شَرُّ اللّغة

(ثقافات) 

شَرُّ اللّغة

 

*يوسف كوفحي

 

من أسوأ الأشياء، كما يقول أستاذ فلسفة اللّغة والعقل الأمريكيّ “جون سيرل” في كتابه (موجز تاريخ العقل): “أنْ توحي للقرّاء أنهم يفهمون شيئا بينما في الواقع لا يفهمونه، وأنّ شيئا تم تفسيره بينما في الواقع لم يُفسَّر، وأنّ المشكلة انحلت بينما في الواقع لم تُحلّ”؛ أي أنّ ثمة كلاما لا يُفهم، وكلاما غامضا مبهما، وأنّ المقول فيه هو مجرد لغة لا تُفسِّر ولا تَشْرح ولا تُحِل ولا تعقد، وهذا مما دفع الإنسان إلى سؤال معرفي يُعَدّ من أعقد الأسئلة المعرفيّة والوجوديّة على الإطلاق؛ لأنّ معرفة كلّ شيء، وأيّ شيء مرهون بالإجابة عنه، وهو:

ما هي اللغة؟

وهو سؤال قديم حديث، ما زال مطروحا بلا جواب، وهو سؤال في اللغة بوصفها ظاهرة إنسانية بامتياز، في ما يُفهم منها وما لا يُفهم، فبدؤوا بطرح الأسئلة حوله لعلهم يصلون إلى جواب يشفي بعضا من فضول الإنسان حول هذه الظاهرة الفريدة به وحده عن باقي المخلوقات، والمميزة له عن غيره منها أيضا، بدؤوا يطرحون أسئلة من نوع:

كيف نشأت اللغة؟ هل اللغة توفيقية أم توقيفية؟ ما علاقة اللغة بالفكر؟ ما علاقة اللغة بالعقل والوعي والإدراك؟ كيف نفهم اللغة؟ كيف نفهم الاستعارة (المجاز)؟ كيف نكتسب اللغة؟ كيف تُنتج اللغة؟ ما علاقة اللغة الذهنية باللغة المستعملة؟ كيف تعددت اللغات؟ ما هو أصل اللغات؟ ما علاقة اللغة بالثقافة؟ ما علاقة اللغة بالسلوك؟ ما هي حدود اللغة؟ ما علاقة اللغة بالمتكلم والمستقبِل؟

فعلى الرغم من البحث المضني عبر التّاريخ للإجابة عن تلكم الأسئلة أو عن بعضها، فإنّ مخرجاتهم المعرفيّة حولها كانت مجرد مقاربات لا تقطع بأي حقيقة أو إجابة دقيقة، فاللغة أعقد بكثير مما تصوّروا، وهي أعمق مما تخيلوا، وهي شيء لا يمكن حدّه إطلاقا، فهي عاجزة عن أن تُبينَ عن نفسها، إلى الآن على الأقل؛ لهذا، فقد فشل مشروع فلسفة اللغة في القرن العشرين لحل مشكلات في مجالات فلسفية أخرى مستعينين باللغة، فلجأ الفلاسفة للبحث في فلسفة العقل لسد هذا العجز في فلسفة اللغة، يقول “جون سيرل” في كتابه السّابق حول ذلك: “وصلت فلسفة اللغة إلى مرحلة من الركود النسبي بسبب بعض الأخطاء الشائعة بشأن ما يسمى مبدأ الخارجية الذي يقول إن معاني الكلمات، ومنها محتويات العقل، لا توجد داخل العقل، بل هي علاقات سببية بين ما هو موجود في العقل والعالم الخارجي، ولكن محاولات العجز في تفسير اللغة بناء على مبدأ “الخارجية” أدت إلى فترة خاملة في فلسفة اللغة، ولهذا حاولت فلسفة العقل أن تعوض عن هذا العجز”، فكأن البحث في فلسفة العقل أقل تعقيدا من البحث في اللغة، وإن كان الفصل بينهما أصلا كمكونين مستقلين للبحث غير قطعي ولا هو بالمثبت.

وبالتالي، فإذا كانت اللغة مجهولة إلى هذا الحدّ، وأنّها عاجزة عن تبيان نفسها، فهي أعجز أن تبين عن غيرها المحسوس والمشعور به، وهي أكثر عجزا من أن تبين عن ما غاب عنها شكلا ومعنى وفعلا.

وعليه، فإن الأسئلة التي تُطرح حول قدرة اللّغة البشريّة على التّعبير عن كلّ شيء، كالأسئلة ذات النوع الآتي، هل اللّغة قادرة على التّعبير عن كلّ تصوراتنا وأفكارنا؟ هل اللغة البشرية كافية لتعبِّر عن وجودنا فضلا عن اللاهوت؟ هل اللغة كافية لتعبر عن عواطفنا ومشاعرنا؟ فالإجابة القطعيّة عن تلكم الأسئلة جميعها هي أنّ اللّغة عاجزة بكلّ ما أوتيت من ألفاظ وتراكيب وأساليب وصور عن التّعبير عن كلّ ما سلف من أسئلة، وأنّها محدودة إلى درجة الصّفر في حدود لا متناهية من المعاني والأفكار والتخييل والتّصورات والمشاعر والأحداث، هي قاصرة بالمعنى الذي نقصده من قدرتها على التّعبير بشكل يقطع بكلّ نسبي أو شكّ أو غيبي أو تصور. وانطلاقا من تلك الحقيقة للغة، الحقيقة المُجمع عليها، والتي لا يمكن إنكارها نظريا ولا بأي شكل من الأشكال، فإن تلك الحقيقة المنكرة تطبيقيا وعمليا، ويُتعاطى معها على أنّها مسلمات وقطعيات وبَدهيات لا يمكن الشّكّ بها، وهذا للأسف، ما تشتغل عليه اللغة بوصفها شرا خطيرا، وأداة لهدم الحقائق والمسلمات، وخلق تصورات أسطوريّة وخرافيّة لا وجود لها في عالم الحقيقة أو في عالم نفس الأمر، وبوصفها؛ أيِ اللغة، أداة للفتنة والتّفرقة والاقتتال.

ولا شكَّ أنّ المقصود بتلك الشّرّيّة هي شرّيّة اللغة القابعة في أذهاننا وعملياتنا الذهنيّة والعقليّة، وما تسمح به تلك القوالب الذّهنيّة والتّصورات اللامتناهية للمعاني والدّلالات والأشياء. بمعنى آخر، فالشّرّيّة تقبع خلف النّظام المعقد لبنية العقل الإنسانيّ من جهة، وبنيته التّركيبية الدّماغيّة، وهما اللّذان يعملان في إنتاج اللّغة وفهمها، وحتى يكون الكلام أكثر وضوحا؛ فإني أعني من قولي السّالف أنَّ اللغة بوصفها عمليات ذهنية جُوَّانية، وبوصف المُعبَّر عنه جوَّانيّ، إلا أنّ هذا الكلام لا يتعارض مع اللّغة عند خروجها ككلام على لسان مستعمِلها، فلا شكّ أن اللغة باعتبارها لسانا (كلاما ماديّا) مفهومة بطريقة لا تحتاج إلى أي جهد ذهنيّ أو عقليّ أو تفكيريّ، فالمتكلم بها لا يعاني إطلاقا من استعمالها وإنتاجها، ولا يعاني كذلك من فهمها والتّفاعل معها بوصفه متلقيّا، فعمليات التّواصل بين البشر ذي اللّغة الواحدة تجري بكلّ سهولة وسلاسة وطلاقة، في أيّ موقف من مواقف الحياة اليوميّة، كالبيوع والشراء والتّعليم والتّربية والنّصح والإرشاد والتّوجيه والتّنبيه والتّحذير والتّهديد والوعيد والزّواج والطّلاق والكفر والإيمان والفضيلة والرّذيلة والكذب والزّور والبهتان والنفاق والتدليس والتحقير والإهانة والاحترام والتقدير والمودة والحب والألم والخوف والاهتمام والبِرّ وغير ذلك الكثير من المواقف والمشاعر التي يُعبَّر عنها باللّسان بين البشر موظِّفين فيها الحقيقة والمجاز، ومما هو أعمق أسلوبا ودلالة وتداولا وبلاغة، ممثلا بكلماتهم وثقافتهم وتصوراتهم المتداولة بينهم والمعمول بها بينهم بكل عفويّة وسليقة بلا تكلف أو تعقيد.

وعليه، فَشَرُّ اللُّغة يكمن، وخاصة في نظامها التّركيبيّ والدّلاليّ،  ونظامها المجازي، في أنّها تسمح لمنتجها حدا لا متناهيا من التّراكيب والأساليب والصّور التي يستطيع من خلالها التّلاعب بها لإظهارها بمظهر المُعبِّر عن المعاني المرادة، وهي ليست كذلك حتما، إذْ إنّها تدور في فلك معنى محدد هو تصوره لا غير، أمّا المعنى المبحوث في تلك التّراكيب والنّصوص غير موجود أصلا، ولن يوجد أبدا، ولكن التّلاعب باللّغة كأداة للتّعبير عن هذا المعنى الغائب هو الذي يوهم المُنتِج والمتلقي بصحة ما ينتجه من لغة معبرة عنه. فالذّهن البشريّ يقع فريسة الكلال والإرهاق وعدم تصور واضح دقيق حول ما يَقرأ من كلام لتصور المعنى الغائب. ليتوهم بعدها أنّ الكلام وإنْ كان غامضا مبهما شديد التّعقيد إلّا أنّه حتما يعبّر عن مراده ومقصده في ما يتكلم عنه. والحقيقة ليست كذلك، بل إنَّ الموضوع المطروح في الأصل غائب، والكلام عنه هو مجرد كلام يتعلق بالتّصورات الوجوديّة والذّهنيّة المحدودة جدا جدا؛ أيْ هو بعيد كلّ البعد عن تبيان حقيقة المعنى الغائب وتصوره.

وعليه، فإنَّ الخوض في عالم الغيبيات، عالم اللامحدود واللامتناهي واللامتصور واللامحسوس، بلغة محدودة وتصور محدود إنّما هو من العبث والأباطيل، وكلّ لغة يحاول منتجها تبيان شيء من تلكم الغيبيات، فإنَّ لغته مهما عَلَت في تركيبها ودلالاتها وصورها، إنما هي لغة في درجة الصفر المعنوي، وذلك كالذي اشتغل عليه الفلاسفة وعلماء الكلام في ما يعرف بـ (علم الإلهيات) أو (علم الكلام) وهو المعني بالمسائل المبحوث فيها عما يتعلق بالإله، وهو الخوض في الله سبحانه وتعالى ذاتا وصفاتٍ وأفعالا، أو الخوض في الملائكة والجنة والنار. وهكذا، فكل كلام فيه تفصيل عن جهة الله تعالى وتجبّر، أو صفاته وعلاقتها بذاته، أو أفعاله، أو مشيئته أو إرادته أو حكمته، فهو كلام قاصر لا يقدم ولا يؤخر، ولا يُعدّ هذا الكلام بأي زاوية من زوايا المعرفة هو مقاربة لها، لأن المقاربة المعرفيّة هي حقيقة بلا شكّ، إلا أنّها ليست شاملة أو مطلقة، بل هي حقيقة من زاوية واحدة، وربما تكون ضيقة جدا، مبرهنة ببراهين نظر مُنْتجِها المتزمّنة والمتمكنة والمُقنَّنة بقوانين الوجود الحاضر وبمسلماته وأدلته وتجاربه. وبالتالي، هي ناقصة، وتبقى ناقصة مهما كثرت المقاربات وتعددت ما دامت تخضع للزّمان والمكان والحالة وكلّها متغيّرات ومتحوّلات. أمّا الغيبيات فهي خارج الزّمان والمكان ولا تخضع لمسلماتنا وبراهيننا وتصوراتنا وتجاربنا، فهي وجود من نوع آخر لا علاقة له بوجودنا ولا بأي زاوية من زوايا النّظر.

فما معنى أنْ أبحثَ مثلا في علم الله، وأنه سبحانه يعلم الكليّات لا الجزئيّات، وهما نتاج خبراتنا وثقافتنا، وبحدود علمنا الصفريّة إزاء علمه المطلق سبحانه، ما معنى أن أبحث في صفاته سبحانه في كونها ذاته أم لا، انطلاقا من مفهوم القديم والمحدث الّلذين يخضعان لتجاربنا وحواسنا المُؤسَّسة على المقارنة الضّيقة جدا،  فكيف نبحث في القديم والمحدث في ذاته سبحانه وصفاته وأفعاله، ونحن لا نملك أيّ تصور عن الزّمن، أو العدم، أو الأزلي، أو الأبدي، أو الخلق، وما معنى أن أبحث في المُسبب والمُسببات في إطار قوانين العليّة الخاضع لمبادئ العقل البشريّ والتّجارب البشريّة، تلكم المسائل من المسائل التي بيّن فيها الإمام الغزّالي تهافت الفلاسفة حولها، والحق أنّ طروحات الفلاسفة حولها وردود الغزالي عليها لا تعدو كونها مقالات لغويّة، فتلك المصطلحات الفلسفيّة هي بالنّهاية لغة، وفهومنا عنها وإحاطتنا بها هو نتاج بشريّ محدود لا مطلق، وهي نتاج تصورات بشريّة عبر مئات أو آلاف السنين، بالنّهاية هي نسبية بالحدّ الّذي تسمح به عقولنا وقوانينها أنْ نردّ ونجيب عنها؛ أيْ في حدود وعينا وإدراكنا المنوط به فهمها بما لا يتناقض مع عقولنا وعالمنا المشاهد والذّهنيّ.

فالكلامُ الّذي يدور حول صفاته سبحانه، مثلا، من خلال اللّعب باللّغة ومصطلحاتها، كصفات ذات، وصفات فعل، وصفات معنى، وصفات المعنى، والصّفات النّفسيّة، وصفات السّلب، ثم بيان تلك الصّفات بإثباتها لله أحيانا، وبتعطيلها في أحايين أخرى، وذلك بتفسيرات لا معنى لها، في ظلّ نصّ قرآنيّ واضح بيّن أنه سبحانه هو الرّحمن والرّحيم والمتكبر والقاهر والمؤمن والقدوس…، وتناولوا صفاته سبحانه وعلاقتها بذاته كأنّهم على علم تام به سبحانه ذاتا وصفة، والحقّ أنّ كلّ ما جاء في هذه المسألة عند بعض المذاهب الكلاميّة، لا يخرج من كونه تصورا بشريّا لمفهوم الصّفة والذّات بما تتيحه لغتهم من طاقة ذهنيّة لتصور ذينك اللّفظين، فالصّفة والذّات، ما هما إلا لفظان بشريان بتصورات ومفاهيم بشريّة، ولا يعبّران إلّا عن فهومنا وتصوراتنا حولهما في ما بيَّنه القرآن لنا بارتباطهما به سبحانه وتعالى وجل، وهو الإيمان بهما وبتعلقهما ببعضهما كما أخبرنا عنهما سبحانه في كتابه العظيم. ومما يلي شيء من مقالات بعض الإسلاميين:

“الباري تعالى: عالم بعلم، قادر بقدر، حي بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع بسمع، بصير ببصر، وله في البقاء اختلاف رأي. وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته متكلم بكلام قديم، ومريد بإرادة قديمة، إنه قد قام الدليل على أنه تعالى ملك، والملك من له الأمر والنّهي، فهو آمرٌ ناهٍ، فلا يخلو: إمّا أن يكون آمرا بأمر قديم، أو بأمر محدث، وإن كان محدثا فلا يخلو: إمّا أن يحدثه في ذاته، أو في محل، أو لا في محل، ويستحيل أن يحدثه في محل، لأنه يوجب أن يكون المحلّ به موصوفا، ويستحيل أن يحدثه لا في محل، لأن ذلك غير معقول، فتعين أنه: قديم، قائم به، صفة له. وكذلك التقسيم في الإرادة، والسمع، والبصر”. ولن أزيد على ما جاء في هامش كتاب “المِلَل والنِّحَل” للشهرستاني تعليقا على هذا الكلام: “بأنه مهاترات سمجة، وسفسطة باردة، وفذلكة غثّة، وترهات ممجوجة”.

ثم جاءت مقولة أخرى ترد على تلك المقولات، بمقولات جانبت بها حقيقة اللغة واستعمالاتها ودلالاتها وتداولها، فمما جاء:

“إنما التشبيه أن يقول: يد كيد، أو وجه كوجه، فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار”.

وهكذا، فإن قولهم: له يد ليست كأيدينا، وله وجه ليس كوجهنا، إنما قول يثبت الشبه بينه وبين المخلوقات، فمجرد القول بأنّ له يدا، فإن هذا يعني أنّ له يدا، فقولي : بأنّ لي يدا ليست كيد المخلوقات، هذا لا ينفي التشابه بيني وبينها، بما أنني أثبت أنّ لي يدا، لأنّ اليد بعض بأي كيفية كانت، وبأي صورة كانت، وكذلك الوجه، والرِّجل، وهي كلّها أبعاض. والحقّ، أنْ ينظر إلى تلك الآيات باعتبارها نصّا فقط، وباعتبارها المفهوميّ في كلام العرب، فعندما يقول الله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ فهو كذلك، بلا أدنى شكّ، بلسان؛ أيْ بكلام العرب المتداول بينهم، الكلام الذي يُفهم مباشرة بلا تفكير ولا إعمال عقل، فهو الكلام المستعمل في حياتهم اليوميّة، وهو ما يعرف بالدّرس اللّسانيّ الحديث بـ(الكلام) بمصطلح سوسير، أو بـ (الأداء) بمصطلح تشومسكي، وهذا الكلام يُفهم بالسّليقة وبالعقل المباشر بعيدا عن فكرة الحقيقة والمجاز وما لفّ لفهما، فلا يمكن أن أتصور أنّ الأعمى في قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ هو أعمى البصر، وكذلك لا يتصور أحدٌ إطلاقا عند سماعه قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ صورة جسم ينتقل من مكان إلى مكان، بل مباشرة يتصور صور الحساب والعذاب، ولا يمكن أن يتصور أحدٌ عندما يسمع قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ وجها ليس كوجوهنا، بل سينصرف الذهن إلى تصور العظمة والإكرام والجلال في أقصى تصورات ذهنه. بمعنى آخر، فعندما يقول الله سبحانه: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، وفي قوله سبحانه: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾، فليس المراد من قوله سبحانه أن يخبر بأنّ له يدا أو عينا، بل إنما القصد أنه هو الكريم الرّزاق، وأنّ السفينة تجري برعاية الله وحفظه، ولا يَفهم العربي إطلاقا من تلك التراكيب وفي سياقاتها المذكورة أنّها إخبار إطلاقا. وقل مثل ذلك في الآيات التي ذُكِر فيها كلمة وجه أو عين أو ساق في حقّ الله تعالى، حاشاه تعالى وجلّ، وقل مثل ذلك في جميع الآيات التي ذكرت تلك الألفاظ عنه سبحانه وتعالى علوا عظيما. أما المعنى الحقيقيّ، المعنى في نفس الأمر للآيات المتشابهة معنى كتلك الآيات، فلا يعلم تأوليها إلّا الله سبحانه: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

ولا يمكن لنا أنْ نفهمَ مئات الآيات المتعلقة بأفعاله سبحانه إلا في إطار دلالة استعمالنا للغتنا النّاقلة لنا أفعاله وصفاته سبحانه، لأننا لن نستطيع أن نتصور  تلك الآيات إلا في إطار تصوراتنا عن دلالاتها واستعمالاتها ومجازها، ولا يمكن أن نحملها على ظاهرها في ضوء تصوراتنا، لأنه، ساعتئذ، سنتناقض مع آية قطعية الدلالة وهي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، عندما يقول سبحانه : ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾، و ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾، و ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، و ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾،  و ﴿الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ﴾، وغير ذلك من الآيات، ففراغ الله ومجيئه وغضبه وانتقامه واستواؤه، أمور لا يمكن إطلاقا حملها على ظاهرها المستعمل في لغتنا، في حقّ الله سبحانه، بل هو صورة تقريبية لتتوافق مع عقولنا وفهمنا وتصوراتنا، فالمعوّل عليه هو تصورنا غير المقصد والغاية من تلك الآيات لبيان عظمة الله وقدرته وإرادته وتهديده ووعيده، والشّاهد على أنّ المقصود من تلك الآيات هو كذلك، قوله تعالى في وصف الجحيم: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ ونحن لم نشاهد الشياطين ولم نشاهد رؤوسها، إنّما هو مشبه به بوصفه صورة في أذهاننا تشكَّلت عن رؤوس الشّياطين باعتبارها مرعبة وقبيحة جدا، وليست كما هي في حقيقتها ونفس أمرها.

وعلى ذلك، فإننا ملزمون بمعرفتنا بلغتنا، وكذلك مخاطبون بما نعرفه من لغتنا ونتعاطى معها في حياتنا وتفكيرنا لا أنْ نتجاوزها إلى اللامعلوم واللامحدود، بدليل أننا نؤمن أيمانا قطعيا أنّ الله ليس كمثله شيء بنصّ القرآن، وفي الوقت نفسه نؤمن أنه لا تناقض في القرآن من خلال وصفه سبحانه لذاته بصفات وبخطاب بشريّ، وعليه، فإنّه ليس بمكنتنا إطلاقا بناء على اللّغة أنْ نحدد نوع الله سبحانه اتكاء على خطابه سبحانه في مئات الآيات بضمير المفرد الغائب المذكر كقوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾، و ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ﴾، لنقول إنّ الله ذَكَر -سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا وعظيما –

فالضميران (هو/ هي) ليسا ضميرين للجنس، إنما هما ضميران للإحالة إلى شيئين: أحدهما يحمل صفة الأهميّة والمكانة الرّفيعة والقوة والشّجاعة والسّلطة، والآخر إلى نقيض ذلك غالبا، كما يتصور للمحال عليه في ذهنيّة المتكلم العربيّ وتوظيفه لهذين الضميرين في أصل الوضع والاستعمال، ولا تُسعف اللّغة للإحالة على الغائب المفرد إلا بهذين اللّفظين، والدّليل على ذلك، أنّهما مستخدمان فيما يُعرف بالمذكر والمؤنث المجازيين، فنقول: (الشّمس هي)، و(القمر هو)، وهما لا بالمذكر ولا بالمؤنث.

ومما يثبت ذلك، هو كمثل نوره سبحانه في قوله ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، فهو تمثيل واضح بأنّ الغرض منه هو بيان عظمة نور الله، فهو مثل بصورة حسية؛ لتقريب المعنى لهذا النور الرّبّاني العظيم، وهو من باب تقريب المعنى للنّاس باستخدام صورهم ومعانيهم وحسيّاتهم. وليس على حقيقة الأمر إطلاقا.

فالله أمرنا أنْ نؤمن به كما جاء في كتابه العزيز، في إطار قوانيننا المفهوميّة، لا كمعنى خارج أذهاننا وتصور خارج أذهاننا أيضا، أن نؤمن به بوصفه كلامه سبحانه وتعالى، أن نؤمن به باعتباره نصّا لأنه نزل بلغتنا المستعملة وبتصوراتنا وعقولنا وتفكرينا المدرك والمحدود، فإيماننا به نصًّا هو الحد المطلوب منا ليتوافق مع وعينا وإدراكنا وقصدنا وتفكيرنا ومعرفتنا، فالمسألة ليست بالتأويل ولا بالتفويض ولا بالإثبات، بل بالنظر إلى معنى اللّغة ودلالاتها وآثارها، في ضوء استعمالها في اللّسان العربيّ المتداول بين الناس، لا في نظامها الذهنيّ المعقد جدا الّذي يسمح بإنتاج تراكيب وعبارات لا متناهية ذات معنى أحيانا، وبدون معنى في آحايين كثيرة.

والحقيقة التي تغيب عند أكثر العلماء والمتخصصين أنَّ الاستعمال اللّغويّ مرتبط بالكلام المحكيّ في الحياة المعيشة بين النّاس؛ أيْ حتى يكون المقصود بتداول القرآن لغة بين النّاس أنّ يستعملوا اللّغة المصطلح عليها باللّغة الفصحى، نحوا وصرفا وأسلوبا وبلاغة، إلّا أنّ الحقيقة ليست كذلك، فالنّصّ القرآنيّ هو نصٌّ متداول في اللّغة المستعملة بين النّاس من العرب وغيرهم ممن هم مسلمون تقريبا، من لحظة نزوله إلى وقتنا الرّاهن، فالتّداول المقصود، ها هنا، أنّ النصّ القرآنيّ موظَّف في اللّسان العربيّ توظيفا دقيقا وصحيحا ومفهوما، وذلك في سياق الاستشهاد به على أحداث أو مواقف أو مشاعر في حياة المتكلم العربي اليوميّة، وكذلك في الشؤون التّعليميّة والتّربويّة والبحث العلميّ وفي الصّحف والجرائد والمقالات والأعمال الأدبيّة، فهو ليس بنصّ غريب أو مبهم أو معقد إطلاقا، فأيّ عربيّ يسمعه يفهم المراد منه، من حلال وحرام، وأوامر ونواهٍ، وعِبَر ومواعظ، وإيمان وكفر، وفضيلة ورذيلة، فهما مباشرا في أغلبه، أو فهما متدبَّرا في بعضه.

وهكذا، فإنّ أيّ سؤال متعلق بمعرفة الله لا بدّ أنْ يكون الجواب من كلامه سبحانه، أيْ بما نصّ عليه في كتابه الحكيم المنظوم بلغة هي في حدود طاقتنا وتصوراتنا، وهذا هو المراد فعلا، فالجواب مثلا عن الجهة والحدّ في حقّه سبحانه يجب أنْ يكون بنصّ القرآن دون زيادة أو نقصان، وهو: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾، و ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾، و ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾، و ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾. وكذلك السؤال عن ذاته، أو صفاته، أو أفعاله سبحانه وتعالى وتجبَّر.

ومن مبدأ نفي النّفيّ إثبات، فإنّ شرّ اللّغة في تلكم المواضيع أجلَ الرّد على شرّ لغة الآخر الذي يبغي إبطال الحقّ والإفساد في الأرض بطرح المسائل التي تريب النّاس وتوقعهم في الشّك والشّتات الذّهنيّ، وربما تقودهم إلى الضّياع والكفر، فإنّه يمكن لنا أنْ نصف لغة المشتغلين بعلم الكلام أو علم الإلهيات من خير اللّغة، باعتباره علما يتضمن الحِجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات، وخلوصًا من العقائد الكافرة الضّالة، والتزامًا بالعقيدة الحقّة. لا باعتباره كلاما يقدم حقائق تثبت بالدّليل والبرهان، بل باعتباره كلاما يردّ المغالطة بمغالطة أحكم.

باحث في قضايا الفكر وفلسفة اللغة

دكتوراه في علم اللغة وتحليل الخطاب

yousef_koufahi@yahoo.com

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. مقال عميق يستحق القراءة والمناقشة… سلمتم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *