بين ” جنة الشهبندر ” لهاشم غرايبة و ” بعد الحياة بخطوة ” ليحيى القيسي

(ثقافات)

 

بين ” جنة الشهبندر ” لهاشم غرايبة و ” بعد الحياة بخطوة ” ليحيى القيسي

قراءتان تأويليتان لمفاهيم إجتماعيةٍ راسخة

مهدي نصير*

” جنَّة الشهبندر ” هي الرواية الثامنة لهاشم غرايبة وصدرت عن دار مدارك للنشر عام 2016 , أما رواية ” بعد الحياة بخطوة ” فهي الرواية الرابعة ليحيى القيسي وصدرت عام 2018 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت .

الصفحات العشرة الأولى في رواية ” بعد الحياة بخطوة ” للروائي يحيى القيسي قطعةٌ فنيةٌ عاليةٌ وشكَّلت مدخلاً رائعاً لهذه الرواية الصوفية في بنائها ولغتها والتي خلخلت كثيراً من المفاهيم المتعلقة بالجنة والنار وعالم ما بعد الموت بسرديةٍ تنقلت بين عالم الممر والمستقر النورانيين وعالم الحضيض السفلي لتخلخل أيضاً مفاهيم العقاب الديني برؤيةٍ صوفيةٍ تحافظ على ثنائية الجنة والجحيم الدينية ولكن بقراءةٍ جميلة وجديدة لهذه الثنائية .

الجزء الثاني من الرواية كان نصوصاً صوفيةً تتحرك أيضاً في فضاء خلخلة المفاهيم الإجتماعية السلفية عن العالم الآخر عبر أبواب ٍ تحمل عناوين صوفيةً وهي جزءٌ من كتاب ” الرؤية والأسرار ” الذي ألفه بطل الرواية بعد عودته لجسده الأرضي بعد دخوله بغيبوبةٍ دامت شهراً تنقل خلاله في عالم ما بعد الحياة بخطوة , وشكَّلت هذه الرحلة رحلةً افتراضيةً للعالم الآخر بكل حضوره في المخيال الشعبي السلفي .

الجزء الثالث من الرواية هو الاتصال مع مجموعةٍ تؤمن وتبحث عن عالم ما بعد الموت : المهندس المعماري وطبيبة الأسنان وخريجة الكيمياء والضابط المتقاعد ومايا التي تربط عوالم ما بعد الحياة بالغيبوبة والنشوة والمخدرات والتي تموت نتيجة لذلك .

في هذه الرواية ذات اللغة العالية والسرد المتماسك يأخذنا الروائي المبدع يحيى القيسي لعوالمه السحرية التي تستعيد الحياة البسيطة وذكريات الطفولة الطافحة بالدهشة ويأخذنا أيضا في سرديته للمعاناة اليومية لأسرته وزوجته وأطفاله ووالده بسلاسةٍ لا تُخلُّ بالجو الصوفي لهذه السردية الممتعة .

محاولة ربط هذه السردية بالعلوم المعاصرة ومقولات: near death experience  أعطت للرواية نكهةً متعلقةً بتجارب بشرية اقتربت من البرزخ عبر غيبوباتٍ طويلة   .

وقريباً من هذا المناخ تتحرك رواية هاشم غرايبة ” جنة الشهبندر ” وهي من أجمل روايات هاشم والتي لم تأخذ حقها لا بالقراءة والنقد ولا بالإشهار .

” جنة الشهبندر ” التي أنسنت العالم الآخر وأعطت مفهوماً جديداً للجنة بعيداً عن الفهم السلفي وكذلك ألغت الجحيم من هذا العالم الآخر وذلك تنزيهاً عميقاً لمفهوم الاله العالي والمحب والرحيم عن مفهوم العقاب القاسي الذي تتوسع بوصف أهواله السردية الشعبية السلفية .

في رحلته في ” جنة الشهبندر ” الشبيهة برحلة أبي العلاء المعري في رسالة الغفران ورحلة دانتي في كوميدياه الإلهية , حاور هاشم غرايبة مكونات الثقافة العربية ومدارسها وانتصر فيها للمكون العقلي ممثلا بابن رشد الذي كان نابضاً بالحياة والحضور في فصول هذه الرواية العالية , أما في رواية ” بعد الحياة بخطوة ” ليحيى القيسي والتي تذهب قريبا في مناخاتها ورحلتها للعالم الآخر من رواية ” جنة الشهبندر ” الا ان يحيى قطع نصف المسافة التي قطعها هاشم غرايبة الذي ألغى الجحيم بمفهومه الغليظ والمتناقض مع رحمانية وتسامح وتعالي الاله ، بينما حافظ يحيى القيسي عبر التأويل على ثنائية العالم الآخر ( الجنة والجحيم ) عبر ما سماه ” عالم الحضيض ”  , كذلك كانت رحلة يحيى عائلية روحانية بينما كانت رحلة هاشم تاريخية ثقافية تقرأ الحاضر بعين التاريخ كواحدٍ من سلالات هذا التاريخ العربي الذي ما زال يموج بصراعاتٍ قديمةٍ متجددةٍ لم يتم حسمها في تاريخ الثقافة العربية وفِي الوعي الجمعي العربي .

في هاتين الروايتين تمتزج اللغة الصوفيةُ باللغة اليومية , التاريخ بالحاضر , التصوُّف بالبرهان , في رحلةٍ تحاول استكناه أسئلة الثقافة العربية المعاصرة وتضع على محكِّ النقد وتحت الضوء الخطاب الديني السائد وتدفع به بعيداً عن المكوِّنات التي يجب أن تسود وتتحاور لتخليص الإنسان العربي من رواسب التخلّف والجهل والظلام .

ان قراءةً مقارنةً لهاتين الروايتين ستكون مليئةً ومهمةً وذات معنى كبير .

روايتان تفككان مفاهيمَ سلفيةً راسخةً وتــقرآن هذه المفاهيم برؤيةٍ إنسانيةٍ تأويليةٍ مشروعةٍ وجميلةٍ وقابلةٍ للحوار مع المفهوم السلفي الإجتماعي بعيداً عن العقلية السلفية المستندة إلى أدواتٍ لا يقبلها العقل التأويلي الذي بُنيتْ عليه هاتان الروايتان بدرجات متفاوتة .

* شاعر وناقد أردني

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *