة هذا المحاضرة ، وطلبتُ من إدوار الخراط أن يسجِّلها لي بصوته على شريط كاسيت ، فرحب ولكنَّه استدرك : لقد أفرطتَ يا أحمد في استخدام المصطلحات الدينية والصوفية ، وهذا أمرٌ شاقٌّ عليك خصوصًا أنَّ لغتي الإنجليزية كانت لغة الصَّحافة والسياسة ، وليست لغة الأدب .المهم أنه سجَّلها بصوته ، – وعليَّ أن أبحث عن هذا الشريط المختفي – ولما طُلبَ مني تحديد موعد المحاضرة قلتُ لهم : أنا آخر واحدٍ سيتكلم .
إذْ كنتُ أريدُ أن أعطي نفسي فُرصة استيعاب المحاضرة .
لا أظن أن هناك شخصًا يمكنُ أن يفعل ذلك سوى إدوار الخراط بنبله وشهامته الصعيدية.
* لم يكُن إدوار الخراط يكتفي بالكتابة عن تجربتي أو تجربة سواي ، بل كان يقدمنا إلى الكبار من رفقاء مسيرته مثل المصري الفرنسي سامي علي عالم نفس الجسد ، البروفيسور مصطفى محمد بدوي (1343هـ / 1925م – 1433هـ / 2012م)في جامعة أوكسفورد ، والشَّاعر والفنان التشكيلي أحمد مرسي (1935ميلادية ) وسواهم .
وعلى الرغم من غزارة كتابات أحمد مرسي ومنتجه الشعري فإنه توقَّفَ عام 1967 عن كتابة الشعر ، وما عاد إليه إلا عام 2001 ملبيًا طلب صديق طفولته الروائي إدوارالخراط في كتابة قصيدة عنه ، احتفاء بعيد ميلاد الخراط الخامس والسبعين، وبدا من المستحيل تجميع قصائد مرسي في كتاب واحد، فنُشِرَت أعماله الشعرية اللاحقة في دواوين جديدة منفصلة.
وقد أسهم مرسي عام 1968 إلى جانب كلٍّ من إدوار الخراط، وإبراهيم منصور، وجميل عطية إيراهيم ، وسيد حجاب وآخرين في تأسيس مجلة “جاليري 86” الطليعية، وشغل منصب رئيس تحريرها . وقد أصدر الخراط كتابًا عنوانه “الفنان أحمد مرسي شاعرٌ تشكيلي” ،(ويعتبر الخرّاط أن أحمد مرسي احتلّ كشاعر ورسّام مكانة تضاهي مكانة الشَّاعر منير رمزي بالنسبة إلى “مدرسة الإسكندريّة”- وكان إدوار الخرّاط أوّل من أطلق تسمية “مدرسة الإسكندريّة” على مجموعة الفنّانين والفنّانات الذين شبّوا في مدينة الإسكندريّة في فترة الأربعينيّات- ولاحقًا، تعرّف الخرّاط إلى مرسي أثناء عملهما في شركة تُعنى بحقوق النشر في الإسكندريّة ونشأت بينهما صداقةٌ متينةٌ استمرّت إلى حين وفاة الخرَّاط ).
* كما أنه كان وفيًّا لرفقائه ، ولا يمكنُ لي أن أنسى كتابَه عن صديقه الشَّاعر محمد منير رمزي( 1925 – 1945) الذي انتحر بسبب ترك حبيبته له ، وقد ناقشتُ إدوار الخراط ألفَ مرَّة في قصَّة انتحار منير رمزي ، خصُوصًا أنه استخدم اسمًا مستعارًا للحبيبة ، وأنا كُنتُ مع فضحها أمام الجميع .
لكنه أحيا منير رمزي وقدم نموذجًا نادرًا في الوفاء . فنشر له «بريق الرماد» – وهو مجموعة شعرية – جمعها وحققها كل من إدوار الخراط، ومحمد مصطفى بدوي، وصدرت عن دار شرقيات – القاهرة سنة 1997.
(2)
إدوار الخراط فتحَ طرقًا جديدةً في الكتابة ، وتبنَّى ما اقتنع أنه الأحدثُ والأجدُّ ، واجتمع حوله كتابٌ وشُعراء من أجيالٍ مختلفة ، منهم من قلَّده وحاكاه – وهو ما يرفضه إدوار أساسًا البعيد عن القديم والمناوىء للتقليد- وهؤلاء لم يواصلُوا المسيرةَ ، إذ توقَّف بعضُهم عن الكتابة وتواروا من المشهد ، ومنهم من لا يزال يحاولُ ؛ لكنه لم يصل إلى المنطقة التي كان يحلمُ بها وقتَ ظهوره ، أما الذين بشَّر بهم إدوار الخراط وتبنَّى كتاباتهم ولم يقلدوه فهم الآن في طليعة الكُتَّاب والشُّعراء .
ألم يبشر بمفاهيم ومناهج في الكتابة سادت الآن مثل الحساسية الجديدة ، القصة القصيدة ، الكتابة عبر النوعية ، المتتالية القصصية ، التداخل النصِّي ، أو تداخل الأنواع الأدبية ،حيثُ يستفيد الكاتب أو الشَّاعر من الفنون الأخرى مثل السينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية .
فقد بنى إدوار الخراط حساسيته الجديدةَ مستخدما الطرق الفنية والرؤى”على كسر الترتيب السردي الاطرادي، وفك العقدة التقليدية، والغوص إلى الداخل لا التعلُّق بالظاهر، وتحطيم سلسلة الزمن السَّائر في خطٍّ مستقيم، تراكب الأفعال: المضارع والماضي والمحتمل معًا، وتهديد بنية اللغة المُكرَّسة، ورميها نهائيًّا خارج متاحف القواميس، وتوسيع دلالة الواقع ؛لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشِّعر، ومُساءلة الشكل الاجتماعي القائم … استخدام صيغة (الأنا) لا للتعبير عن العاطفة والشجن، بل لتعرية أغوار الذات وصولًا إلى تلك المنطقة العامضة المشتركة «بين الذاتيات» التي يمكن أن تحل محل الموضوعية “.
وجرَّب الآليات والأساليب الجديدة المُبتكرة ، واستحدث توصيفات تجنيسيةً مغايرةً لما هو سائدٌ في زمانه مثل (كولاج قصصي / متتاليات قصصية …).
…
ففي السنة التي قرَّر فيها إدوار الخراط (16 من مارس 1926 – 1 من ديسمبر 2015)التفرغ لكتابة القصة القصيرة والرواية والنقد الأدبي والترجمة تخرجتُ أنا في قسم الصحافة سنة 1983 ميلادية . أبي يكبره بعام ( 20 من يونيو 1925)هو “أكثر الكتاب ثقافة “ليس بشهادتي ولكن بشهادة الجميع بدءًا من محمد مندور الذي كتب ذلك في الثامن من نوفمبر سنة 1959 ميلادية في جريدة الجمهورية .
صاحب أسلوب جديد فريد إذْ كان منفتحًا على الشِّعر والفنون البصرية خُصوصًا الفن التشكيلي والمسرح وبالطبع الإبداع في اللغتين الإنجليزية والفرنسية التي ترجم عنها الكثير .
صاحب خبرة وتجارب عميقة في الحياة جعلته طوال الوقت استثنائيا
فيحيى حقي (17 من يناير 1905م – 9 من ديسمبر 1992م) الذي يكبر الخراط بواحدٍ وعشرين عاما قال عن ” حيطان عالية ” : ( إن هذا الكتاب بشارة وتأكيد في الوقت نفسه لمولد كاتب موهوب واحتلال مكانته في الإنتاج الأدبي لأنه أثبت أن صاحب الموهبة الأدبية ينبغي أن يكون في الوقت ذاته عالمًا بالأدب ، فهذا طابع العصر الحديث ، وفوق ذلك رسم منهجًا للأسلوب يطابق الاتجاهات الحديثة في القصة “، ويكبرُه نجيب محفوظ (11 من ديسمبر 1911 – 30 من أغسطس 2006)بخمسة عشر عامًا ، وإن كان شهر ديسمبر هو القاسم المشترك بين الثلاثة ، وتلك مُصادفة غريبة ، وقد قال محفوظ عن “حيطان عالية ” : ( مغامرة من مغامرات الأدب الحديث المعاصر ، صوَّر الأشخاص وهي تفكِّر وتعاني المشاعر من حب وقلق وتوتر وصفاء ، فأكسب نماذجه حيوية فكرية نابضة ) .
كان الخرَّاط مهجوسا بالشكل الفني ، ويريد أن يقترحَ جديدًا في كل عمل يكتبه ويقدمه للقارئ ، إذ كان التجديد الجمالي شاغله الأول ، التجديد المبني على الأصالة والمعرفة والإلمام بتجارب الآخرين القدامى والمعاصرين له .
…
فمن يقرأ المجموعة القصصية ” حيطان عالية ” التي كتبها إدوار الخراط سنة 1959 – وهي أولُ كتاب ينشرُه – سيلحظ بذور الخرَّاط التي ستطرح عاليًا في مشروعه الأدبي بعد ذلك خصوصًا الروائي والقصصي ، والمتمرس في قراءة منجز الخراط فلن يلحظ أبدا أن هذه المجموعة هي كتابٌ أول ، فنحن أمام ” كتاب خارج عن المواصفات التقليدية لغة ورؤية ومنهجًا في الكتابة ” بحسب تعبير إدوار الخراط نفسه ، الذي كان يعرف مكانه ومكانته منذ البدايات الأولى ، وإن كان قد توارى طويلًا من الوقت ، حيث ابتدع شطحًا جديدًا ، وتشكيلًا بصريًّا ولغويًّا ، وتركيبًا مغايرًا للعلاقات التي ترتبط بالسياق ، سياق الموقف الذي يدل على العلاقات الزمانية والمكانية التي يجري فيها الكلام ، وكذلك النَّسَقُ الذي هو في أصله ” ما كان على نظام واحد من كل شيء” لكن الخراط يفارق بها ما كان متاحا ومطروحا وقتذاك .
إنها حيطانُ الخوف والقمع والقهر والحصار والتهميش والنفي والإقصاء العالية التي عاش إدوار الخراط يحاول كسرَها وتهشيمَها في الحياة والكتابة معا .
- عن نصف الدنيا