مات المؤلّف وماتت الكتابة ويموت القارئ!

(ثقافات)

مات المؤلّف وماتت الكتابة ويموت القارئ!

مرزوق الحلبي

إن فكرة “موت المؤلّف”* ومن بعدها فكرة “موت الكتابة” (بارت وفوكو وثورة الطلبة في فرنسا العام 1968) سعت إلى تحرير النصّ من قبضة السلطة المهيمنة والإيديولوجيا والدولة ووضعه بالكامل تحت سيطرة الشعب ـ القارئ. وافترضت أيضًا أن يكون هذا القارئ حرًّا في التأويل والتفكيك والتركيب كأن النصّ ملكه هو وليس أداة سيطرة في أيدي النظام والسلطة ـ أي سُلطة. ترافق ذلك مع نقاش مستفيض حول أفضليّة الثورة على الكتابة والفعل الثوريّ في الميدان على الفعل التنظيريّ. وهو نقاش احتدم إلى حدّ أربك كلّ من رولان بارت وميشيل فوكو الشريكيْن بفاعليّة لافتة في الكتابة والتنظير خاصة أن حركات الطلبة والتظاهرات الطلابيّة في السوربون وجامعات باريس اتهمت كليهما في المراحل الأولى بالتبرجُز وموالاة النظام والمؤسّسة والدولة التي تأتي ثورة الطلبة لتفكيكها وهدمها في أوروبا ما بعد الحرب العالميّة الثانية.

رولان بارت

أسوق هذه المقدّمة كمدخل للحديث عن “القارئ” الذي آلت إليه مفاتيح النصّ وتفكيك الكتابة واستبدالها بـ”نصّه”. وهو القارئ الذي تمّ استبداله في “الثقافة المرئية” و”لغة الخوارزميات” بالمشاهد والفاعل الشبكيّ أو “الناشط” في شبكات التواصل.

وقد رأيتني في تعامل شبه يومي في السنوات الأخيرة مع النظريّة والتطبيق، مع “القارئ” ومع “الناشط”، مع صانع النصّ ومع الرائي ومع واضع/ة النظريّات في هذا الباب لأكتشف وجود طيف من “القرّاء” وطيف مماثل من “الناشطين”. أما المُشترك بينهما فهو هذا القطاع الواسع من الصنفيْن الذي اكتسب وعي القطيع المسطّح الذي يجعله مُقبلًا حدّ الهوس على التافه والسطحي من نصوص وصور. كأن حركة انتقال مركز القوة إلى القارئ أفقد الأدب معناه والنصّ جماليّته والصورة ألقها وأثرها. وقد يكون قِطاع القرّاء من هذا الصنف غذّى قطاع الناشطين والتحم به في جيش عرمرم أين منه جيش الاسكندر المكدونيّ! وأكتشف فداحة الأمر عندما أعرف “أصناف” الأدب التي يقرأها البعض أو تلك الأهمّية التي يُعطونها لهذا النوع من الكتابة أو لهذا النوع من “الصور”. وأشعر أحيانًا أن هؤلاء الذين أرادت الفكرة منحهم كامل الحقّ في التأويل والتفكيك والتقييم والحُكم إنما يرفضون الحرية المُفترضة والقدرة على امتلاك صوت ووجهة نظر و”نصّ” وينساقون ضمن جوقة جماعيّة وتيار يستهلك النصوص والصور الرديئة والسريعة والسهلة والمقيتة ويتفاعل معها ويقتبسها ويكرّرها ويبدو عاجزًا عن إنتاج نصّه أو صورته. يقصّ ويُلصق يقصّ ويُلصق كأنه روبوت تشغّله خوارزميات. كأنه يعدم أي نوع من الثقافة والمعايير يستهلكها ولا يُنتجها يتلقّاها كما هي ولا يُفككها ولا يؤوّلها. ومنهم مَن يحوّلها إلى دين جديد أو “حقائق مُطلقة” فيما كانت ثورة الطلبة المذكورة وكتابات فوكو وبارت ودريدا معهما ضد “الحقائق المُطلقة”! يبدو ضعيفًا تفعل فيها النصوص والصور كلّ شيء ولا يفعل فيها، تصممه وتبنيه وتهدمه بينما هو غير قادر سوى على استهلاكها.

ربّما أننا حيال موت القارئ والرائي والناشط ـ أمام أفولهم جميعًا. مع مخلوقات الذكاء الاصطناعيّ مَن يحتاجُ إلى القارئ والرائي والمفكّك والمُؤوّل!

(دالية الكرمل ـ كانون الثاني 2023)

*هناك من أخذ هذه الفكرة إلى موضع لم يقصده بارت وهو قتل المؤلّف حقيقة لا مجازًا، والتصرّف بنصّه كأن لا ملكية فكرية ولا ما يحزنون.

شاهد أيضاً

بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي

(ثقافات) بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي جميع المذيعين والمذيعات والبرامج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *