فرصة حظ – قصة كوبيّة مترجمة

(ثقافات)           

” فرصة حظ”

           قصة :  كالفرت كاسي*

            ترجمة  : إفلين الأطرش

                      

     أغلق جورج آخر حقيبة ملابس بصعوبة بالغة. عانده القفل كثيرا. حاول أن يغلقه يضغط يده الطبيعي أولا، لكن عندما وجد أن الرّفاص لم يكن يضغط بقوة كافية ليمسك الحلقة، بذل جهدا أكبر، ولكن عبثا. حاول من جديد إجباره على الدخول بالقوة. لاحظ أن أصابع يديه ترتجف قليلا. كان الجو حارا غير أنه كان يعرف سبب تصبّب عرقه البارد نقطةً فنقطة من تحت إبطيه حتى خصره. يحدث هذا كلما شعر بتوتّر عصبي.

   حاول تذليل صعوبات إقفال الحقيبة حين كانت ” داليا” مشغولة بوضع آخر حاجيّاتها، التذكرة والنقود في حقيبة يدها  ــ ولكنها رأت كلّ شيء.

  ” ألن تغلق؟ ” .

  ” لقد علقت. تحدث هذه الأشياء في آخر دقيقة”.

  ” لا تجبرها “.

 ” ألا ترين أنني لا أفعل؟ “. حاول جورج السيطرة على تهيّجه.

 ” لا تكن عديم الصبر. حاول برفق وسترى أنها ستقفل. لن يغادر القطار قبل الثانية عشرة “.

  توقّع جورج هذا الاحتمال المُربك بأن لا يؤدي القفل مَهمته  بالرغم من كلّ الجهود.

  ” يمكنكِ أخذها كما هي على أية حال. إن القفل الثاني قوي. سيمسك “.

 ” لن أذهب إذا لم تغلق. لن أخاطر بحقيبة نصف مغلقة. بخاصة مع حركة القطارات السريعة في الوقت الحاضر. سنرسلها للتصليح يوم الإثنين وسأغيّر بطاقتي ليوم الثلاثاء “.

  شعر جورج بانزلاق نقطة وحيدة متجمّدة على جبينه.

 ” أوه، يا لها من ضجّة تفتعلينها من أجل لا شيء. سنضع حبلا حولها إذا لم تغلق وسيثبتها، وسينتهي الأمر”.

” كيف لي أن أسافر بحقيبة مربوطة بحبل؟ على أية حال لا داعي للعجلة من أجل الرحلة، أليس كذلك؟ قد يكون هذا تحذير لي. أنا أومن بهذه الأشياء. إذا لم أصل هناك اليوم، سأصل الثلاثاء. الأمر سيّان”.

 ” ماذا ستقول عائلتُك؟ سيظنون أنه قد حصل لكِ شيء ما، أو أنني  لم أدعك تذهبين إليهم.. إنهم فعلا يظنّون بي السوء”.

” ما الخطأ في إرسال برقية لهم؟”.

  كان منطق داليا العنيد هو ما يجعل جورج أحيانا يشعر بالاختناق. كان ينتابه في لحظات حسّاسة شعور بالامتنان يُفصح عنه في اعترافات معلنة عن حاجته العظيمة لها ولإخلاصها وتفانيها، وفي ملاطفات من الصعب معرفة أين ينتهي عندها الامتنان وأين تبدأ الرغبة، لكن لحظات الحنان هذه قد قلّت في هذه الأيام، وتنامى شعوره البغيض بأنه مختنق بقوة أكبر.

  أشارت داليا بابتسامة إلى مفتاح على الأرض إلى جانب الحقيبة يمكن رؤيته بسهولة تحت عينيه. دفع جورج المفتاح الصغير في القفل، فتراجع الرفاص وتمكن من إقفال الحقيبة.

   كانا قد اتّفقا على عدم ذهابه إلى المحطة. لم يكن يحتمل الوقوف في غرف الانتظار في المحطات والمطارات، فهذه الأماكن كلّها ـ في الحقيقة ـ تربط إرادته موضوعيّا  بإرادات الآخرين، أو بقوى سريّة وغامضة. كانت المطارات ترعبه. هذا القطيع الصابر من المسافرين الذين ينتظرون صوتا معدنيا غير مستساغ، يأمرهم من خلال مكبر الصوت بتسلّق آلة  ثَبت لأكثر من مرة بأنها مصيدة موت، يا للناس المساكين. إنه يمقت لحظات الوداع أيضا، والقطارات التي لا تبدأ سيرها بالرغم من أن كلّ شيء قد قيل والقبلات  المتبادلة الأخيرة قد انتهت؛ يمقت تأخير اللحظة النهائية التي تجبر الإنسان على بدء الاحتفال النِفاقي المحزن مجددا، والرحيل الأخير الذي هو بمثابة الخلاص لكل إنسان.

 قبّلها جورج حين غادرت الشقة وهي على أتمّ الاستعداد. قبل أن يفتح الباب أحسّ بالرغبة غير المتوقعة بأن يقيم صلة جسدية معها. قبّلها على خدّ واحد، مرة واثنتين وثلاثا. كاد أن يقول  ” عودي بسرعة”، ولكنه منع نفسه. تقبّلت قبلاته، ولكنها أمسكت كتفه بحزم هامسة في أذنه :

  ” اعتن بنفسك، كل جيدا. إذا ما أصابك الألم فأنت تعرف مكان الحقنة. اغلها حالما تشعر بأي شيء، واستدع حارسة المبنى. إنها جيدة جدا وستأتي في الحال، لقد حدّثتها في الموضوع”.

  ربطت منديلا صغيرا سخيفا حول رقبتها، وأحبّ أن يقول لها بأنها تبدو كبنت صفيّة ريفية، رغم أنه لم يرَ واحدة قط. كانت تسمّيه منديل سفرها، ربما لأنها تخرجه دائما من جوف الخزانة كلما ذهبت لزيارة أهلها. وجدها جميلة. هل كان ذلك بسبب ابتعادها عنه، الأمر الذي بعث فيه دائما شعورا غريبا من الحنان والذنب، أو هل كان بسبب المنديل الذي لاءمها كثيرا بشفتيها المطليتين ورائحة عطرها الذي أبقته دائما لسفرها أو لسفراتهما القليلة معا؟ لا، تذكّر أنه دائما أحبّ رؤيتها بهذا المنديل الأخضر السخيف الذي يجعلها تبدو أصغر سنا.

 التقط حقيبتها، واجتازها ـ حاملة حقيبة زينتها ـ وأقفل الباب. اتّجه إلى الشارع عبر الدرج.

 لحسن الحظ، كانت سيارة الأجرة  قد أنزلت لتوّها راكبا أمام المبنى، وبدون أن يتعرّض جورج لمشقة الانتظار أو الوقوف في الدور، وضع الحقائب في المقعد الأمامي. جلست داليا في المقعد الخلفي وتحركت السيارة.

  ” اعتن بنفسك”، كانت آخر كلمات سمعها  جورج منها. ارتقى الدرج مبطِئا يغمره شعور عميق بالارتياح ولكن بالفراغ أيضا، كما أن توتّر هاتين الساعتين الأخيرتين، من وقت صحوهما حتى صَفق باب السيارة بفظاظة، قد انتهى بإنهاكه.

    عند مدخل الدرج التقى بحارسة المبنى، المرأة النحيفة عصبيّة المزاج ذات الصوت الحاد، المُطبِقة على طريقتها الخاصة مع أنها فضولية. كانت الشخص الوحيد الذي يتجاوز التحيّات الباردة أو الابتسامات المُربَكة التي كان يقابلهما بها سكان ذلك المبنى البشع منذ أن تسرّبت لهم أخبار عدم زواجهما ـ أزواج كهول، مربيات مع أسراب من الأطفال الذين يضجّون في الممرات. وفي كل مرة كانا يدخلان أو يخرجان من أو إلى المبنى كانت تقابلهما نظرات الطفل الجالس في القاعة الضيقة يلعب بألعابه دوما ـ وكأنهما وحشان من السيرك.

  ” أنت وحدك الآن آه؟ ” قالت له عندما اقتربت منه.

  ” نعم ، تخيّلي ذلك”.

   ” إذا احتجت لأي شيء، فلا تتردد”.

   ” شكرا”.

  تخيّل جورج المرأة الهزيلة رابضة فوقه تحقنه في ذراعه دون رحمة. راقت له الفكرة، وكاد أن ينفجر بالضحك وهو يصعد الدرج اللامتناهي. اشمأزّ من المبنى. كلّ هذا المظهر المحترم ولا يوجد حتى مصعد بائس.

  عندما وصل الشقة قرّر ان يستحم، وأن يرتّب أمور الشقة قبل الغداء. نظر إلى الساعة، الحادية عشرة والنصف. فكّر في الساعات التي ستمرّ ببطء شديد الآن. ستشمل هذه الساعات أياما وأسابيع من الانتظار. أما إذا ما قام بعمل في البيت فستمرّ أسرع بكل تأكيد.

 لكنه لم يفعل شيئا. شعر بإنهاك عميق لم يتوقعه. تمدّد على السرير قليلا رغم أنه لم يكن مرتبا وأغفى.

 بدأ يستيقظ على بداية قاسية. نظر إلى ساعته وتأكد أنه نام ساعتين. لن يكون لديه وقت لطعام الغداء. حاول ترتيب أفكاره بشكل أفضل حسب الوقت، لا يزال يستطيع ترتيب الشقة، تهوية الغرفة ووضع أغطية نظيفة على السرير، تغيير المناشف والاستحمام. كان الاستحمام أمرا جوهريا. وإلى أن يسخن الماء في سخان المطبخ ـ إذ لم يكن يحتمل الماء البارد حتى في الصيف ـ سيرتب الغرف قليلا وغرفة القراءة التي كان يحاول عزل نفسه فيها أحيانا.

 تفحّص الأشياء بعين ثاقبة، بينما كان يحاول ترتيبها، وكأنه يراها لأول مرة، أثاث الغرف الهزيل، قماش الأثاث المنقوش المنسجم مع الستائر القاتمة. ما نفع الستائر في مثل هذا الجو الحار؟ ولماذا لا توجد أزهار؟ لماذا تكره داليا الأزهار؟ كان يحب الأزهار، ويشتري أحيانا بعضا منها ويحضرها لها كما يفعلون في الأفلام. ولكنه كان يعرف أن داليا عندما تقبلها فإنما لتنتظر لحظة ذبولها لتتخلص منها… إنها تجلب البعوض.

  ألقى نظرة سريعة على الشقة، محاولا عدم إغفال أية زاوية، كلّ شيء منظم مرتّب. يمكنك القول إنها شقة بدون حياة نوعا ما، مُجدبة، بليدة، بلا شخصية ولكنها مرتبة وعلى الأقل نظيفة. ولماذا يراها بدون حياة هذا اليوم مع أنها كانت تبدو جنّة صغيرة من الألفة والراحة في أوقات أخرى، بخاصة في تلك الأمسيات التي كانت فيها داليا تقرأ له؟.

  اندفع نحو الحمام. جرت المياه الساخنة فوق جسده كلّه، فأنعشته وهدّأته. كان لديه الوقت ليغسل نفسه بالصابون مرتين. لقد عرق كثيرا بسبب الحقائب. جفّف نفسه بعناية، ثم رشّ جسده بماء الكولونيا ليزداد انتعاشا وبدأ يرتدي ملابسه أمام مرآة غرفة الجلوس.

  ومع أنه كان بانتظار هذه اللحظة ـ الله وحده يعلم كم طال انتظاره لها ـ إلاّ أن قلبه انقبض عندما سمع الضربة الحادّة لمدقّة الباب. كان لديه الوقت ليفكّر بينما كان يسوّي شعره للمرة الأخيرة فوق صدغيه. كم كانت الضربة حازمة ولحوحة! أُعيدت الضربة، بلطف ولكن بذات الحزم في اللحظة التي اندفع فيها نحو الباب. داهمه تفكير في غير محلّه بداليا لدى وصوله إلى الباب. لم يفهم لماذا : أهُما المنديل الأخضر السخيف وكل التعليمات الأخيرة!  فتح الباب على اتّساعه.. تلك كانت ” لورا”.

  ارتجفت يده قليلا على المقبض. تنهّد بارتياح لعدم رؤية أحد في الممر، ولأن أحدا من جيرانه المزعجين لم يرها تدخل. غير أن الرجفة التي أصابته والشكوك التي داهمته بدّدها حضور لورا، بابتسامتها الهادئة،  بالحنان العميق في عينيها الكبيرتين، بشعرها الممشوط الرائع، بلون طقمها الأصفر البسيط، بنغمة صوتها الغنيّة الهادئة اللطيفة الساحرة والتي قاطعت نظرته المُستثارة قائلة :

    ” أتأذن لي بالدخول؟”.

  لورا! لورا! كم طال انتظاره لهذه اللحظة السحرية حين يراها على الباب، بوجهها المشّع في الضوء الضعيف للممر الحزين. كم مرة تخيّل المشهد… لورا تبتسم، لورا تنتظر، لورا تقرع للمرة الثانية، منزعجة لعدم تواجده هناك، ما أغباه، كم كان غبيا! خطّط بأن يقف أمام طاقة الباب، ويراقبها دون أن تراه، تنتظر أمام الباب، تنتظره ليفتح لها، تنتظره هو، بغير صبر ـ وما أسرع ما ينفذ صبرها ـ تقرع الباب ثانية ـ وسيندفع ويقبّلها بعاطفة كبيرة. لكنه نسي خطّته الصغيرة هذه ـ ما أغباه ! وكثيرا من الخطط الصغيرة، والأحلام، والمشاريع حول جوهر الموضوع ـ إدامة هذه اللحظة إلى الأبد. لورا تزوره للمرة الأولى، صوت لورا يتردّد في الشقة الصغيرة وهي تُرجعه، ثوب لورا  يُصدر حفيفا ـ يا للسخف ! إن الأثواب لا تُصدر حفيفا الآن. كان ذلك في الأيام القديمة، في الروايات ـ لكن نعم، سيصدر ثوب لورا حفيفا خفيفا حين تدخل. هو أراد ذلك، وسيكون ذلك.

  كلّ ما كان عليه أن يفعله هو أن يستعيد نفسه لمرأى ابتسامتها الهادئة، وطقمها الأصفر البسيط    الذي امتصّ إضاءة الغرفة الصغيرة ـ لقد فتح الستارة المعدنية ـ ويدها الصغيرة التي ارتفعت لتتأكد من ترتيب شعرها. كلّ ما عليه أن يفعله، هو دعوتها للدخول، بحركة غبيّة منه.

 كانت اللحظات الأولى مُربكة. وضعت حقيبة يدها التي بدت له كبيرة جدا على الطاولة، وبدأت تتفحّص الغرفة.

 ” إذن، فأنت تعيش هنا “.

 وبما أنه كان جدّ منهمك في مراقبتها، بحيث لم يكن قادرا على قول أي شيء، فقد جالت بنظرها مرة أخرى في الغرفة وأعادت نفس الكلمات التي بدت له تحمل حقيقة صعبة. أُنقذ هذا الوضع باكتشافهما المتوافق بأنه قد نسي لبس حذائه في غمرة انفعاله وأنه استقبلها حافي القدمين. انفجرا في ضحك ضاجّ ـ ربما ضاجّ جدا، ومن ثم صار باستطاعته معانقتها.

  في البدء أحسّ بخوف قاتل من إمكانية أن تطرح اعتراضات سخيفة. هكذا هن النساء. عندما يكنّ على استعداد لكل شيء، فإن خوفا لا يمكن تفسيره سيداهمهن وسيفسد كلّ شيء. إنه نوع من الدفاع ضد خطر الجنس برمّته والذي يحوم حولهن، وهن وحدهن يستطعن التنبؤ بذلك. ومع أنه في الحقيقة إذا كان ثمّة من وضَع اعتراضات، فقد كان هو، اعتراضات على الالتقاء في دور السينما المعتمة التي يخرج الإنسان منها بإحباطات بائسة، وبعد ذلك في الفنادق الصغيرة ذات الجدران غير المطلية والتي من شأنها أن تُرخص، كما شعر، من حبهما في البداية وأن تدمّره في النهاية. لا، لا، يجب عليهما الانتظار حتى يستطيعان أن يلتقيا متحرّرين من سطوة الزمان والمكان. قدّم بعض الإيضاحات، وسألته أسئلة قليلة وانتظرا بفارغ الصبر مجيء هذه الأيام ذات الحرية المطلقة، الأيام المحدّدة بعودة القطار الذي غادر لتوّه.

  تلاشت مخاوفه مع أول عناق مرتجف طويل، والذي قوطع بتنهدات الارتياح. لقد أتت لتسلّم نفسها له.

 وخلال المساء كلّه وبعد مضيّ وقت طويل على غروب الشمس، شعر جورج أنه يغوص أعمق فأعمق في جذور الحظ السعيد، غافلا عن كلّ شيء، عن مرور الزمن، عن الإظلام التدريجي للشقة، عن ضجيج الشارع، عن رنين الهاتف اللحوح، عن الطرق على الباب، عن أصوات كلّ الجيران، عن ضجيج المنزل الذي يهوي بهدوء، عن دقّات ساعته التي توقفت أخيرا، عن العالم بأسره.

   عندما غاب الضوء نهائيا واستُنفذِت كلّ طاقات الإثارة، وخيّم الهدوء والصمت، رغب جورج في أن يدوم الصمت، غير أن لورا لم تُدِمه. كسرته بالتحدث عن أشياء لم يستمع إليها جيدا ولم يحاول حتى أن يفهمها. بدأت بإخراج حاجياتها من الحقيبة الكبيرة مما أكّد تخوّفات جورج وجعله يبتسم.. منامتها، مجموعة فراشٍ ( ولماذا كلّ هذا العدد؟)، ملابس داخلية، محارم ورقية ماصة والتي يبدو أن النساء ترى الحياة بدونها مستحيلة، مستحضرات غريبة في علب ـ اكتشف جورج فيما بعد أنها لشعرها. ولكن لماذا عليها أن تتكلم بينما تخرج هذه الأشياء من قاع حقيبتها وترتبها على منضدة الزينة؟ هل الكلمات ضرورية؟

  بدأ جورج إعداد العشاء. لقد خطط لهذه الوليمة المحدّدة في تلك الليلة منذ أسابيع، حتى إنه فكر بإدخال طاولة صغيرة من النوع الذي يطوى إلى غرفة الجلوس بعد أن كان قد أصلحها سرّا. بإمكانه أن يضعها قرب الشرفة غير أنه لن يفتح الأبواب خوفا من أن يُشاهدا، مع إبقاء الستائر المعدنية مفتوحة كي يرطبهما نسيم الليل. كم من المرات تخيّل شعر لورا متطايرا بفعل النسيم مُعيقا رغبتها الطبيعية في تسويته بشكل منبسط.

  لكن جورج قرر فجأة بأنهما سيأكلان في غرفة الطعام، هكذا سيكون كلّ شيء أبسط.

كان الوقت قد تأخر، وبعد أن يكونا قد انهيا عشاءهما، فإنها سيطلقان العنان للحديث بينهما.

  مرّت وجبتهما في صمت. كلّ ما خطط جورج لقوله أو عدم قوله في هذه الليلة الحقيقية  الوجدانية الصادقة، من الجمل السعيدة، والوقفات ذات المعنى، المليئة بالسحر اتخذ شكلا بسيطا من التعليقات.

  ” إنه لا يبدو حقيقيا، أليس كذلك؟”.

  ” لا . إنه لا يبدو”.

  ” لكن كلّ شيء يأتي في النهاية”.

  ” عليك بالانتظار فقط”.

  ” نعم ، هذا صحيح”.

 ” يا لشدة الحرارة !”.

  ” مخيفة”.

 لم يكن الأمر هكذا. هبّت ريح الأرض بلطف فوق المدينة ورطّبتها لبعض الوقت، وكأنها نَفس السماوات.

  فكر جورج بتوهّج شديد بسعادته. نظّف الطاولة بينما كانت لورا تعيد ترتيب نفسها في الحمام. عدّ رغما عنه عدد المرات التي فتحت فيها صنبور الماء وأغلقته. أخرج من دُرج علبة لفائف  تبغ كان قد اشتراها لهذه المناسبة. جلب كأس ليكور، ومنفضة، وعلبة ثقاب ورتب ذلك كله ـ كما خطط ـ على قطعة قماش نظيفة في أرض غرفة الجلوس. ستسرّ لورا بهذه التفصيلات. ثمّ أطفأ الضوء، وفتح باب الشرفة وتمدّد على البلاط. تمدّدت لورا إلى جانبه بصمت وقبلته قبلة لطيفة على كتفه. شعر جورج بحزن رغما عن إرادته، لكنه سرعان ما تبدّد.

  أصبح النسيم مزعجا في النهاية فقرّرا إغلاق نافذة الشرفة. بعد بضع دقائق أصبحت الحرارة في الغرفة الصغيرة قاتلة. أما النعاس، والذي لاحظ جورج بدايته بمزيج من التجاهل والراحة، فقد صار أقوى منهما، وخلال بضع دقائق كانا ينامان بعمق. لم يكن جورج متأكدا من اللحظة التي نهضا فيها عن الأرض الصلبة ليتابعا نومهما في غرفة النوم.

 صحا جورج مبكرا جدا ربما أبكر بكثير مما خطط، ذهب إلى المطبخ وصنع قهوة، قوية كما تحبها لورا. راقبها لبعض الوقت وهو  يحمل فنجان القهوة الصغير متصاعد البخار قبل أن يقرر إيقاظها.

 لطمته فكرة أن النائم يعود إلى عالم شخصي مخيف وبعيد، فيه من الاكتفاء الذاتي ما يجعل كلّ شيء أو أحد زائدا.

  احتست قهوتها، نصف نائمة، وابتسمت له بعينين غائرتين، وغلّفها عالم النوم الخاص من جديد.

  لكن جورج لاحظ أنها قد صحت وأنها كانت تتظاهر بالنوم فقط عندما عاد إلى غرفة الجلوس.

 متمددا إلى جانبها، سمع جورج ضجيج المنزل، أصوات جيرانه يحيّون بعضهم تحيّة الصباح على الدرج، أصوات محرّكات الحافلات الأولى، نداءات بائعي الصحف البعيدة، تنقيط الصنبور، تنفّس لورا. هو الآن منتظم ـ تنفّسها المعتاد. ثم سمعها تهمهم إلى جانبه بصوت غير مسموع. ربما كانت تنظر إلى السقف. تحقّق من ساعته، ولكنه تذكّر أنها توقّفت في الليلة الماضية. غير أنه لم يكن بحاجة إلى ساعة ليعرف أن الوقت مبكر، مبكر جدا، وأن نهارا طويل جدا يبدأ الآن. أغلق عينيه متعمّدا، كي لا يرى ضوء النهار، وليمنع دموعه من الجريان. تمنّى جورج بتوهّج شديد أن يمرّ الوقت وأن لا يمرّ…

  *كالفرت كاسي : كاتب كوبي  صاحب  قصة “الإعدام” ، تمّ نشرها على ذات الموقع.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *