جبران خليل جبران: رسام الجمال المثالي

جبران خليل جبران

رسام الجمال المثالي

 

غازي انعيم

 

لم يبلغ أديب ورسام من الشهرة والمجد في القرن العشرين أو نال من الاهتمام والاحترام في الشرق والغرب ما بلغه جبران خليل جبران ( 1883 ـ 1931 ) الذي اشتهر برسومه التي تحولت إلى مصدر رزقه في بداية حياته كما أشتهر بعد ذلك بالشعر والنثر، وكثيراً ما قال ” لا فرق بين الرسم والشعر، كلاهما تعبير عن النفس والعقل والقلب، كلاهما يعكس ذات الأفكار، إنها لسان واحد، بألوان مختلفة لرسالة واحدة “.

وهنا لا نريد أن نتحدث عن مسيرة حياة جبران الشاعر والأديب، فقد أشبع هذا الجانب كثيراً من قبل النقاد والمهتمين، بل سنتناول الوجه الآخر من حياة المبدع ( جبران ) الإنسان الفنان الذي وضع بصمته الناصعة على حركة التشكيل العربي في الثلث الأول من القرن الماضي.

ـ فكيف بدأت واستمرت مسيرة جبران التشكيلية؟

ولد الشاعر والرسام جبران خليل جبران في السادس من كانون الثاني عام 1883 م،  في قرية ” بشرى ” بلبنان ” لعائل لم يكن كثير الحنكة والخبرة… في تحصيل الإعالة الكافية لعائلته ، ولأم متقدة الذهن، نبيهة، رغم كونها غير مثقفة جريا على عادة تلك الأيام، لكنها  على نقيض زوجها، كانت محبة وقابلة للتضحية بالذات، متحملة لمسؤولياتها طموحة في رسم مستقبل أولادها “. ( 1 )

كان جبران في الحادية عشرة من عمره، ميالاً إلى الرسم على الحوائط، بعد ذلك أخذ وهو طفلاً إلى أطلال بعلبك، أكثر أطلال العالم روعة، فأخذ يرسمها في كراسة كان يحملها. هذه المرحلة كانت إيذاناً بمولد موهبة لفتت إليه أنظار مدرسيه ووالده الذي كان ينظر إلى هواية ابنه بأنها ” هواية حمقاء، تعيق ابنه عن النمو بقوة وصحة، فحاول بكل صرامة كبح ( جبران ) وتعنيفه بكل وسيلة، مما دفع بجبران إلى مزيد من العزلة والوحدة مع رسومه وصوره ومع شخصياته الساخرة “. ( 2 )

مع حلول عام 1894 م رأت والدة ” جبران ” مع ابنها الأكبر ” بطرس ” أن الهجرة هي الحل الأفضل للمشكلات التي تعانيها الأسرة.. فاتجهت أنظارها إلى أمريكا وشدت الرحيل إلى ( بوسطن ) وحطت رحالها في ( الحي الصيني ). حيث نزلت العائلة المكونة من الأم ( كاملة رحمة ) وأولادها ( بطرس، ومريانة وسلطانة ). وكان الحي يتسم بكل مظاهر الفقر.

بعد استقرار العائلة سجل جبران في المدرسة لمواصلة تعليمه، وأثناء الدراسة كان يتردد على مكتبات الموسيقا وكتب الشعر والأدب، فاهتمت به السيدة ( فلورنس بيرس )، إحدى مدرساته، وظلت ترعاه حتى قدمته إلى الفنانة ( جيسكا بيل ). التي قدمته بدورها إلى راعي الفنانين الشبان، المصور ( فريد هولاند داي )، وبدأت زياراته تتكرر إلى مرسم ذلك المصور، مما أثار مخاوف أمه التي قررت إرساله في عام 1897 م، لدراسة تاريخ بلده وأصول اللغة العربية، لغته القومية، في مدرسة الحكمة ببيروت، حيث قضى فيها أربع سنوات.

في نهاية عام 1901 م، عاد جبران إلى أمريكا ليجد الموت قد حصد عائلته نتيجة إصابتهم بمرض السل، وعدم قدرتهم في تلك الأيام على توفير تكاليف العلاج الباهظة.

لم يستسلم ( جبران ) لمصاعب الحياة، فقد واجهها من خلال قلمه وريشته بشجاعة وعزم لا يلين، مستمداً من فنه غذاء لعقله وروحه، وتحولت رسومه إلى مصدر لرزقه في بداية حياته، كما اشتهر بعد ذلك بالشعر والنثر.

وجع ثم فرج…

عندما بلغ عامه الواحد والعشرين، بدأت أنفاس ( جبران ) في الغربة تضيق، ويزداد تعب جسده وتكبر دائرة الوجع ويتسع همه. لكن الفرج يأتي على يد صديقه المصور ( فريد ) الذي قدم له تذكرة سفر إلى شاطئ ( فايف آيلند ) حيث حمل الألوان وعدة الرسم، واستثمر الأيام التي قضاها على الشاطئ، فأنجز رسم عشرين لوحة، ليعود بعد ذلك بها إلى ( بوسطن ) من أجل عرضها، لكنه لم يجد من يقبل بعرض لوحاته إلا صديقه المصور ( فريد )، الذي دعاه لإقامة أول معرض للوحاته في عام 1905م بالأستوديو الذي يملكه. وأوعز إلى نقاد الصحف الإقليمية للكتابة عن معرضه، فمنهم من قال إن أسلوبه غني بخيال الفنان، ومنهم من هاجمه لرسمه الأجساد العارية.

اشتملت هذه المرحلة ( 1896 ـ 1905 ) من مسيرة جبران الرسام استخدامه قلم الرصاص أو الحبر، والتي استخدم بعضها لتزيين دواوين أصدقائه الشعرية.

الحب الأول

 وأمام لوحاته التقى بأول امرأة يقع في حبها ( ماري هاسكل )، التي ستلعب لاحقاً دوراً حاسماً في حياته، وهي مديرة إحدى المدارس الخاصة للبنات، ومن هواة الرسم، أبدت أمامه نقدها للوحاته فكشفت عن ثقافة رفيعة، ونشأ تفاهم عاطفي سريع بينه وبينها على الرغم من أنها تكبره بعشر سنوات.

ماري هاسكل المنجذبة إلى الوسط الفكري، والناشطة المتحمسة في الحركة النسوية، والداعمة للفنانين الشباب ” انبهرت بأعمال الفنان اللبناني الشاب المعروضة في ” هارتكورت ستوديو ” اقترحت عليه أن يعرض أعماله لأسبوعين في قاعات ” هاسكلز سكول “. فلم يتردد في القبول. ومذ ذاك راحت لقاءاتهما تتكرر باستمرار “. ( 3 )

 في عام 1908 ” وفي منزل ماري هاسكل، حدّد جبران رؤيته للفنّ: ” البعض يعتقد أن الفن هو محاكاة الطبيعة؛ ولكن الحال أن الطبيعة هي من الروعة بحيث تستحيل محاكاتها. ومهما بلغ الفنّ من النُّبل، فإنّه يعجز عن الإتيان ولو بمعجزة واحدة من معجزات الطبيعة. ثمّ ما الداعي إلى محاكاة الطبيعة ما دام جميع الذين يمتلكون الإحساس قادرين على الإحساس بها؟ الفن يقتصر على فهم الطبيعة ونقل فهمنا لها إلى من يجهلونها “. ( 4 )

الدراسة في باريس

بعد أن توطدت علاقة جبران بهاسكل ساعدته في إقامة معرضه الثاني بمدرستها، ثم قدمت له منحة مالية في عام 1909 م، لدراسة الفنون في أكاديمية ( جوليان )، وهي أكثر أكاديميات باريس الخاصة شهرة آنذاك، حيث قضى عامين، وهناك تدرب بإشراف الأستاذ ( لورانس ) الذي كان يشكو منه ( جبران )، كما سجّل نفسه كطالب مستمع في ” معهد الفنون الجميلة “. وفي أثناء الدراسة التقى برفيق الدراسة الفنان ( يوسف الحويك ) الوافد إلى روما ثمّ إلى باريس، لتعلم مبادئ فنّ الرسم والنحت.

بعد ذلك فضّل ( جبران ) أن يكون حراً في عمله على أن يكون مع ( لورانس )، فقرر مع صديقه ( يوسف الحويك ) التعويض عما يخسرانه من التدريب الأكاديمي بزيارات أسبوعية للمعارض والمتاحف.

” في مطلع شهر شباط 1909، اهتدى جبران أخيراً إلى أستاذ جديد: بيار مارسيل ـ بيرنو، أحد الرسّامين الزهديين، تلميذ غوستاف مورو، الذي يشرف على مجموعة من اثني عشر تلميذاً يمرّنهم على رسم العري والموديلات المتشحة. بعدها التحقن مع يوسف، بأكاديمية كولاروسّي التي تديرها امرأة إيطالية تُدعى كاترينا. كانت هذه الأكاديمية القائمة في شارع غراند ـ شوميار، والتي استقبلت كميل كلوديل وعدداً من الفنّانين الأجانب الذين يقصدون باريس لتحسين تقنياتهم، كانت متخصصة في رسوم العُري نقلاً عن موديلات. غير أنّ جبران فضّل العمل بمفرده وبحريّة تامة في محترفه. كان يعطي دروساً خاصّة في الرسم لخمسة تلاميذ، مرّتين في الأسبوع، لكي يجني بعض المال، وباشر بتنفيذ مشروع طموح وهو إنجاز سلسلة من البورتريهات لشخصيّات عصره البارزة، كانت باكورة تلك السلسلة التي سيطلق عليها اسم ” معبد الفنّ “، بورتريه النحّات الأميركي بول بارتليت، مبدع تمثال لافاييت القائم عند مدخل ” اللوفر “، ثم استكملها ببورتريهات لكل من أدمون روستان، وكلود دوبوزي وأوغست رودان وهنري روشفور، صاحب القلم النقديّ اللاذع الشهير، إضافة إلى لائحة طويلة لافتة لمشاهير ذلك الزمان! “. ( 5 )

وفي العاصمة الفرنسية باريس تعرّف ( جبران ) بالنحات الكبير ( أوغست رودان ) الذي قال عنه: ” يرسم حالماً، صوفياً، شبه إنجيلي، ويستخدم الألوان المائية الخفيفة، ويتفوق في مط الأجساد النسائية، والمظاهر الشجية والتكوينات المتشابهة مع الإغراق بالسميترية والإيقاع المتدفق والأجساد المجدولة، والتأنق الدائم “. وقد قاده ( رودان ) للتعرف على الرسام والشاعر الإنجليزي ( وليم بليك )، فوقع ( جبران ) تحت تأثيره.

” ربما لحسن حظ جبران انه التقى اثنين في تلك المرحلة رسخا لديه مبدأ الجمال المثالي السامي، أحدهما هو النحات اللبناني يوسف الحويك، وثانيهما هو المجد رودان، وكلاهما ـ في النحت ـ كانا يرتكزان على المعايير البنائية الرومانية العامة بالنسبة للتشريح والنسب، وكلاهما كانا يمجدان الحضور الإنساني الأكمل عبر الجسد، فكيف يمكن لجبران الرسام الباحث عن الكمال المثالي أن يبتعد عن هذا العالم الذي وجد فيه ضالته ؟ “. ( 6 )

بعد حصول ( جبران ) على شهادة من المعهد الذي درس وتفوق فيه على ( 400 ) طالب من زملائه الفنانين والدارسين.” أفلح جبران في الحصول على دعوة للمشاركة في ” صالون الربيع “، وهو أحد أبرز المعارض السنوية في باريس، فقد كان الفنان الشاب يعلم أن ساعة الرجوع إلى بوسطن أصبحت وشيكة، وهو يصبو، بأي ثمن، إلى المشاركة في أحد المعارض قبل رحيله عن مدينة النور. من بين الأعمال الثلاثة التي رشّحها للاشتراك في المعرض، حظي عمل واحد منها فقط بموافقة لجنة التحكيم المنبثقة عن ” الجمعية الوطنية للفنون الجميلة “: لوحة ” الخريف ” التي تصوّر روزينا نصف عارية، ضامّةً شعرها المذهب بيدها اليمنى. في اليوم التالي، زار أوغست رودان المعرض وصافح الفنان اللبناني الشاب “. ( 7 ) وانتخب على أثر مشاركته في صالون الربيع عضواً في جمعية المصورين.

في هذه المرحلة ( 1908 و 1910 )، أنجز جبران سلسلة من البورتريهات لعدد من شخصيات عصره، تذكر بتخطيطات ليوناردو دافنشي ( ومن بينها مثلا: رأس امرأة ) .

العودة إلى بوسطن

بعد ذلك يعود ( جبران ) إلى بوسطن عام 1911 م. ويستقر فيها، وعرض على ( ماري هاسكل ) الزواج فاعتذرت لفارق السن، فهاجر إلى نيويورك واستأجر شقة صغيرة تطل على الشارعين العاشر والواحد والخمسين في ضواحي ( قرية غرينتش )، وقد أطلق على شقته ” الصومعة “، حيث تفرغ للرسم ليواجه حاجاته المادية، وقد عاد عليه الرسم بمردود مادي لا بأس به، مكّنه من إقامة معرضين فيما بعد.

” بين عامي 1910 و 1914، بدأت مرحلة جديدة ازدادت فيها أعمال جبران وضوحاً وبراعة. رسم جبران بالزيت أو خطط بالفحم أعمالاً موسومة بالصور الرمزية المتكررة، زاخرة بأشكال السنتور، والشخصيات التي لا جنس لها… وفي بعض اللوحات الأخرى يبدو تأثير رامبرانت ملحوظاً: خلفية معتمة، وجوه وأيدٍ منوّرةٍ بسطوعٍ لافت… في شهر كانون الأول عام 1914، عقب معرضه في ” مونتروس غاليري “، يقول جبران: ” يتّجه كياني بكامله الآن إلى بداية جديدة. هذا المعرض هو خاتمة لفصل من فصول حياتي “. ( 8 )

 كانت الفترة الواقعة ما بين ” عامي 1914 و 1916 حافلة باللقاءات: كان جبران يتردد على صالونات المجتمع الراقي النيويوركي التي تديرها نساء من ذوات المكانة والنفوذ. وتعرف إلى روز اونيل، الفنانة الذائعة الصيت، التي رسم لها بورترية.. “. ( 9 )

وابتداء من 14 كانون الأول سنة 1914، بدا بعرض لوحاته في ” مونتروس غاليري ” أتبعه سنة 1917، بمعرضين آخرين: أحدهما في صالة عرض knoedler & Go  في نيويورك حيث عرض أربعين لوحة من مائياته إلى جانب لوحات يولنار وكاريير، وسيزانن وبيسارو “. ( 10 )

تعلم الرسم وتنمية الأسلوب

في محاولة أولية لقراءة العمل التشكيلي عند ( جبران ) لا بد من التوقف عند بعض المراحل المهمة في حياته، التي تعود إلى عام 1894 م، فقد بدأ بتعلم الأصول الأكاديمية للرسم، ويعترف ( جبران ) ” بأنه يتعلم الرسم بالمثابرة، وأن الفكرة التي انبثقت عن قناعة بأن المهارة تنمو بالمثابرة، هي التي جعلت الأفق أمامه يتسع بالمرونة “. ( 11 )

بعد ذلك يستمر ( جبران ) في الرسم لتنمية أسلوبه وتطويره؛ إذ كتب في إحدى يومياته عام 1911 م يقول: ” البراعة الفنية لا تتبدى إلا عبر الأسلوب، وأنا لا آلو جهداً في رعايته وصقله، أنا أرعاه كما ترعى الأم الحانية وليدها، وأحاول أن أجعل منه أداة، أو لغة أنفذ من خلالها إلى النفوس والعقول والمخيّلات بخطرات أجسدها بالرسم “. ( 12 ) ونلاحظ عند جبران في مجمل ملاحظاته اليومية ذلك الدفاع عن غياب الأسلوب، والتركيز على امتلاك البراعة حيث يقول:”… ربما قالوا: وأين البراعة الفنية؟ لكنهم يقولون هذا متى برع بالأسلوب” ؟

في أواخر عام 1919 ” أصدر جبران لدى منشورات كنوبف مجموعة من عشرين رسماً أسماها: ” عشرون رسما “. وبمثابة مقدمة، أرفق الناشر نسخة بنص للناقدة التشكيلية آليس رفاييل أكستاين، كانت قد نشرته في شهر آذار عام 1917 في مجلة ” الفنون السبعة “، وفيه تعتبر أن نتاج جبران يقع ” على العتبة بين الشرق والغرب، وبين الرمزية والمثالية.. فبالرغم من أنه رمزي فهو لم يتقيد بتعابير تقليدية كما كان عليه أن يفعل كأحد المبدعين على النمط الشرقي. وليس فنه نزاعا بين الفكرة والعاطفة، لأن الاثنتين قد ثبتتا بالتساوي. وفي هذا التزاوج بين اتجاهين متناقضين يسمو فن جبران على المنازعات المدرسية، ويجل عن التقيد بالتقاليد الكلاسيكية والرومانتيكية المحدودة “. ( 13 )  لقد لاقى أسلوب الفنان نجاحاً. فهو يرسم كما يكتب، ويكتب بصرياً تماماً كأنه يرسم.

خلال هذه المرحلة أي ما ” بين 1914 و 1920، جرب جبران تقنية الرسم المائي من دون تغييرات جوهرية في أعماله. إذ غدت الشخوص أكثر هوائية، أكثر شفافية. لكن الأشكال صارت أقل وضوحاً، ومعالم الهيئات غائمة غير محدّدة. والأشكال مخططة ومظللة بالقلم الرصاص. غير أن هذه التقنية التي تنطوي، في حدّ ذاتها، على عدد لا يحصى من ” مجازفات لونيّة ” بدت أقلّ مناسبة لأعمال جبران من الرسم الزيتي. وإلى هذه الحقبة تنتمي مجموعة من اللوحات الخاصّة بموضوعة الأمومة ـ وهي الموضوعة التي تطرّق إليها خلال المرحلتين السابقتين ولكن بأسلوب مختلف ـ وتذكّر بتآلف الأمّ والطفل لدى أوجين كاريير “. ( 14 )

” بين عامي 1920 و 1923، تبدو أعماله المائية مشغولة بأناة ودقة. تتصفّى الألوان وتتّضح، وتتميز رسومه المشغولة بقلم الرصاص بهندسة متناغمة.. وتشمل المرحلة الأخيرة والممتدة بين 1923 و 1931، عام وفاته، لوحات أشد قتامة، حيث تختفي الشخصيات لتحل محلها أشكال طبقية. نشعر بالقلق الذي يستبد بالفنان. أهو أملا مستجد؟ ذلك أن الكآبة تسود أعمال جبران التصويرية جميعها، حتى تلك التي لا يغيب عنها الرجاء تماماً: هامات مطرقة، شخصيات مسحوقة، أمهات محزونات… “. ( 15 )

البحث عن الأسلوب

لكن ( جبران ) بعد ذلك يبدأ بالبحث عن أسلوب لاتجاه في الرسم، فيأخذ من ( وليم بلايك ) حركة الخط والشكل ومن ( مايكل أنجلو ) قوة الخط والتشريح العام، كما تأثر بالرسامين ( بوفي شافان، وأوجين كاريير )، وهما من مشاهير رسامي أمريكا السابقين، وتأثر أيضاً بالنحات ( رودان ) وبـ ( دافنشي ).

ـ لكن لماذا يلجأ جبران للأخذ من ( وليم بلايك وأنجلو ) ؟

من وجهة نظرنا هناك تشابه بين ( بلايك ) و ( جبران )، فهما شاعران ومصوران، و( وليم بلايك ) كان مولعاً بالخط، والخطوط المحيطة التي توضح وتحدد الشكل، وهذه الخطوط مستمدة من الفن القوطي الذي تأثر فيه جبران. كما كان ( وليم بلايك ) يؤكد أن الأشكال والتكوينات المثالية لا نركبها من الطبيعة، بل من الخيال، حيث استخدم المشاهدة والملاحظة بوصفها دافعاً يحث على التخيّل، وهذا ما يؤكده جبران.

و ( بلايك ) أيضاً كان يرسم الرسوم التوضيحية لكتاباته، فهو يفهم النص والرسوم التوضيحية كوحدة لا تنفصم، نسجت معاً لا من الوجهة البصرية فقط، بل من الوجهة الرمزية أيضاً، وكل منهما يلقي ضوءاً على الآخر موضحاً له. وقد استمد جبران هذه الفكرة وطبقها على كتاباته، التي ضمنها رسوماته مثل:” النبي، وآلهة الأرض…”.

حيث ” لم يكن بلايك في نظر جبران مجرّد مُلهم كسواه ( أمثال جان دلفيل واوديلون رودون وبيار بيوفي دو شوفان الذين تزيّن لوحاتهم جدران مكتبة بوسطن العامّة التي كان مُعجباً ببساطتها وبنقائها، أو أمثال فرنان كنوبف وأوبري بيردسلي وغدوارد برن ـ جونز ورسّامي المرحلة ما قبل الرافائيلية …) بل كان أبا روحياً بحقّ. إن رمزية بلايك الانطباعية، ورفضه المحاكاة الحرفيّة للطبيعة، وسطوة فتنة الحلميّة تدعو الإنسان إلى الانفتاح على الامتلاء الإلهي الذي يحمله في أعماق ذاته، وروح التمرّد لديه… هذه كلّها ماثلة في فنّ جبران. أوجين كاريير، هو الآخر، كان له أيضاً تأثير بالغ في أعمال جبران الذي كان يعتبره ” الأقرب إلى قلبه “. إذ أغوته الأجواء الضبابيّة الغالبة على لوحات الفنّان الفرنسي، لم يتوان جبران عن استلهامها سواء في رسوم البورتريه أو في لوحاته الأخرى. ” مادة واحدة، نور واحد، هذا ما يتعلّمه الفنّان من النهر المتدفقِ باتجاه البحر، لا منتهى الأفق، الكون الذي لا يُحَدّ، إنسانية واحدة، وعقل واحد. كل العناصر تتضافر من أجل الحفاظ على توازن العالم. كل عناصر البشريّة مقدَّر لها أن تتلاقى بحكم قانون التناغم “. خاطرة كاريير هذه التي تحاول أن ” تسبر أغوار الشعور بالوحدة “. يتبنّاها جبران دون تردّد “. ( 16 )

كان ( جبران ) يؤمن أيضاً أن هدف الفن هو تمثيل الروح الداخلية للأشياء لذلك تأثر بـ ( أنجلو ) ورسم الأجساد العارية التي لم يكن المقصود بها إمتاع العين، بل لما تعبر به عن محتوى ديني وخلقي عظيم. فتأثير ( أنجلو ) في فن ( جبران )، هو في الدرجة الأولى موجود فيما استجد من نعومة وليونة الأجسام والوجوه.

كما كان جبران، مأخوذا بـ ( دافينتشي ) حيث قال عنه:

” … كان ليوناردو يُعمي أبصار العظماء، لأنه أعظمهم، وهو فذ بين الرجال، يضمن رسمه للقديسين ويعمل عملاً خارقاً لا يُضاهى، لقد رسم ليوناردو العقل.. رسم ما يدق على فهم الناس “.  في تلك الفترة بالذات، يعترف جبران أنه بات مأخوذاً ( بنيتشة ) الصلد الغامض، ولكنه يقول: ” إن نيتشه يستل الكلام من عقلي أيضاً، أنه يحكي كما يرسم ليوناردو دافينتشي “. ( 17 )

لوحاته ملحمة بشرية من الآلام والعذاب…

تمثل لوحات جبران ملحمة بشرية من الآلام والعذاب الإنساني… فجبران تناول الإنسان ورصد يومياته ومعاناته، ألمه وكآبته، حبه وفرحه، وذلك في مجموعة من الأعمال التعبيرية ذات النزعة الحزينة، التي عكس فكره من خلالها، فأظهرت أعلى أشكال الالتزام بالإنسان وارتباطه بالأرض، وأعطى أهمية لعناصره وخطوطه القوية والمنسجمة، فأظهر فيها جرأة وبراعة فنية، في توظيف العنصر التشكيلي لصالح التعبير الإنساني، فحطم الشكل التقليدي، وأعاد بناءه بعاطفة عفوية وبإحساس طفولي.

واستطاع بمهارة الفنان وسيطرته على الخامة، أن يثير فينا إحساسا بالغربة والضياع، وضآلة الإنسان في هذا الكون الغامض.

وأولى ( جبران ) عناية خاصة بالجسد، فكان حرصه واضحا بتأكيده للنسب والمقاييس إلى جانب الناحية الجمالية في الجسد، فاتسم بالأناقة والرشاقة والجمال المشحون بالروح والحركة المعبرة عن توتر رومانتيكي، نابع من حس عاطفي رقيق.

ونستطيع أن نشاهد في لوحاته أهمية عامل الحركة الجسدية للمصور عند عملية التشكيل، فهذه الحركة تتيح الانطلاق إلى وسط لا ينفصل فيه التفكير عن الفعل، وعن النشاط الدائب لأعضاء الجسم.

     إلى جانب ولعه برسم الأجساد العارية، كما في المراحل الثلاث والعشق. وقد كتب جبران عن لوحاته قائلاً:

” إن الحياة عارية والجسم العاري هو أقرب وأجمل رمزا للحياة، فإذا ما صورت جبلاً في شكل كومة من الأجساد العارية أو شلالاً في هضبة سلسلة من الأجساد الهاوية من فوق إلى تحت فلأني أرى الجبل كومة من أكوام الحياة والشلال مجرى من مجاري الحياة “. ( 18 )

كما قال: ” … قالوا إنني أرسم الجسد العاري. وهو أحق وأنبل رموز الحياة، إنني أرى في الجبال كومة من الأشياء الحية. وأرى الشلالات تيارات تتدفق من الحياة للإنسان “.

إننا نستطيع أن نلمس في لوحاته أهمية عامل الحركة الجسدية للمصور عند عملية التشكيل، فهذه الحركة تتيح الانطلاق إلى وسط لا ينفصل فيه التفكير عن الفعل، عن النشاط الدائب لأعضاء الجسم.

 ونجح ( جبران ) في رسم ” البورتريهات ” لعدد كبير من أبرز أساتذة الفن، نذكر منهم: ” سارة برنار، الفنان والشاعر الأمريكي ألبرت رايدر، أمين الريحاني، الجنرال غاريبالدي، أوجست جون، ابن خلدون، أبو نواس، ومجنون ليلى، كلوديبوسي، أدمون روستان، يونغ، طاغور، جورج روسل، سقراط، ابن سينا، ومي زيادة وميشلين وغيرهم…”.

حيث نقل ( جبران ) من خلال هذه البورتريهات الفكرة والهدف والمعنى والمغزى والأحاسيس، في تكوين كامل ممكن فهمه وإدراكه من خلال منهجه الكلاسيكي. ومن هنا كان حرصه على وضوح القسمات وتناسب المقاييس ووضوح الخطوط، وهذا إلى جانب رشاقة في اللمسة وأمانة في الواقع.

والناظر إلى تلك الوجوه، وبخاصة وجوه النساء اللواتي أحبهن ” جبران ” سوف يلاحظ الحياة التي تجيش فيها، والمعاني الباطنة التي تنعكس عليها.

ويتجلى إبداع ” جبران ” في اللوحات التي اتخذها وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه وأحلامه. ومن أمثلة تلك اللوحات ما نشاهده منشوراً على صفحات ” المواكب ” من صور تمثل العدل والخيال والدين والحرية، ومن أمثلتها في كتاب ” النبي ” اليد المبدعة والألم.

كما أن لوحات ( جبران ) التي نفذها بالأبيض والأسود، تعتبر الأكثر تفجراً لأنها نابعة من فنان يتأجج داخله كجوف بركان، مهما كان الهدوء البادي على مظهره الوديع، فهي لوحات انفعال صادق.

وفي المرحلة الأخيرة من حياته الفنية كان ” جبران ” يميل إلى الاتجاه الرمزي. كان لا يقف عند الواقعي أو المعقول، وإنما كان يتطلع إلى ورائهما.

فجبران الفنان لا يرى الشمس كرة من نار، وإنما يراها جوقة تهتف بأناشيد المحبة، وتهزج تمجيدا لله.

السمات المميزة لفن جبران

السمة المميزة لهذا الفنان أن موضوعاته التي تدور حول معجباته وصديقاته والشخصيات المعروفة، والأجساد العارية، والرسوم التخطيطية التي تضمنها كتابه ( النبي ) ومخطوطه ( آلهة الأرض ) ووجود العظماء الذين أعجب بهم، أو في الأعمال التي تناول فيها ( الدين، العدل، الحرية )، أو الرسوم التخطيطية للمشاهد الريفية والبحرية قد رسمت وبحثت بعناية، وفيها الخط يتخذ قيمة وأهمية تعبيرية في أناقة فذة نادرة.

لكن كيف نتذوق لوحات جبران؟

هناك على حد قول موللي بارتيليت، ثلاثة طرائق على الأقل، وهي:

أولا: يمكن أن نتقصى مقومات الصنعة في كل لوحة مثل نوعية الألوان وضربات الفرشاة، ومعالجة السطوح، وتزاوج النور والظلمة.

ثانياً: البحث عما تهدف إليه اللوحة، وعلى المتفرج هنا أن يستخدم خياله.

ثالثاً: أن تحس باللوحة وأن تسلم نفسك للتجربة بكل جسارتها وحريتها.. والطريقة الأخيرة أكثر شمولاً واستيعاباً.

الحياة ينبوع الألم

عبر ( جبران ) كثيراً عن انقسامه العاطفي داخل نفسه بين أمريكا ولبنان، فقال:

” إنني أعيش ونصفي هنا ونصفي الآخر هناك في لبنان الأرز، ونشيد الأناشيد، وقد ولدت على كتف الوادي المقدس في بلدة صغيرة تحمل اسم بشرى “.

كما قال:

” إن روح قريتي بشرى لم تفارقني أبداً. ولقد قالوا إن لوحاتي تنضح بالألم. الألم هو الحقيقة الأعظم من المتعة. وهو المعلم، والحياة في النهاية ينبوع من الألم “.

أخيرا كان ( جبران ) وهجاً متألقاً استطاع أن يجمع بين الفكر والعاطفة، فكان ( جبران ) الحاضر في آفاق الرسم، ناعم الأسلوب، ساحر الموسيقى، رائع الألوان… وكان أيضاً لا يعرف السكون ولا الهدوء، يكتب ويرسم ويدون بالقلم، ويصوغ طريقته الخاصة ” الأسلوب الجبراني ” التي كانت فتحاً جديداً في الأدب العربي، وبقي يعمل إلى أن استوطن الداء في كبده وقد أبى التوقف عن العمل، إلى أن استطاع أن يصرعه في العاشر من نيسان سنة 1931 م عن ثمانية وأربعين عاماً في أمريكا.

هذه هي رحلة ( جبران ) التشكيلية، فقد غادر الحياة غريبا عن وطنه وهو القائل:” أنا غريب عن هذا الألم وسأبقى غريبا حتى تخطفني المنايا تحملني إلى وطني “.

وقد قامت شقيقته ( مريانه ) بنقل جثمان أخيها إلى مسقط رأسه، قرية ( بشرى ) التي ضمت إلى جانب رفاته متحفاً احتوى على ما يزيد عن ( 400 ) لوحة من لوحاته؛ الحلم الأكبر لجبران.

  • المقالة من كتاب ” ثريات اللون سماء معتمة ” للناقد غازي انعيم / دراسات في الفن التشكيلي العربي – دائرة الثقافة والإعلام – الشارقة 2016 .

ـ السيرة الذاتي للفنان جبران خليل جبران

ـ ولد جبران في 6 / 1 / 1883، في قرية ” بشرى ” إحدى قرى جبل لبنان.

ـ انتقلت الأسرة إلى بوسطن عام 1895 وعمر جبران اثنا عشر عاماً، وكانت الحياة هناك لا تقل قسوة وحرماناً عنها في لبنان.

ـ لم يكن لجبران مورد رزق فعاش على ما كانت تكسبه أخته ( مريانا ) من بعض أعمال الإبرة التي كانت تجيدها.

ـ في عام 1905 أقام في بوسطن معرضاً لرسومه.. وفي المعرض تعرف على ( ماري هاسكل ) مديرة إحدى المدارس الأمريكية التي قدمت له منحة مالية مكنته من الذهاب إلى باريس ليواصل دراسته للفن في أكاديمية جوليان.

ـ عاد ” جبران ” إلى بوسطن في اواخر عام 1910 بعد حصوله على شهادة فنية من المعهد الذي درس به.. وفي نفس العام انتقل إلى نيويورك ليقيم فيها بصفة دائمة.

ـ انصرف ” جبران ” في الفترة الواقعة بين عامي 1912 و 1918 إلى الرسم ليستطيع ان يواجه حاجاته المادية، لذلك لم ينتج في هذه الفترة إلا مجموعة مقالات جمعها فيما بعد في كتاب ( العواصف ).

ـ عاد عليه الرسم بثروة لا بأس بها، مما مكنه من إقامة معرضين في نيويورك أحدهما عام 1914 والثاني عام 1917.

ـ عندما اطمأن ” جبران ” إلى وضعه المادي انصرف إلى الكتابة في الأدب.. وكانت كتاباته هذه المرة بالانجليزية.. فنشر ( المجنون ) سنة 1918 و ( السابق ) عام 1920، و ( النبي ) الذي أحدث ضجة في الأوساط الأمريكية عند صدوره عام 1920.

ـ في عام 1920 أنشأ ” الرابطة القلمية ” مع مجموعة من الأدباء المهاجرين، وانتخب رئيساً لها.

ـ بدأت بوادر مرض القلب تنتابه عام 1921، ولكنه لم يكن يكف عن العمل تلبية لنصائح الأطباء، ولهذا اشتدت عليه وطأة المرض عام 1923، وأصبح كثير الشكوى من خفقان القلب ورعشة اليدين.

ـ في عام 1924 ترك نيويورك وعاد إلى بوسطن مريضا بتسمم المعدة.

ـ في عام 1928 أصيب بمرض النقرس العصبي.

ـ في 10 نيسان / إبريل 1931 لم يستطع الجسد المنهوك أن يواصل مقاومته للمرض فاستسلم للموت.. وكان ذلك في الساعة الحادية عشرة من صباح الجمعة، بعد ساعات من الغيبوبة الطويلة، وكان ذلك في مستشفى القديس ( فانسانت ) بنيويورك.

ـ نقل جثمان جبران إلى لبنان في 21 / 8 / 1931، واختير مسقط رأسه بشرى ليكون مثواه الأخير.

ـ مؤلفاته باللغة العربية هي: الموسيقى ـ عرائس المروج ـ الأرواح المتحررة ـ الجنحة المتكسرة ـ دمعة وابتسامة ـ المواكب ـ العواصف .

ـ أما باللغة الانجليزية فهي: المجنون ـ السابق ـ النبي ـ رمل وزبد ـ يسوع ابن الإنسان ـ آلهة الأرض ـ التائه ـ حديقة النبي.

الهوامش:

1 ـ مجلة الحياة التشكيلية: مجلة فصلية تصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سورية، العدد 12، ص 57، 1983.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ اسكندر نجار، جبران:منشورات شرق الكتاب، ط 1، 2012، ص75.

4 ـ المصدر السابق: ص127.

5 ـ المصدر السابق: ص93.

6 ـ مجلة الكفاح العربي: العدد 147 ، 6 / 4 / 1981. ص 76 .

7 ـ مصدر سبق ذكره: اسكندر نجار، ص93.

8 ـ المصدر السابق: ص135.

9 ـ المصدر السابق: ص121.

10 ـ المصدر السابق: ص117.

11 ـ مصدر سبق ذكره: مجلة الكفاح العربي: ص 76.

12 ـ المصدر السابق: ص 77.

13 ـ مجلة الكويت: العدد ( 4 )، 1988، ص 98.

14 ـ مصدر سبق ذكره: اسكندر نجار، ص135.

15 ـ المصدر السابق: ص135.

16 ـ المصدر السابق: ص131.

17 ـ مجلة الكفاح العربي: العدد ( 147 ) 6 / 4 / 1981، ص 77.

18 ـ مجلة الكويت: العدد ( 4 )1988، ص 96 و 97.

ـ المراجع:

1 ـ مجلة الكفاح العربي: العدد ( 147 )، 6 / 4 / 1981.

2 ـ مجلة الكويت: العدد ( 4 )، 1988.

 

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *