(ثقافات)
قراءة في رواية “حيوات سحيقة” ليحيى القيسي
هاني سمير يارد
أصابَ مَنْ قدّم الأديب الأردني يحيى القيسي في النبذة التعريفية على الغلاف الخلفي لرواية “حيوات سحيقة” (2020) أصاب إذ وصفه بـ “روائي وباحث”. فهذه الرواية (أو الحكاية) ليست محض سرد خيالي ممزوج بآخر واقعي، وإنما تتكئ على أحداث منها التاريخي الحقيقي والمثبت، ومنها الراهن الذي لم يكد يمضي عليها بضع سنين، جهد القيسي، لا ريب، في البحث عنها وربطها ببعضها بعضا ليبني لنا عملا فنيا، عميقا، ومحكما.
اختيار القيسي للبتراء كان اختيارا موفقا يلائم أحد مواضيع الرواية ألا وهو مراجعة الفكر الديني بلمحة تنويرية ولكن دون المساس بالثوابت. البتراء لا تخلو من دلالات دينية منها الواضح البين، كـ “وادي موسى”، ومقام هارون: فهناك “على مقربة من مقام رجل من الصالحين”. وثمة الدلالات الدينية المبطنة: ففي البتراء “الدير”، والكهف (كالكهف الذي ولد فيه المسيح، حسب رواية الكتاب المقدس، وغار حراء، والكهف الذي أوى إليه النبي مع أبي بكر هربا من كفار قريش) وقد وردت كلمة “الكهف” في الرواية 29 مرة.
أضف إلى ما تقدم، هناك “السيق” (البَرْزَخُ: ما بين كل شيئين من حاجز)، و”البتراء”ـ الخطبة التي لم تبتَدَأ بالتحميد، وتُستفتَحْ بالتمجيد. وهناك سلسلة حلقات وثائقية باللغة الإنجليزية بعنوان: علم الآثار والإسلام: البتراء في القرآن لـ Dan Gibson
Archaeology and Islam: Petra in The Qur’an
يوظف القيسي أكثر من حدث تاريخي وقصص حقيقية في روايته ومنها زواج شابة نيوزلندية، مارغريت، جاءت سائحة إلى البتراء ثم تزوجت بدويا من أهل البتراء وعاشت معه في مغارة. وقد كتبت كتابا بعنوان “متزوجة من بدوي” Married to a Bedouin روت فيه قصة زواجها من “محمد البدول” واستقرارها معه في البتراء.
كما يستدعي الكاتب قصة مستكشف البتراء الرحالة السويسري جون بيركهارت John Burckhardt عام 1812 فينتقل بين تلك الحقبة إلى 2012 ليخبرنا عما جرى في ذلك العام. وحسب الكاتب، فإن قصة استكشاف البتراء ترتبط بمحاولة استكشاف مدينة تمبكتو في مالي التي أنجبت عددا من الفقهاء وعلماء الدين الإسلامي.
ولأن القيسي، منشغل “منذ سنوات بمراجعة الفكر الديني، ونشر ثقافة التنوير”، حسب التعريف على غلاف الرواية الخلفي، فقد رجع إلى تاريخ مهم مسكوت عنه من تاريخ الأردن وهي الحقبة التي حاول إبانها الوهابيون، دون طائل، فرض مذهبهم على مسلمي مدينة الكرك. وعليه جاء الإهداء:
“إلى فرسان الأنوار العلوية في رحلتهم الأرضية.”
إذن، الإهداء موجه لبطل الرواية، “صالح”، ولكل الباحثين عن التنوير العلوي في رحلتهم الأرضية. وإن اعتبرنا أن الإهداء جزء من الرواية خُط بقلم الراوي لا الروائي، فعندها نستبعد أن يكون القيسي وضع بين سطور روايته تجربته الشخصية التي كشف عنها في مقابلة أجريتها معه تحدث فيها عن رحلته من الإيمان إلى الشك ومن الشك أو عدم الإيمان إلى الإيمان. وحسب مقال للكاتب نفسه ينفي عنه إيمانه بنوازع بطل الرواية “صالح”، فيقول:
“تنشغلُ هذه الرواية بمقاربة إمكانيّة وجود حيواتٍ سابقةٍ لأرواحنا في أجساد أخرى، وإذا كان بعض الأمم يؤمنون بذلك ويعتقدون بأنَّ الجسد المادي هو قميص للروح تخلعه حين الموت، ولا يوجد ما يمنع أن تكون الروح قد عاشت تجسّدات أرضيّة من قبل، فإنّ تناولي للأمر كان فنيّاً أي توظيف هذه الثيمة لجعل الشخصية الرئيسية في الرواية “صالح” متعدّداً وعابراً للأزمنة والأمكنة، مما يتيح للرواية تقديم خبرات مختلفة ومكثفة للمتلقي . . . إنَّ العمل الروائي في النهاية عمل فنّي ومعرفي يمكن للقارئ أن يأخذ منه – بحسب ثقافته – جمالياً ومعرفياً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، كما أنّ العمل السردي الإبداعي برأيي يحتمل الكثير من الطبقات المعرفية والجمالية التي تحتاج إلى متلق مبدع يُساهم مجدداً عبر كلّ قراءة في فتح الإمكانيات على آفاق جديدة لا منتهية.”
والقيسي لا يخبرنا بكل شيء أراد أن يقوله في روايته، بل يفسح في المجال للقارئ لأن يعمل فكره في لغة الرواية ليفكك مغاليقها “المفخخة بالدلالات والمزدحمة بالإشارات والمعارف في شتى الموضوعات”.
في البدء كانت الجملة
الجملة الأولى من نص الرواية تضع القارئ في مزاج وحالة نفسية أشبه بسجن رمزي، أو أمام قدر وجودي لا فكاك منه:
“لا مناص مما جرى.”
يقرر الاستهلال هذا أنه لم يكن من مفر من موت الشخصية المحورية “صالح”، أو ربما من بحثه عن الحقيقة الذي ساقه إلى حتفه، أو قد ينسحب مغزى الجملة على مجمل ما وقع في التاريخ البشري الذي أتى على ذكره الراوي من الأزمنة السحيقة حتى عام 2012 والمسمى بـ “الربيع العربي” في سوريا، والعراق، ومصر، وتونس، واليمن وليبيا، إضافة إلى فلسطين.
تُذّكر هذه الجملة “لا مناص مما جرى” بعنوان مسرحية بول سارتر “لا مفر” No Exist (1945) التي جاء عنوانها بالفرنسية Huis clos أي “خلف أبوب موصدة” أو In Camera أي “جلسة مغلقة” أو Dead End أي “طريق غير نافذ” فلا مخرج منه ولا فرج.
وإن اتفقت هذه الجملة الاستهلالية في رواية القيسي في معانيها مع عنوان مسرحية سارتر، فإن من مرامي الرواية ما يتفق مع فكرة تلك المسرحية: Hell is other people : “الشقاء هم الآخرون” و”ليس الشقاء حالة من صنع الله”. والشقاء في الرواية ليس العنت في معترك الحياة لتأمين الكفاف، وإنما العنت في الوصول إلى الحقيقة الدينية التي شوِّهت عبر الحقب التاريخية المختلفة بقصد أو بغير قصد. وممن جاء الشقاء؟ من “الآخرين” الذين قاموا على الدين وفسروه وطبقوه وحكموا وقتلوا وعذبوا “العالمين” ومثلوا بالبشر باسمه، وبسطوته وقدسيته.
ثم تأتي الجملة الثانية لتأكد الجملة الأولى:
“فالمقاديرُ تساق بأعنَّة خفيّة في ذلك العالم الغامض، وُتوضَع أمامنا كخيارات شهية.”
و”المقادير”، حسب لسان العرب، جمع “المقدار” وتعني “الموت”، فالمِقْدارُ اسم القَدْر، فقد قالت العرب: إذا بلغ العبدُ المِقْدارَ مات.
وعبارة “ذلك العالم الغامض”، حسب الراوي، تعني العالم الآخر الماورائي، فعندما نموت لا تفنى أرواحنا، ولكن تحل في أجساد أخرى، وهذا مغزى عنوان الرواية حيوات سحيقة. فالموت يساق بأعنة خفية في “ذلك” العالم الغامض الذي نعتقد أننا نعيه ونفهمه، وهذه المقادير توضع أمامنا كخيارات: لكننا في النهاية لا نعلم كيف نموت؟ ومتى؟ ولماذا؟ وفيما نموت؟ وهل تحل أرواحنا بعد الموت في أجساد أخرى؟
الراوي يخبرنا بما يشبه اليقين عنده بتقمص الأرواح. وهنا تتجلى عبقرية القيسي باختياره مفرداته: “مقادير”: جمع موت لتكون ندا لـ “حيوات”: جمع حياة.
التراث والموهبة الفردية
يلمح ت. س إليوت “الناقد” في مقالته الشهيرة Tradition and the Individual Talent (التراث والموهبة الفردية) إلى ضرورة أن يهضم الشاعر ما كتب قبله المتقدمون حتى يتجنب اجترار أو حتى تكرار ما كتبوا، وتكون المشكلة إن أخفق في الوصول إلى ما أبدعه المتقدمون السابقون.
فلا بد أن القيسي قرأ رواية مواطنه الروائي الراحل مؤنس الرزاز متاهة الأعراب في ناطحات السراب (1986) ولا بد أنه هضمها، فكتب حيوات سحيقة على شيء من منوال “المتاهة”، لكن مع فارق شاسع بين الراويتين، فقارئ “المتاهة” لا يخرج بشيء ذا مغزى منها، وذلك بسبب ما وقع فيه الرزاز من ” تجريب” أدى إلى “تخريب” أس فكرة الرواية من أساسها بهدمه ركنين أساسين من أركانها: الزمان والمكان Setting، ناهيك عن ضبابية البطل نفسه.
وعلي أن أورد هنا حالة مشابهة في رواية “جيش الماء” للتونسي جمال العرضاوي، إذ لا يتبين القارئ حدود الرواية المكانية والزمانية إلا بعد الصفحة الثمانين، الأمر الذي حرم كثيرين من قراءة رواية ذات نثر باذخ واستثنائي.
في حيوات سحيقة يخبرنا الراوي العليم (الكلي الحضور في كل أوان) Omniscient Narrator بأماكن الأحداث في الصفحة الأولى وأزمانها وبطبيعة عمل “صالح” في الصفحة الثانية وما إلى ذلك من تفاصيل مهمة لا بد منها ليكون القارئ على بينة مما يقرأ ويتخيل منذ البداية:
“يستحضر الآن تفاصيل ما جرى في شعاب ذلك الجبل الصخري، هناك عند أطراف “البتراء”، المدينة الفاتنة، حيث تجلس الأبديُة خاشعة في رحاب طبيعتها الجامحة، فيما يعرُج الفن الباذخ من روعتها مبتهجا من روعتها.