قراءة جمالية في سردية «الحورية» للشاعر جميل أبو صبيح
*سما الابراهيم (الجزائر)
سردية .. الحورية إلى التي قالت يوما : أحب كل ما تكتب . من صدفة في رياح كونية تخرج حورية البحر على راحتها لؤلؤة مشتعلة وراحتها الأخرى طيور وسمك . رجل صالح يطلع من دخان كوني على راحته كوكب دري وراحته الأخرى أرغفة وسنونو تتبعه أشجار التين . الرجل الصالح يحمل مصباحه يعبر في الريح الكونية غابات دخان أبيض أكوام حطام بنايات ألوان قاتمة . الحورية ذات الضوء السحري تخرج من صدفة تتبعه تدخل في الريح الكونية
…………………..
لغة غاية في الدقة بليغة الرسالة اذ قدمة بأقصر الطرق عالية التقنية التصورية لأنها بلغت المراد بايجاز.قصيدة مختصرة ومسرحية قصيرة تبدا بالحورية وتنتهي بها تصوير راقص محاور للقصيدة اراها جليه الحورية الريح الكونية والضوء ثلاث مفاتيح اساسية تدور حولها السردية ولا تتجاوزها اختصرت فيها الحياة كلها الحب الالم والحياة … الرجل الصالح يستمد الحياة من الحب ليبعد عنه الألم بين هذه المحاور تهب ريح كونية قوية تحرق وتحطم لكنها أبدا لا تقترب من الحب الذي يبقى حيا ومحفوظا بين يدي الحورية..
للوهلة الاولى وانت تقرأ القصيدة يتراءى لك اسلوبها بسيطا وكلماتها واضحة ويخيّل اليك انها قصيدة غير مشفرة فتستغرب ليست من عادات شاعرنا ان يكتب بهذا الوضوح!… ويجعل كلماته قيد المتاح والممكن!… يغريك ذكاؤك او تغريك فكرة انك لن تتعب ذهنك ولن تغلق امامك افكارها … فتلج القصيدة بكل ثقة واندفاع… لكن ماهي الا لحظات وما ان تضع قدمك على عتبة الفصيدة حتى تظهر الحقيقة امام ناظريك ، وتدرك بأنه قد أُحكِم اغلاقها كسابقاتها وقد أُغلقت أمامك وبأنّ لا متاح لشاعرنا… فتعاود جمع قواك وقراءتها مرة أخرى…
أغرتني القصيدة بكل تحدياتها .. قررت دخول مشاهدها شاءت حروفها أم أبت …جهزّت مجلسي اغلفت ستائري وضعت موسيقى هادئة يرافقها صوت البحر حتى استحضر المشاهد امامي …أخذتني موسيقى البحر التي تصل مسامعي الي تلك المشاهد المختزلة بين السطور الساكنة عمق الخيال الى شاطئ الحورية … ومن ثم اطلقت العنان لخيالاتي … كنت أكتب على حاسوبي وكأنني عازفة بيانو تراقص الموج وترافق الكلمات و المشاهد … تأخذني تقلباتها نحو مفاتيحها… تبعت الدخان ودخلت الرياح الكونية معكم وكتبت…
(إلى التي قالت يوما : أحب كل ما تكتب )… محظوظة هي لو تعلم كم تكتب لأجلها وان لم تكن تعلم فمحظوظة هي كذلك لأنها تلقت جوابها حصريا وغير متاح لغيرها .. البحر كله لها ، ملكة من الفيروز .. تخرج (من صدفة) لترى شهريارها متربعا على عرش حروفه زاهدا في شعرها مقبلا على نثرها …
( في رياح كونية) عادة الريح ان تختص بأرض محددة تسوق اليها سحب غيث اولقاحا وفي كلتا الحالتين هي تسوق اليها الحياة فتكون نعمة لها … لكن الرياح الكونية هذه المرة تسري في الكون بأجمعه…(على راحتها لؤلؤة مشتعلة ) هي الحياة يراها شاعرنا مجتمعة في يديها وعلى راحتيها.. اللؤلؤة حياة بكل تفاصيلها المتّقدة من اعماقها الدافئة الباردة ، قطعة من الكريستال اذا قابلها النور عكسته على من حولها ليعمّ الأفق نور آخر، ( راحتها الأخرى طيور وسمك )… الطيور رمزية للسمااء والارتفاع والتحرر من العبودية الى الارض… أما السمك فرمزية للبحر والامتداد والتطهر … على راحتها الأخرى جمعت التحرر والارتفاع بالتطهر والامتداد ..جمعت السماء بالبحر في ثنائية طبيعة؛ السمااء بارتفاعها مقرونة بالاستغناء والتحرر من العبودية والبحر بامتداده مقرونا بالاحتواء والتطهر… حوريتنا في محرابها الصدفي تهب الحب لرحّالة بائس انكست الريح الكونية رايته فبات هائما على وجهه يستدل بشعلة الحب من يديها على الطريق.. الحورية هنا رمزية الى الحب الباعث للحياة في الرجل عموما.. شاعرنا لا يرى ”الأنثى شرا لابد منه“ بل ”نصفا له كل الخير فيه ” يراها بحرا وسماء طهرا وانعتاق…
(رجل صالح يطلع من دخان كوني) شاعرنا يبعث روحه الصافيه … من دخان كونه الذي يسكن بين أضلعه، حياة أخرى تعج بالدخان والفوضى التي تغذيها الحياة المعذبة التي تهبها لنا الحياة بكل سخاء طبعا ؛ من ارهاق وتعب وألم وفقر …الخ وبين الحاجة النفسية الجائعه التي يأن لها داخله من جهة اخرى، ذاك الفراغ العاطفي الذي ترك الميدان فارغا للريح والدخان ،تلك الروح الطاهرة تبحث عن مستقر لها وجدت قرب حوريته سمااء لأرضه العطشى علها تمطر فيهدأ روعه ووتنعم روحه… (على راحته كوكب دري)مجموعه احلامه وآماله وتطلعاته جرم سماااوي مضيء متلألأ… هي الحياة التي يتمسك بها الشاعر في رحلته الكونية وهو يجتاز الدخان الذي بداخله ويلف المكان في آن، ليخرج الى ميلاده الابدي … الي شاطئه.. و(في راحته الاخرى أرغفة وسنونو) الأرغفة كل ما يحتاجه الانسان ليعيش ويبقى على قيد الحياة … حين يأمن الانسان على رزقه فلا خوف يسكنه ولا حاجة للناس ولا ارتباط .. طائر السنونو الذي في راحته ايضا هو دليل عن التحليق عاليا والتخلص من العبودية الى الارض… شاعرنا يجسد احلام الناس جميعها في (خبز وكرامة)، وفي رحلة البحث عنها تقتلعنا الرياح، فالسنونو يأخذه عاليا بعيدا عن هذه الأرض التي لم تعد تتسع لروحه التي مُلأت دخان ..رحلة كونية دخلها شاعرنا باحثا عن حياة أخرى حياة يطلبها كإنسان مادي وأخرى تطلبها روحه وهذا ما جسده الرغيف والسنونو فالانسان جسد وروح ولكل منهما طلبات قد تختلف في الظاهر لكنها أبدا لا تنفصل…(تتبعها اشجار التين) من دلالات اشجار التين بناء الجسروالتقارب بين المتفرقات جميعا كوجهات النظر والأديان الى غير ذلك، اذن رجلنا الصالح لا يبحث في رحلته الكونية عن أمنه وكرامته فقط انما ينشد السلام والتقارب والاتناغم والانسجام للبشرية بكاملها.
(الرجل الصالح يحمل مصباحه) في يده ليضيئ له الطريق؛ فطريقه مظلما تستحيل الرؤيا فيه ولا يدرك ملامحه ولا اتجاهاته ولا يستدل على موضع خطاه ، لابد من مصباح يضيء بعض ما أُعتم امامه، هذه الطريق الموحشة هي عالمنا الحالك السواد هي الارض الملطخة بالظلم هي الصرخات والأنّات والحاجات المدفونة والآلام المنبعثة من تحت الركام ومن فوق الركام.. هي الارض الحبلى بالسواد…(يعبر في الريح الكونية) الريح لا تفارق طريقه ،ان اراد ان يستمر ويصل فعليه ان يعبر من خلالها الى مبتغاه الذي غيبه عن ناظريه السواد…(غابات دخان ابيض ) الدخان ابيض اذن فهو لا ينبعث من نار حقيقة والا كان اسودا كأرضنا التي تحترق … هو منبعث من تلك الأنفس المتألمة الآملة بالسلام .. دخان في رحلة كونية باحث عن الطمأنينة، الدخان الابيض هو تلك الارواح التي تركت غاباتها وهاجرت في رحلة موازية داخل الريح …( أكوام حطام بنايات ) البنايات محطمة تصوير لحجم الخراب الذي اصاب الارض والحياة التي انعدمت فيها الى ذاك الوضع اللاانساني الذي يعيشه الانسان..( ألوان قاتمة ) قاربت الألوان على الانعدام؛ الألوان رمزية للحياة وعندما ينعدم اللون يظهر السواد، فمن تعريفات الأسود انه حالة من انعدام اللون ربما الحياة ليست سوداء بعد فقد صور الشاعر بها بعض من الألوان وان كانت قاتمة.. وفي هذا دليل على وجود بعض من الحياة لكنها حياة متعبة ومنهكة… لازال هناك من يقاوم .
( الحورية )… شاعرنا يعود الى رمزيته المركزية وعتبته الأولى الى حوريته، الى منفاه والى وطنه.. يلتفت الى الخصب والحياة المتجسد في أنثاه التي يحتاجها ليستجمع قواه ويواصل رحلته… ليستمد من انوثتها ( ذات الضوء السحري ) ويأخذ من لؤلؤتها المشتعلة على راحتها حياة، فكوكبه لم يعد دريٌّ ،علّه يتلألأ على راحتها … يلتفت الى حوريته يطلب المدد، يطلب الحب مجددا اقرار منه أنّ الحب أولا وأخير منقذ البشرية …( تخرج من صدفة) الآن الحورية تتبعه تدخل معه في الريح الكونية لتسبح معه في رحلة لا مستقر لها… حيث انعدامات اللون تملأ المكان… هنا نهاية رحلة الشاعر من حوريته واليها.
هذا النص لا يختلف عن السرديات التي سبقته من حيث اللغة الشعرية واتكائه على البصريات المشهدية لكنها مشاهد أقل هدوءا … لم يتعبنا الشاعر بالمشاهد المتلاحقة لقلة عددها ولم تكن لها اهتزازات تذكر انما كانت سابحة في فضاء هادئ بصحبة الريح الكونية، الشاعر يمتطي الريح كبساط…فجاءت المشاهد منفصلة مستقلة سابحة في العدم . .. لكنها مليئة بالأسرار لكل باحث فيها نصيب يختلف … كل مشهد منها يبدو بسيطا سهلا لكنه خصب جدا بالتأويل، قصيدة حبلى بالتأويلات.
لا تتعدى القصيدة المشاهد الأربعه ،مشهدين مشهدين للحورية ومشهدين للرجل الصالح…كانت الحورية عتبة القصيدة وختامها وظل الرجل الصالح بين العتبة والختام سابحا في مشهدين … تقوم القصيدة على مبدأ الزوجية وهو المبدأ العام للطبيعة الذي خلق الله عليه الكون… لكن الجميل ان شاعرنا جعل الأنثى مفتاح لسرديته وجعلها الختام…وبين مفتاحها وختامها ترك الرجل سابحا بحضن النثى في مشهدين .. رسالة واضحة وجليه لمكانة المرأة الكبيرة والمميزة في شاعرية جميل ابو صبيح …لم يستفتح الشاعر قصيدته باهداءه عبثا:( الي التي قالت احب كل ما تكتبه) فهو من أول القصيدة يعطينا المفتاح وان كان قد وجه نظرنا للسردية غير أن الحقيقة عكس ذاك ، هذه المرأة تعيش فيه يكتب لها دائما ..لا يكتب الشاعر للوجع وانما يكتب للحب يكتب ”“ لمجهولة هو بها أعلم““.
حقيقة مايفعله الشاعر جميل ابو صبيح بنا يستحق عقابا حقيقيا … ارهق كاهلنا بمحاولة ايجاد المفاتيح واستنطاق جدارياته.. لغته البريئة المثقلة بالمكر والجمال … المعتّقة بالاحساس… متقلبة المزاج أيضا … تنساب كنهر جارف احيانا وتسكن كجدول صغير أحيانا اخرى … تجعلك في حيرة من أمرك وأمرها … أيقصد الشاعر فعلا جملة المشاهد التي صورها على هذه الشاكلة؟ام جرمٌ من نسج مخيلتي؟!… مبعث الحس والخيال في قصائده عال جدا والهام لمن لا الهام له… طريقة تحريكه للمشاهد: الابتعاد والاقتراب مرة الاخرى ،الانتقال والعودة، الرمزيات المتناثرة ،المفارقات الكثيرة… مشاهد الحب والألم الفراق واللقاء… الانسياب والركود… الشباب والعجز… الالوان والظلمة … الارض والسماء … التجسيد الرمزي الفريد في قصائده وكأنها لوحات فنية يجب تعليقها على الحائط لنعيد قراءتها كلما مررت بجانبها علّك تجد حلا لها…فأنت لا تستطيع قراءتها ولا تطيق تركها … يستحق فعلا شاعرنا عقابا يعلق على صدره وساما للتميز والابداع…اذ لازالت قصيدته النثرية فريدة ووحيدة سابحة في فوضة الابداع..
===
سما الابراهيم – الجزائر –
مرتبط
إقرأ أيضاً
قراءة في رواية "رنيم"*قاضي ناصر( ثقافات )جرت عنونة الرواية تحت مسمى "رنيم" للكاتبة بيران، وهو رنيم كل شخصية…
قراءة في حب إغريقي*لطفية الدليمي" بما أنه ليست هناك نقطة نهاية لشيء أبدأه ،سأظل وفيا لك إلى الأبد…
-