مها العتوم: أحمي الطفلة في داخلي بالشعر

(ثقافات)

مها العتوم: أحمي الطفلة في داخلي بالشعر، وأحمي الشعر بطفولتي وشغبي وقدرتي على اللعب

أجرى الحوار: مروان البطوش

مها العتوم، من مواليد عام 1973 في بلدة سُوف بمدينة جرش شمال الأردن، شاعرةٌ وناقدة وأكاديميّة، حاصلة على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنية، عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، وشاركت في العديد من مهرجانات الشّعر المحليّة والعربيّة.

*من إصداراتها:

– دوائر الطين 1999 ( ديوان شعر)

– نصفها ليلك 2006 (ديوان شعر)

– أُشبهُ أحلامَها 2010 (ديوان شعر)

– أسفل النّهر 2013 (ديوان شعر)

– غرف علويّة 2019 (ديوان شعر)

– حياتي ذاكرة والكتابة نسيانها 2020(مختارات شعرية)

– مجموعة متفرقة من الكتب والأبحاث النقدية.

*من الجوائز التي حصلت عليها:

– جائزة الدولة التقديرية في الأدب 2017

– جائزة التفرغ الإبداعي من وزارة الثقافة الأردنية 2017

– جائزة أنور سلمان للإبداع 2022

/

رافقتُ شاعرتنا في مشوار قصير من الأسئلة بمعيّة “ملتقى الأجيال” في”صوت الجيل”، فدار هذا الحوار:

*نادرون أولئك الذين حين يتحدثون عن “الأنا” يصفون بحديثهم كلّ آخر، أنت من هؤلاء في شِعرك. هل كتابة الشعر بالنسبةِ إلى مها تعويضٌ عن حاجةٍ ما لم تجدها في سواه؟

-بالنسبة للشق الأول من سؤالك فأرى أن الكتابة الصادقة مهما كانت خاصة فإنها تصير ملكاً للعامة وتعبر عن تجاربهم، وأنا لا أدعي أني أكتب عن الآخرين وعن تجاربهم، وأنا كذلك ضد شعر المناسبات، وضد الأدب الملتزم بمعناه الإيديولوجي. وهذا لا يعني بالضرورة الانفصال عن القضايا والأفكار في حياة الناس والمجتمع، فالكتابة عموما رؤيا الشاعر والشاعرة للعالم، والرؤيا تشرّب وامتصاص لكل ذبذبات الكون وتحويلها إلى قصيدة بالنسبة لي، فأنا أعاين كل ما حولي وأحوله إلى عجينتي الخاصة المتفردة، فيها كل مكونات العالم، ولكن بنكهاتي ولمساتي وخصوصية كتابتي، وبمقدار ما يكون هذا حقيقياً وصادقا تكون كتابتي حقيقية وصادقة، تعبر عني، وتعبر كذلك عمّن يقرأها. فالإصغاء لنبض الوجود لا لصخبه وصراخه وشعاراته يصنع أدباً صادقاً، والإخلاص للتجربة هو ما يجعل الأدب الأكثر خصوصية عمومياً وعالمياً ويعبر عن الآخر بمقدار ما يعبر عن الذات.

وأما عن الشق الثاني من السؤال فالشعر بالنسبة لي تعويض وجودي عن العالم الناقص والمتناقض والمشغول بالحرب والكراهية وإلغاء الآخر، وهو تعويض جمالي عن القبح الذي يحيط بي وبالنفوس الحساسة التي تريد سبباً ووسيلة لمواصلة الحياة، وهو وسيلتي لمعرفة ذاتي وإجابة أسئلتها التي امتلأت بها منذ الطفولة، مع أن الشعر لا يحمل أجوبة بمقدار ما يطرح أسئلة تتجدد لدي في كل قصيدة، لكنها دافع للبحث والحب والاندفاع باتجاه الحياة وملاحقة أحلامها وأوهامها الجميلة. وقد قلت ذات مرة في قصيدة:

كل يوم أفتش عن زرقة لم تصدها سوايْ

وفي نهاية القصيدة قلت:

كل يوم يحث السراب خطايْ

* أعدتُ قراءة أعمالك الشعرية قبل أن أجري هذا اللقاء، فلفتني أمرٌ لم يلفتني من قبلُ، ربما هذا من فضائل التكرار المهمة، وهو “مها النزقة” أنتِ نزقة يا مها رغم كلّ ما تتقنين من تحكّم. هل هذه الطفلة المتمرّدة المختبئة في كلّ زوايا شِعركِ بخير؟

-أحمي الطفلة في داخلي بالشعر، وأحمي الشعر بنزقي وجنوني وطفولتي وشغبي وقدرتي على اللعب. الطفلة هي التي تكتب، ولكن الناقدة والقارئة الهادئة والمنضبطة هي التي تعاين النص بعد إنجازه. أظن أن هذه هي الصورة المثالية للشعر وصاحبه أو صاحبته، ولكننا لسنا مثاليين، وأنا كتبت في بعض الأحيان نصوصاً دفعتها للنشر والطباعة وندمت عليها بعد ذلك، أي أن الفرح الطفولي قد يدفعني أحيانا لنشر الشعر دون معاينته ونقده والقسوة عليه، وفي المقابل أحياناً تؤثر علي الناقدة لحظة الكتابة وتتسلل إلى القصيدة وتفقدها بريقها المقترن -بما اصطلحنا عليه هنا- بالطفولة. نعم، أنا نزقة في الحقيقة وفي لحظة الكتابة، ولكن في الوقت نفسه علمني الشعر الانضباط وضرورة الوعي بمسؤوليتي عما أكتب من أجلي واحتراماً للقارئ. وهذا لا يعني أني أكتب بمعايير خارجية مفروضة مسبقاً، ولكن لدي معاييري المبنية على معارفي وخبراتي وتجاربي الخاصة، وأريد أن أكتب قصيدة مغايرة وحقيقية وجميلة في الوقت نفسه.

*أحبّ قصيدتك التي عنونتها بـ”ما يفعل الحبّ” جداً، نشرتُها قبل مدّةٍ على صفحتي في فيسبوك فحصلتْ على تفاعلات كثيرة.. ما رأيكِ في نشر الشعر عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل يختلف كثيراً عن نشره في الورق؟

-اليوم لم تعد الندوات والأمسيات والمهرجانات الوسيلة المثالية لنشر القصيدة، ولا الكتب المطبوعة، فمواقع التواصل الاجتماعي والنشر الالكتروني صارت أهم وأكثر نجاحا في التعريف بالكتاب والكاتبات. مع أنها لا تقدم دائما الأفضل شعريا وفنيا، فأنا أتابع بعض الصفحات والكتاب والكاتبات المعروفين والمعروفات والمشهورين والمشهورات من المتواضعين والمتواضعات فنياً وجمالياً، ولكن لا بد من الاعتراف بهذه الوسائط التكنولوجية التي يمكن استخدامها بصورة صحيحة والوصول إلى المتلقي في أي مكان وأي زمان. كنت أكتب القصيدة وأنتظر يوماً أو أياماً حتى أحظى بقارئ، واليوم تكتب القصيدة وفي اللحظة نفسها تنشرها على أحد مواقع التواصل وتحظى بقراء وقارئات في العالم كله. ما أجمل هذا العصر لولا أنه يسوق الرداءة في كثير من الأحيان، ويختلط فيه الحابل بالنابل حين لا يكون التوجيه صحيحا لأدوات العصر هذه، وتسويق المعرفة والأدب لجمهورها الافتراضي.

* أنا منحازٌ للأمومة والأمّ يا “أمّ ورد” بكافّةِ أشكال الانحياز ، وهذا ربّما من أهمّ الأسباب التي جعلت منكِ منزّهةً عن الخطأ بالنسبةِ إليّ، هكذا أنظر للأمهات جميعاً وأبحثُ عادةً وراء أخطائهن الظاهرة عن حِكمٍ مخفيّة.. حدّثيني عن علاقةِ شعر مها بأمومتها.

-على الرغم من ارتباط الشعر بالذات – من بين الأجناس الأدبية- بالذكور لا النساء، وبالفحولة لا الأنوثة على مر التاريخ العالمي والعربي بالذات إلا أني أرى الشعر أمومة، وأفضل الشعراء بالنسبة لي هم من يحملون روحاً مؤنثة وأمومة ما اتجاه العالم. لطالما كانت لدي هذه المشاعر الأمومية اتجاه الفقراء والمنبوذين والمنكسرين والمهمشين وأنا منهم، أنتمي إلى هذا العالم وينتمي إلي، حتى قبل أن أحظى بالأمومة البيولوجية. أما الأمومة البيولوجية فكأنها العالم الذي تتحول فيه الاستعارات السابقة إلى قصائد، والخيال الهائم إلى صور فنية متحققة. حين نظرت في وجه ورد لأول مرة ظننت أنني سأكتفي به وأتوقف عن الكتابة بكل ما في هذه المشاعر من اختلاط وتناقض وصراع، وأدخلني هذا الصراع في اكتئاب ما بعد الولادة فعليا وشعريا، وتوقفت لفترة طويلة عن القراءة والكتابة، ولكن الأمومة ذاتها أعادتني إلى نفسي وقصيدتي فيما بعد بروح جديدة، وأنا شاعرة محظوظة لأني استطعت أن أكون أماً بيولوجياً ونفسياً وشعرياً.

* الحركة النقدية للشعر في الأردن ساكنة، إلى درجةٍ تجعلني أستغربُ تسميتها بالحركة. ولا أعني النقد المكدس في رسائل التحصّل على الدرجات الأكاديمية، فلدينا كما تعلمين من هذا الكثير. أين النقدُ المشتبكُ مع الحاضر؟ لماذا نقرأ نقداً كثيراً لِما نُقد مراراً وتكراراً ولا نجد شيئاً لنقرأه ينقدُ ما لم يُنقد من قبل؟. وهنا أعني النقد الجادّ وليس المجاملات البائسة أو العداوات الشخصية التي نراها هنا وهناك.

-أتفق معك أن النقد في الوقت الحالي نقد صحفي لا يرتقي بالأدب ولا يواكبه، ولا يقدم جديدا إجمالا، وبالمقابل هناك النقد الأكاديمي المنفصل عن الواقع الإبداعي الذي يركز على النظرية الجاهزة ولا يذهب باتجاه النصوص الجديدة ومحاولة غربلتها، وفقدان المعايير هذا أحد الأسباب التي ساهمت في طغيان الرديء الذي لا يتورع عن العناية بالظهور بينما يتوارى الجيد ولا يقدم نفسه. بالإضافة إلى أن بعض الجوائز العربية التي لا تذهب إلى مستحقيها تؤدي دوراً نقديا سلبياً وترسي قيماً لا علاقة لها بصناعة المبدع الحقيقي وتكريس دوره الإبداعي والإنساني.

*وأنا أحضّرُ الأسئلة قاطعتني أمّي وقالت: ماذا تفعل؟. أجبتها: أجهّز لحوار مع شاعرة أردنية. فسألتني: من؟. فأجبتها: اسمها مها العتوم. فقالت: “آه مها شفتها ببرنامج سمر غرايبة”.. أمّي لا تقرأ من الكتبِ سوى القرآن الكريم، وتفسيراته، ولا تعرفُ من الشعراء سواي.. ولكنّها عرفتكِ من خلال التلفزيون. إلى أيّ درجةٍ تظنّين أنّ الحضور الإعلاميّ يخدمُ القصيدة؟

-لعل هذا السؤال يتقاطع مع سؤالك عن وسائل التواصل الاجتماعي، نعم، الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي توفر للشاعر أو الشاعرة انتشاراً وحضوراً جماهيرياً. ومع ذلك أنا شخصياً أحس أن الضوء يسلبني الكثير من الخصوصية التي أستمتع بها وأكتب فيها، وفي الظل أنا حرة أكثر في أن أكون كما أريد لا كما يريد الآخرون. لكني أحاول أن أكون متوازنة في هذا بين الظهور والاختفاء: في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي أحضر وأغيب، وكذلك الأمر في الندوات والأمسيات والمهرجانات.

*شعرتُ ببعض الإحراج في البدايةِ، حين قيل لي إنّ الحوار سيدرج تحت مسمى “ملتقى الأجيال” فأنتِ لم تسبقي جيلي بكثير من السنوات، وشابّة في نظري. لكن بعد ذلك، راودني السؤال المعتاد: هل للعمر علاقةٌ بقيمة الإبداع؟.. كيف يخدم الزمن القصيدة؟

-الزمن هاجس وجودي وشعري، لا نستطيع أن نوقفه، ولكننا نقبض على لحظاته ونثبتها بالإبداع. القصيدة هي مثل صورة فوتوغرافية للزمن وللحظة الشعورية التي نكتب بها. هذه الصور المتراكمة هي ما يصنع التاريخ ويجعل له هوية وقيمة إنسانية وحضارية. لا أريد الحديث عن الموضوع من جانب شخصي وذاتي. من الناحية الموضوعية مرور الزمن يراكم الخبرات والتجارب والمعارف وبالتالي فهو يخدم الشعر. نريد أن نظل شباباً وألا نهرم وألا نموت، لكن هذا غير ممكن، وعشبة الخلود الوحيدة هي الفن والإبداع، إذن نكتب ونهرم ونموت ويبقى الشعر.

*كناقدة. بماذا تنصحين مروان، بكلّ صراحة؟

-كن من أنت، وكما أنت. أصغ للشاعر الذي في داخلك جيدا، وطوال الوقت، ولا تنسه، ووفر له أسباب فرادته وتميزه. غذّ القصيدة بكل أنواع التجارب والمعارف والسفر والسياحة في الذات وفي العالم، ونصيحتي لك في الشعر أن تستمع جيدا لنصائح الآخرين وتحفظها وأن تخالفها وتنساها لحظة الكتابة.

من كان يحمل بذرة الشعر الطيبة مثلك قادر على صنع حديقته الخاصة وقصيدته العالية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *