رسائل العشاق .. من جبران خليل جبران إلى إليزابيث تايلور



د. لنا عبدالرحمن *

حين كتبت اليزابيث تايلور إلى حبيبها الأول رسالة مؤرَّخة بتاريخ 28 مارس/آذار من العام 1949 قائلة: “أريد لقلبينا أن يلتحما، وأن ينتميا إلى بعضهما البعض إلى الأبد”؛ لم تخمن في يوم من الأيام أن تلك الرسالة ستُباع في مزاد علني. إذ لم يمضِ على موتها سوى أشهر؛ حتى أعلنت صالة للمزادات في الولايات المتحدة أنها ستطرح رسالة من الرسائل الغرامية التي خطَّتها أسطورة هوليوود “الممثلة إليزابيث تايلور”؛ للبيع في مزاد علني. وكان من المتوقع أن تُباع الرسائل بمبلغ يتراوح ما بين 25 و30 ألف دولار أميركي.

***

في حكاية قديمة عن معجزات القديس “فالانتين”، أن شابا صغيرا فقيرا، بعد هجران حبيبته التي رحلت مع أهلها إلى مكان بعيد، ظل كل يوم يبكي منتحبا عند تمثال للقديس فالانتين، ويقول: “أيها القديس، يا شفيع المحبين، أعد لي حبيبتي”، وظل يفعل هذا كل يوم على مدار شهرين، وما من مجيب. وفي النهاية – حين تعب القديس منه – نطق التمثال ليقول له: “يا بني أرجوك امض من هنا، لا تكلمني أنا.. اذهب واكتب لها رسالة”.

إذن، يعترف قديس العشاق بأهمية الرسائل، وأثرها في إعادة المحبين البعاد، وكم من رسالة عبر التاريخ غيرت مصائر الأشخاص بعد أن وصلت لصاحبها في الوقت المناسب، أو تاهت بالصدفة أو بفعل فاعل.

في تاريخ الأدب والسينما عشرات الأعمال التي كان بطلها رسالة ما، تسبب حرقها أو إخفائها في جيب المعطف بألم عظيم على مدار الحدث. أما أغنية “عبد الحليم حافظ” التي غناها لحبيبة مجهولة؛ فقد حملت اسم “جواب”، وجاءت كل الأغنية على شكل رسالة تبدو كلماتها الآن في غاية السذاجة؛ لأنها مكرورة في كل رسائل الحب: “حبيبي الغالي.. من بعد الأشواق.. بهديك كل سلامي.. وحنيني وغرامي”. لكن هذه النظرة إلى “جواب” عبدالحليم، لم تكن كذلك في زمن السبعينيات حين كان للرسائل الورقية قيمتها؛ فمثل هذه الأغنية الآن لا يمكن أن تنتمي لعصر الإيميل والشات؛ لأنها لن تجد مكانا لها أبدا. 


• الحب في زمن الكوليرا

يتمكن بطل رواية “الحب في زمن الكوليرا” من استعادة حبيبته، وهي في السبعين من عمرها؛ عبر مواظبته على كتابة الرسائل لها. عشق “فلورنتينو أريثا” فتاة تدعى “فيرمينا إديثا”، وهي على مقاعد الدراسة وتبادلا الحب عبر الرسائل، لكن “فيرمينا” تُطرد من المدرسة الدينية؛ لأنها ضُبطت وهي تكتب رسالة حب؛ ويرفض والدها التاجر هذا الحب؛ لأنه يأمل لابنته بعريس من طبقة اجتماعية أعلى؛ فيسافر بها بعيدا عن المنطقة، ويغيب فترة؛ لكن ابنته ظلت على اتصال مع حبيبها طيلة الوقت بوساطة التليغراف، وتتابع الأحداث حتى تتزوج “فرمينا” من طبيب شاب، متناسية حكاية حبها الأولى. لكن الخط العام للرواية يروي إصرار “فلورنتينو” على الوصول لهدفه في الزواج من “فرمينا”، وإخلاصه لهذا الهدف، وما إن يموت زوجها وبعد أن أصبحت عجوزا، حتى يسارع لتقديم عهد الحب لـ “فرمينا” في نفس يوم وفاة زوجها؛ مما يجعلها تطرده بكيل من الشتائم، لكنه لا يفقد الأمل ويستمر في محاولة كسب حبها بطريقة عقلية هذه المرأة؛ حيث يقرر أن يكتب لها الرسائل، ويتمكن من استعادتها – بعد خمسين عاما – عبر الكلمات التي تؤدي دور السحر.

***

تحضر الرسائل بقوة في فيلم “أولاد القرن”، الذي يقدم قصة حياة الكاتبين الفرنسيين العاشقين “ألفريد دي موسيه” و”جورج صاند”؛ كان من المعروف عن “جورج صاند” شخصيتها القوية، وكانت تكبر “ألفريد دي موسيه” بعشرة أعوام حين ارتبطت معه بقصة حب صاخبة، ولم تكن قد حصلت على الطلاق بعد.

أما “دي موسيه” – والذي ينحدر من طبقة مخملية، رغم ميله لحياة التشرد والصعلكة – فقد تنكرت عائلته لعلاقته بصاند. وخلال فترة مرضه تستمر “صاند” بكتابة رسائل كثيرة له تقوم والدته بإخفاء هذه الرسائل عنه؛ بحيث لا يعرف بها مطلقا، ويظن أن حبيبته لم تسأل عنه. نشاهد في الفيلم “صاند” وهي تكتب لموسيه بالريشة المغموسة بالحبر الأسود لتقول له: “منذ مغادرتك فينيسيا، فارقتني السعادة، أنا ساهمة طوال الوقت، أبتسم رغما عني. لكن كل ما أطلبه منك هو الكتابة، أكتب لي كلما استطعت”.

***

ينتهي فيلم “رد قلبي” – المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته للكاتب المصري يوسف السباعي – بقيام ثورة يوليو/تموز عام 1952، لكن يسبق هذا الحدث قصة الحب الدرامية الأشهر في السينما العربية، بين “علي” ابن الجنايني والأميرة “إنجي”؛ واحتراق رسالة كتبها “علي” إلى “إنجي” تؤدي إلى توقف قصة الحب بينهما، ويكون احتراق الرسالة كما لو أنه يحمل رمزا لحريق القاهرة الذي سيقع فيما بعد.



ما معنى هذا الذي اكتبه؟


ولأن الرسائل الإلكترونية ترادف البديل العصري للرسائل المتبادلة بين العشاق، صار حضورها في الأدب والسينما أمرا عاديا. رواية “عن الجمال” للكاتبة الإنجليزية “زادي سميث” تبدأ برسالة إلكترونية مع إضافة عنوان البريد الإلكتروني في الصفحة الأولى من الرواية. وفي فيلم: (You’ve Got Mail) تسبب الرسائل المتبادلة، إلى تحول حالة الكراهية بين “ميج ريان” و”توم هانكس”، إلى حالة حب ووله.

• رسائل المشاهير

تنطبق عبارة “من الحب ما قتل” على علاقة الفيلسوف الفرنسي التوسير بزوجته “هيلين”، تلك العلاقة التي انتهت بجريمة قتل، حين أقدم التوسير على جريمة قتل زوجته الحبيبة. لكن هذه العلاقة الغامضة والمربكة في الوقت ذاته، تخللتها لحظات حب وغرام قوي بينهما، كتب لها ذات مرة قائلا: “هيلين.. تتفهمين جيداً لماذا أكتب إليك غالباً…أظن أنك عايشت ظروفاً ما وأحسست بذلك التراكم لبقايا الأشياء، هوامش الأشياء والأحاسيس والجروح والكسور التي لا تخص شخصاً بعينه، ولكن يتطلع إليها بنفس الدقة وبنفس الفاعلية باللقاء مع شخص ما وبمغامرة عميقة. ما أريد أن أقوله إن الأمر يبدو أعمق من أن تحسي به، ولست أنت السبب بذلك في الحقيقة، ولكن هذا لا يمنعني من القول إني مسحور بك. والذي أفهمه أنه بمقدورنا التمرد على الذات وضد الحياة نفسها.. أريد أن أغمرك يا حبيبتي الرقيقة من كل قلبي وبكل قواي اللينة”.

الاهتمام برسائل المشاهير لا يتوقف عند زمن معين، وإن كان في العصر الحالي يتم تحويل تلك الرسائل إلى مادة مربحة للبيع في المزاد، لكن في العصور الماضية تكتسب الرسالة أهميتها من مكانة الشخص الذي أرسلها. ومن المعروف مثلا أن رسائل حب القائد العسكري الفرنسي “نابليون بونابرت” التي كتبها لزوجته “جوزفين” حظيت باهتمام كبير ليس من الشعب الفرنسي فقط، بل من كل شعوب العالم، خاصة حين نقرأ “نابليون” القائد العسكري الجبار، يقول لمحبوبته: “لم أمض يوما واحدا دون أن أحبك، ولا ليلة واحدة دون أن أعانق طيفك.. ولا أشرب كوب شاي دون أن ألعن العظمة والطموح اللذين جعلاني بعيدا عنك، وعن روحك الوثابة”. أو حين يقول لها: “جوزفين لا تغسلي أعضاءك الحميمة فأنا قادم”.

أما ملك إنجلترا “هنري الثامن” – الذي اشتهر بقصة تنازله عن العرش من أجل السيدة الأميركية التي أحبها، وتدعى “ويليس سيمبسون” – فقد كتب لها في إحدى الرسائل يستعطفها ألا تطيل غيابها؛ قائلا: “أنا وقلبي ملك يديك، أتوسل ألا تجعلي غيابك يُنقص من جذور عواطفك نحوي؛ مما يضاعف آلامي وأحزاني، فغيابك وحده كاف ليعذبني”.

وفي العالم العربي يختلف الأمر كثيرا؛ لأن الرسائل لا تُباع في المزاد، ربما تكون طعاما للنيران مخافة الفضيحة، أو في حالة خلوها من الشبهات قد يحتفظ بها الأبناء أو الأحفاد، وربما يكون مصيرها بين دفتي كتاب، كما فعل الكاتب الصحفي سامي كمال الدين؛ حين وضع كتابا يحمل عنوان “رسائل المشاهير”، وضم بين دفتيه مجموعة من الرسائل والوثائق النادرة لعدد من أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ السياسة والفن والثقافة، وكل الرسائل موثقة بالصور.


منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري

ومن ضمن الرسائل التي يتضمنها الكتاب رسائل محمد أنور السادات الخاصة لبناته، ورسائل أشهر رئيس مخابرات عربي صلاح نصر، وأيضا رسائل روز اليوسف مع ابنها إحسان عبد القدوس، ورسائل القائم مقام يوسف صديق بطل ثورة يوليو، ورسائل الشيخ محمد رفعت، وأمل دنقل.

وفي مقدمة الكتاب، يقول المؤلف: “لستُ من هواة التقليب في الأوراق الشخصية لأناس رحلوا عن الحياة لأجل تحقيق انفراد صحفي أو بعثرة أسرار أناسٍ نحبهم، بقدر ما هو بحث عن ذلك الزمن الجميل الذي طوى رغمًا عنا، وفرّ من عمرنا رغمًا عنا، ولم يعد مرة أخرى”.

وكما فعل سامي كمال الدين، في جمعه رسائل لمشاهير في السياسة والأدب والدين، فقد وضعت الكاتبة سلمى الحفار الكزبري رسائل الكاتبين جبران خليل جبران ومي زيادة في كتاب حمل عنوان “الشعلة الزرقاء”، وتبين تلك الرسائل عمق العلاقة الروحية بين جبران ومي زيادة، خاصة أن قصة علاقتهما استمرت 19 عاما؛ دون أن يلتقيا أبدا. ومما كتبته مي إلى جبران:

“قد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايل كلمة الحب. ان الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ينمّي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية رهيبة قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لاعلاقه له بالعاطفة، يفضلون أي غربة، وأي شقاء (وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ لا أعرف ماذا أعني به! ولكني أعرف أنك “محبوبي”، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير.

فيرد عليها جبران:

عزيزتي الآنسة مي

منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري.

لقد صرفت الساعات الطوال مفكراً بكِ مخاطباً إياكِ مستجوباً خفاياك مستقصياً أسرارك. والعجيب أنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في مآتيَّ وأعمالي.


تجاهل متعمد

أما الكاتبة السورية “غادة السمان”، فكانت من الجرأة بأن طبعت بنفسها الرسائل المرسلة لها من الكاتب الفلسطيني “غسان كنفاني”؛ حيث تكشف تلك الرسائل قوة الحب والشغف الذي حمله غسان لغادة السمان، في الوقت الذي كشفت خلاله الرسائل عن تجاهل متعمد من قبلها، كما أن رسائل غادة السمان لغسان لم تظهر أبدا، وبررت الكاتبة هذا الأمر بأنها لا تعرف أين صار مصير تلك الرسائل، كما لأنها لم تكن تحتفظ بنسخة منها.

لكن الإقبال على كتابة أدب الرسائل في عالمنا العربي محفوف بالمغامرة، لأن القارئ يقترب من الكتاب، كما لو أنه يترقب نوعا من الفضيحة، في حين أن أكثر الرسائل عاطفية لن تكشف سوى عن بوح مكنون في قلب صاحبه، ظل يعذبه طويلا ولم يتمكن من التعبير عنه إلا عبر الورقة والقلم. أما في هذا الزمان، زمن الإنترنت والفيس بوك، فلا توجد رسائل، ولا أوراق، ولا أشواق وخيبات، بل ربما لم يعد هناك رسائل أيضا، حيث بات الصوت والصورة عبر كاميرا الكمبيوتر، يختصران اللقاء والكتابة. (خدمة وكالة الصحافة العربية)


* روائية لبنانية تعيش في القاهرة


( ميدل ايست أون لاين )

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *