(ثقافات)
محمد الدسوقي يستذكر علاقته مع طه حسين (حوار)
أجرى الحوار: نايف النوايسة
اغتنمتُ فرصة وجود الدكتور محمد الدسوقي ذات سنة من مطلع هذا القرن في جامعة مؤتة في الأردن على هامش مؤتمر عقدته كلية الشريعة وأجريت معه هذا الحوار حول علاقته بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
في البدْء لا بد من التعريف بالدكتور الدسوقي( ولد الأستاذ الدكتور محمد الدسوقي سنة 1934 في محافظة الدقهلية بمصر, وقد حفظ القران الكريم في كتاب القرية التي ولد فيها ولما يبلغ العاشرة من عمره, ثم انتسب إلى الأزهر فدرس به تسع سنوات, والتحق بعد ذلك بكلية دار العلوم جامعة القاهرة وتخرج فيها سنة 1959م، وكان ترتيبه الثاني على دفعته, وعمل بالتدريس نحو عامين, ونقل بعدها إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة للعمل محررا علميا, وقد حصل على درجة الماجستير والدكتوراه من قسم الشريعة بالكلية التي تخرج في تخصص الفقه والأصول, وبعد الدكتوراه عمل عضو هيئة تدريس بالجامعة بمصر وبعض الجامعات العربية, وبخاصة جامعة قطر التي عمل بها نحو عشرين عاما له أكثر من خمسة وعشرين مؤلفاً في الدراسات الفقهية والأصولية والأدبية, ونحو عشرين بحثاً في حوليات جامعية محكمة وعشرات المقالات في المجالات المتخصصة, كما شارك في أكثر من عشرين مؤتمراً وندوة على مستوى العالم الإسلامي, وفاز بعدة جوائز علمية).
-
كيف بدأت علاقتك بالدكتور طه حسين؟
o لقد بدأت علاقتي بالدكتور طه حسين في أواخر سنة 1964م, ففي يوم الاثنين الموافق للثلاثين من نوفمبر من تلك السنة عقد المجمع اللغوي جلسته لانتخاب أعضائه الجدد, وكنت أحد المحررين الذين يسجلون وقائع هذه الجلسة, وفي مستهلها سألني مدير المجمع عن مدى معرفتي باللغة الفرنسية, ولكني أُلمّ بالإنجليزية, ولم يعقب المدير على هذا بيد أنه بعد انتهاء الجلسة عرض علي أن أرافق الدكتور طه حسين رئيس المجمع – وكان قد حضر جلسة اليوم – بعض الأيام لأن سكرتيره فريد شحاته في حاجة ضرورية إلى إجازة لمدة أسبوعين وأبديت للمدير استعدادي لمرافقة العميد الجليل, ومن ثم طلب مني المدير أن انتظر ريثما يغادر العميد قاعة الجلسة إلى حجرته الخاصة, وقدمني إليه تقديماً طيباً, وسألني العميد سؤالاً واحداً وهو: في أي كلية تخرجت؟ فقات: كلية دار العلوم. وتحدث الدكتور طه مع المدير بخصوص منحي إجازة قانونية في أثناء المدة التي أعمل فيها معه وذكر له أن بدء العمل سيكون في الأسبوع القادم.
وقد امتدت علاقتي بالعميد إلى صيف سنة 1972م, أي قبل وفاته بنحو عام، والحقيقة أنني في هذه المدة كلها لم أكن أعمل مع العميد سكرتيراً بصفة رسمية, ففي السنوات الأربع الأولى كان الأستاذ فريد ما زال يعمل معه, غير أني كنت أذهب إلى العميد يومياً كل أسبوع على الأقل, وهو إجازة السكرتير بالإضافة إلى إجازته السنوية وكانت نصف شهر, وكانت تبدأ غالباً عقب عودة العميد من رحلته الصيفية, فضلاً عن الطوارئ المختلفة التي كانت تحول بين فريد وذهابه للعميد كالمرض وإنجاز بعض الأعمال الخاصة, وما أكثر تلك الطوارئ وبخاصة طوارئ المرض, وكان العميد يعتقد أن سكرتيره يفتعل المرض, وأنه أصبح بهذا السلوك – على حد تعبير العميد – لا يطاق.
وبعد أن ترك فريد العمل مع العميد كان علي أن أذهب إليه يومياً, وأن أتولى مهمة السكرتير الخاص له على الرغم من أن عدداً من الشباب جاء ليقوم بهذه المهمة ولكنهم ما كانوا يستمرون في القيام بها, لأسباب لا مجال للحديث عنها.
-
يمثل طه حسين قامة أدبية وفكرية وعربية وعالمية, ما الذي لمسته من هذا المفكر طوال رفقتك له، وتعده إضافة جديدة؟
o طه حسين عبقرية أدبية وفكرية معاصرة بلا مراء, وقد طبقت شهرته في حياته العالم كله تقريباً, فقد منحته أكثر من جامعة عالمية درجة الدكتوراه الفخرية وصدرت عنه بالعربية وغيرها مؤلفات عديدة, وخصصت بعض المجلات العربية والأجنبية بعض أعدادها عن حياته ومؤلفاته, وترجمت بعض هذه المؤلفات وبخاصة( الأيام) إلى معظم لغات العالم, وسعى إليه كثير من المفكرين والباحثين من مختلف الجنسيات والدول للحديث إليه ومحاورته, وشارك في كثير من المؤتمرات الدولية بأبحاثه ودراساته, ولم يتحقق هذا لمفكر عربي معاصر – غير العميد – فيما أعلم..
هذا العبقري العالمي الذي سعدت بلقائه والقراءة له نحو ثماني سنوات تعلمت منه الكثير, ولمست منه ما أراه جديراً بالتسجيل, ويعد إضافة جديدة, أو درساً مفيداً للأجيال المعاصرة, والناشئة وأهمه ما يلي:
-
أن العبقرية وحدها لا تكفي للعطاء الفكري المتميز, فالإنسان مهما يبلغ من النبوغ, ومهما يكن استعداده للتجديد والابتكار فإن هذا لا يؤهله للإنتاج العقلي الذي يغير ويطور, ما لم يكن مع النبوغ والاستعداد عمل متواصل وقراءة جادة, ومتابعة ومراجعة لكل جديد مفيد من الآراء والأفكار.
واذكر أن العميد كان في أيام شبابه وقوته يقرأ يوميا غالباً أكثر من عشر ساعات ولما نصحه الأطباء في الأعوام الأخيرة من عمره بالإقلال من القراءة رفض هذا قائلاً: أن الموت خير لي إذا لم أقرأ كما أريد.
وقد تحدث العميد عن جيل الشوامخ فقال: إن جيل الشوامخ أمثال لطفي السيد والزيات والعقاد والمازني وأحمد أمين هذا الجيل شقي كثيراً فأصبح جديراً بالريادة والقيادة الفكرية, أما الجيل المعاصر فإنه لا يريد أن يتعب نفسه, فهو لا يقرأ, ولذلك لن يصل هذا الجيل إلى مستوى جيل الشوامخ.
-
أن هذا العبقري الضرير كان لا يرضى عن كل كتاب كتبه, ولهذا كان لا يراجع أي مؤلف من مؤلفاته في إعادة طبعه, وهذا لون من التواضع والاعتراف بان ما كتبه محاولات, وأن أُثني عليها ثناء مستطاباً.
-
ظل العميد إلى آخر أيام حياته حريصاً على أن يكمل كتابيه( الأيام والفتنه الكبرى) وفي هذا ما يومئ إلى أن المفكر الجاد والعبقري المتميز لا يتوقف عن العطاء ولا يرى فيما قدمه أنه قد أدى رسالته, وحقق كل ما يتمناه, وأن عليه أن يواصل الجهاد الفكري ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
-
الحرص الشديد على الوقت, وعدم إنفاقه إلا فيما يجدي, ولهذا كان يضيق بالزائر الذي يطيل المكث ويضيع الوقت, وينعته بعد انصرافه بأنه ثرثار, ومع هذا كان إذا همّ مثل هذا الزائر بالانصراف شدّ العميد على يديه قائلاً: أحب أن أراك كثيراً.
-
أن طه حسين كان يتمتع منذ طفولته بعقلية ترفض أن تذوب في سواها, وتجنح إلى أن يكون لها استقلال فيما يصدر عنها, وقد سبب له هذا مشكلات متعددة وبخاصة أنه في أيام الطلبة عاش في بيئة علمية جامدة تضيق بالتطور والتجديد فكانت آراؤه ومواقفه من هذه البيئة مصدر مضايقات له, وأهمها رسوبه في امتحان الشهادة العالمية, ولم يعبأ بهذا الرسوب, فترك الأزهر ليواصل دراسته في الجامعة المصرية القديمة ليحصل منها على الدكتوراه ثم توفده هذه الجامعة للدراسة في أعرق الجامعات الغربية, فنال منها أرفع الدرجات العلمية وعاد بعد ذلك إلى وطنه ليرسي مبادئ الحرية الفكرية والسياسية ويخوض في سبيلها المعارك العديدة وقد تعرض من أجل هذا لضروب مختلفة من الأذى, فما زادته إلاّ إصراراً على مواقفه, واستمساكاً بما يدعو إليه.
إن طه حسين الذي شغل الناس في عصره هو صاحب القضايا الساخنة التي أثارت معارك أدبية وعلمية واسعة, منها الشعر الجاهلي , ومستقبل الثقافة في مصر, وشخصية وشعر المتنبي.
والذي لا ريب فيه أن العميد رأى في مناهج المستشرقين سواء الذين درس عليهم في الجامعة المصرية القديمة أو في الجامعات الفرنسية أسلوباً جديداً في البحث العلمي والدراسة الجامعية لم يألفه من قبل فتأثر في هذه المناهج ولكنه التأثير الذي لا يلغي الذاتية أو الاستقلالية فهو قد انتفع بما اطمئن إليه ونقد الاستشراق في كثير من مجالاته, ويكفي أنه كان يعد المستشرقين من أعمدة السياسة الاستعمارية, وأن كثيراً منهم كانوا موظفين في وزارتي الخارجة والمستعمرات, وأنهم قدموا لدولهم الدراسات العلمية التي تيسر لها احتلال العالم الإسلامي ونهب ثرواته, وتأخر نهضة وتقدمه.
إن ما درسه طه حسين في الأزهر وإن ضاق بمناهج الشيوخ وآرائهم كان له دوره في أن يظل طه حسين أزهرياً, يرى في التراث العربي مصدر الحيوية والتقدم للأدب العربي المعاصر, وأن إهمال دراسة هذا التراث سيرتد بتخلف النهضة الأدبية كما يؤدي إلى ضعف اللغة العربية ويتيح المجال لنمو اللغة العامية في الكتابة, وهذا ما يسعى إليه الاستشراق, حتى يقضي على التواصل الحضاري بين حاضر الأمة وماضيها, ومن ثم يسهل إخضاع الأمة للسياسة الأجنبية, وإن لم يكن في أرضها علم دخيل أو جيش احتلالي بغيض.
-
كنت ملازماً للعميد ترصد أنفاسه ونبضات قلبه, وكان يثق بك, كيف تعاملت مع المواقف المحرجة معه, حينما يغضب, ويكتئب, وينسى؟
o لقد كانت مهمتي منذ دخلت( رامتان) وهذا اسم لمنزل العميد في منطقة أهرام الجيزة مقصورة على القراءة والرد على الهاتف واستقبال الزوار وتوديعهم والقيام ببعض المهام التي تتعلق بإرسال بعض الخطابات, أو سحب بعض النقود من المصرف, وكان العميد يطمئن إلي, يرى في قراءتي له أسلوباً عربياً صحيحاً, وهذا أمر يهش له, وكنت أعرف من بعض تصرفاته عدم رغبته في مواصلة قراءة موضوع من الموضوعات, وذلك بأن يحرك رأسه يمنة ويسرة فأقول له: هل أواصل القراءة؟ فأحياناً يقول: الموضوع تافه والأسلوب ركيك, وهذا يعني عدم الرغبة في مواصلة القراءة, وأحياناً يقول: اقرأ, إنه كلام..
وكان العميد يزعجه فيما أقرأ له من الأخبار كل ما يتعلق بالحروب والمجاعات والحرائق وكان له تعليق على تصرفات اليهود بعد نكسة 1967م فقد ذكر أن اليهودي إذا انتصر في معركة تحول إلى شخص أرعن لا يقيم للحقوق الإنسانية وزناً، وإذا انهزم فإنه يصبح شخصاً ذليلاً يرضى بالدنية والهوان.
ولم يحدث أن كان العميد يغضب في الأوقات التي أجلس معه فيها، وإن كانت زوجته أحياناً تضيق منه، لأنه لا يأكل كما تريد، وهذا يزيده ضعفاً، كما كانت أيضاً تعاتبه لأنه ينفق من ماله على بعض أرحامه، وكان لا يرد على هذا إلاّ بالصمت.
وأما الاكتئاب فالرجل لم يكن في لحظة من حياته كما عرفت عنه يعيش اكتئاباً أو ضيقاً بالحياة, وإن كان ألم المرض الشديد الذي كان يحول بينه وبين حضور جلسات المجمع اللغوي يسبب له تبرماً بالعيش, ففي يوم الاثنين السابع من فبراير سنة 1972, بدا المجمع اللغوي مؤتمره الثامن والثلاثين, وكان من المقرر أن يحضر العميد جلسة الافتتاح, ولكنه لم يتمكن من الحضور لمرضه, لما ذهبت إليه وجدته نائماً في فراشه, وما كدت أجلس بجواره حتى قال: في داهية يعني أن الموت خير مما هو فيه, واستطرد: لقد جاوزت ثمانين عاما, ورحم الله زهيراً حين قال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبالك يسأم
وحاولت أن أطمئنه بأنه بخير, غير أنه قال: إن الألم في أمعائي لا يطاق، والحياة بالنسبة لي أصبحت لا معنى لها. فآثرت عدم الحديث عن مرض العميد وشرعت في قراءة الصحف. والعميد في الأعوام الثلاثة الأخيرة من عمره أصيب بحالة من النسيان, وكان هذا النسيان يسبب لي بعض الحرج، وكأن يزوره مساء بعض أصدقائه, فيتحدث معهم عما يجري من أحداث, ويذكر أن الصحف نشرت اليوم أخباراً مهمة عن بعض القضايا الأدبية أو القرارات السياسية, فيقول العميد: إن الدسوقي لم يقرأ لي هذه الأخبار, فأقول بأني قرأت الأخبار التي أشار إليها الزائر, فيقسم العميد بأني لم اقرأها, فلا أجد بداً من الصمت, مقرراً الظروف الصحية التي جعلت الرجل ينسى بصورة غير طبيعية, حتى قال يوماً وأنا أجلس بجواره: أين الدسوقي؟.. فقلت: نعم يا باشا, وهنا قال: عليه العوض لقد دنت النهاية..
-
لطه حسين رؤى خاصة بالقرآن الكريم, أين موقعك من ذلك كله؟
o إن طه حسين الذي حفظ القرآن الكريم في كُتّاب القرية كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن هذه القرآن كلام الله لفظاً ومعنى, وهو بهذا يرد على الذين يرون أن القرآن معنى من عند الله, ولفظاً من عند محمد( صلى الله عليه وسلم).
وكان في الأيام التي عرفته فيها يحب سماع القرآن تلاوة بصوت الشيخ الحصري وكنت إذا تأخرت بعض الوقت في الحضور فإني أجد المذياع مفتوحاً على إذاعة القرآن الكريم فيطلب مني أن أغلق المذياع لنبدأ القراءة وقد قال لي يوماً: إنه اشتاق جداً لسماع القرآن الكريم بعد أن أُنزل من الباخرة التي أقلته من إيطاليا إلى الاسكندرية في بعض رحلاته الصيفية, وكان العميد يرى أن ترتيب الآيات القرآنية توقيفي, وأما ترتيب السور فهو اجتهادي.
وكان للعميد فهمٌ في بعض الآيات القرآنية منها قوله تعالى:﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب﴾, فقال إن هذه الآية تتوعد اليهود على الدوام, وإنهم مهما يحققون من نصر فإن هذا النصر لن يجلب عليهم إلا الشقاء.
وكان للعميد رأي في تأويل بعض الآيات لا يسلم من الأخذ والرد, فقد كنت يوماً أقرأ له في الجزء الثالث من كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة في باب التهاني رسالة من رجل يهنئ نصرانياً قد اسلم, فقال له: الحمد لله الذي أرشد أمرك, وخص بالتوفيق عزمك, وأوضح فضيلة عقلك, ورجاحة رأيك.. الخ الرسالة..
ولاحظت في أثناء قراءة هذه الرسالة أن العميد يهمهم ببعض العبارات التي تدل على أنه غير راض على ما جاء في الرسالة, فأمسكت عن القراءة, وقلت للعميد:
ألم يكن الإسلام خاتمة الأديان؟
قال: بلى..
قلت: وهو دين عام للناس جميعاً.
قال: إن القرآن صريح في هذا.
قلت: إن هذا يعني أن الإسلام هو الدين الذي يجب أن يخضع له الناس جميعاً.
قال: الإسلام بمعناه اللغوي.
قلت: الإسلام بمعناه الاصطلاحي وليس اللغوي, وهو الدين الذي بُعث به محمد( صلى الله عليه وسلم), فاليهودي والنصراني ليسا مسلمين ولو تمسكا بتعاليم النصرانية أو اليهودية – مع فرض أن هذه التعاليم صحيحة كما بعث بها عيسى وموسى عليهما السلام – ما داما ينكران نبوة محمد( صلى الله عليه وسلم), وما جاء به من التشريعات والفرائض.
قال: إن الآية القرآنية:﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ “البقرة 62” وهي بهذا صريحة في أن المسلم والنصراني والمسيحي والصابئي إذا عمل صالحاً فلهم جزاء عند الله, وليس بلازم أن يؤمن النصراني بمحمد حتى يكون مسلماً, والمهم ألاّ يذكر محمداً والقران بسوء.
ولم أشأ أن استرسل مع العميد في الجدل, وكانت مهمتي القراءة لا النقاش, وكنت أغتنم بعض اللحظات لأسال عن بعض الأشياء دون أن يطغى سؤالي على مهمتي, حتى لا يضيق العميد بي, أو يتهمني بأنني أضيع الوقت كما كان يتهم غيري.
والآية التي استدل بها العميد ليست كما فهمها, وقد جاءت في معرض الحديث عن اليهود وزعمهم بأنهم وحدهم الناجون والمؤمنون, وقد رد عليهم القرآن أن حال المسلمين, ومن قبلهم من الملل الأخرى يرجع إلى أمر واحد الإيمان والعمل الصالح, فليس اليهود – كما يدعون – هم أهل الفضل, وإنما فضل الله يسبغه على عبادة المؤمنين الصالحين.
وليس في هذا المعنى اعتراف أو شاهد بأن غير المسلمين بعد الإسلام ناجون ولو لم يؤمنوا به ما دام قد بلغهم, لأن الإيمان بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم أنه لا معنى لعالمية الإسلام وأنه جاء للناس كافة إذا كان غير المؤمنون به ناجين, ولو كانوا يعبدون الله طوعاً لما جاءهم به بعض الأنبياء السابقين.
-
افترقت عنه قبل أن يتوفى بسنة, فهل كان ذلك بسبب اختلاف فكري أم ماذا؟
o في الثامن من شهر مارس 1972م كانت مناقشة رسالتي للدكتوراه في الشريعة, ومن ثم لم أذهب إلى العميد مساء, وفي صباح اليوم التالي هنأني تهنئة حارة, وقال: لقد تساوينا فقد أصبحت دكتوراًً, فقلت: عفواً يا سيدي أين الثرى من الثريا.
وشكرت العميد على عطفه ومجاملته وأكبرت فيه هذه الروح الإنسانية, وهذا التواضع الكريم.
وقد حدثني العميد قبل سفره إلى ايطاليا في صيف هذا العام بأنه يرغب في قراءة بعض أجزاء من تاريخ الطبري من أجل كتابة الجزء الثالث من الفتنة الكبرى, وكنت قد قرأت له شرح نهج البلاغة لهذا الغرض أيضاً, واتفق معي العميد على أن تكون هذه القراءة بعد عودته من رحلته, غير أني لم ألقَ العميد منذ ودعته يوم سفره في شهر يونيه سنة 1972م إلى أن لقي وجه ربه, فقد أُعرت للتدريس بالجامعة الليبية ابتداء من سبتمبر سنة 1972م, وكتبت لأستاذي الدكتور إبراهيم مدكور من مدينة طرابلس بعد تسلمي عملي بهذه الجامعة رسالة شكر وتحية فكتب إليّ الرسالة التالية:
الأستاذ الدكتور محمد الدسوقي
شكراً خالصاً على خطابكم الرقيق, ورجاء أن تكونوا بخير وعافية ويسعدني دائماً أن أقرأكم, وأن أقف على أخباركم, ولا يساورني شك في أنكم ستؤدون رسالتكم على خير وجه, وستكونون أصدق سفير إلى قطر الشقيق.
لم يعد الدكتور طه حسين من رحلته بعد, وأقدر أنه سيحس بغيابكم ولست أدري أن كنا سنجد السبيل في يسر إلى سد حاجته.
مدكور
9\9\1972م
وكتبت للعميد مهنئاً بسلامة عودته من رحلته, ومعتذراً إليه لأن الظروف ألجأتني إلى أن أسافر مع ما أكنه من الحب العميق والإجلال الصادق ومع اعترافي بأني تعلمت منه في تلك الأيام التي سعدت فيها بلقائه الكثير, ثم أبرقت إليه مهنئاً بيوم مولوده, ولكني لم أتلقَ على الرسالة أو البرقية رداً, وأيقنت أن الرجل يقاسي من المرض والشيخوخة, وأن حالة النسيان التي طرأت عليه قبل وفاته بنحو ثلاثة أعوام قد اشتدت وطأتها.
وبعثت إلى أستاذي الدكتور إبراهيم مدكور برسالة أهنئه فيها بعيد الفطر, ومعبراً عن أطيب تمنياتي للأسرة المجمعية ورئيسها عميد الأدب العربي, وقد تفضل فأرسل إلي رسالة ذكر فيها أن العميد يقاسي آلام الشيخوخة في صبر وجلد ويقاومها ما استطاع, ويتيح لأصدقائه فرصة لقائه من حين لآخر.
وما كتبه الدكتور إبراهيم مدكور رحمه الله في هاتين الرسالتين يتضمن شهادة أعتز بها كل الاعتزاز عن علاقتي بالعميد..
وزبدة القول إني لم أترك العميد في العام الأخير من عمره لخلاف فكري وإنما اقتضت ظروف عملي في الجامعة أن أسافر, وكنت أتمنى أن أظل بجانبه وأنا أقرأ له ما رغب في قراءته ليكمل كتاب الفتنة الكبرى, ولكنها مشيئة الله ولا مرد لمشيئته سبحانه.
ختاما,.
رحم الله عميد الأدب العربي, فقد كان قامة كبيرة في فضاء الثقافة العربية والإنسانية على الرغم من كل ما أثير حوله من شكوك وريب, وفي يقيني أن المثقف المدهش هو الذي يشغل الناس ويثير أسئلتهم, فقد قرأ المرحوم التراث العربي والإنساني قراءة معمقة وكانت له نظرات نافذة فيه, وقرأ واقع الأمة قراءة فاحصة، واجتهد، ولم يكن بين الذين تقدموا قاعداً أو محبطاً أو عادياً, وأبدع وكان بين المبدعين علماً..
ومهما قيل عن آرائه وفكره ووجهات نظره فسيظل طه حسين ذلك المفكر العربي الذي ساهم في رفع سوية مناهج الفكر, والتأسيس الشجاع للجرأة النادرة في مواجهة الأزمات والقضايا الفكرية العريقة.
يأتي اللقاء مع الدكتور الدسوقي وهو الرفيق المنصف والعلامة الموثوق به معززاً للرصيد الكبير لعميد الأدب العربي في نفوس وعقول مفكري وأدباء ومثقفي الأمة.. ومهما يكن اختلافنا مع العميد – رحمه الله – فسيظل اختلافاً في الرأي وفق المنهج الذي رسخه فينا لمواجهة كافة الأزمات التي تعترضنا في الحياة.
-
ملاحظة: نشرت الحوار في مجلة أفكار، وزارة الثقافة، العدد 205، سنة 2005، ص116