حفل الاستقبال – قصّة لعدي مدانات

  (ثقافات)

ــ  ردّ لم يطُل انتظاره ـــ

لأنه سيبقى شريك الحلم والقص والكلمة، كما هو معي في كلّ تفاصيل عيشي،  ولأن المرض وتعب العيش بأسبابهما  ومسبّباتهما، لم يأخذا منه إلا ذاك الجسد الذي بدأ يضعف، ولأنها صفة لم تعرفها نفسه أبدا، حتى في اشتداد قسوة مرض خبيث لم يسمح له أن يكون سببا مباشرا لرحيله قبل ست سنوات؛ ولأنه أبقى تلك النفس المقاومة في إرث متعدّد على دروب حياته الصعبة وعلى امتداد عيشه منذ امتلك قراره في سن مبكرة، ولأن روحه لا تزال تطوّف في الأمكنة الخاصة والعامة، ولأنه لا يزال يراني ويرعاني بروحانية متواصلة مع وجدانية حديثي إليه، ولأنني لا أزال أسأله الرأي والتقييم لكل المسائل المتعلقة بطلب النصح والمشورة، أسأله قبل أيام إذا ما كانت إعادة صلتي بالقصة القصيرة عن طريق الترجمة تبهج روحه كما كانت تفعل،  بالرغم من أنها لن تكون تعويضية لما كان يرفدني به ويوكل إليّ في كتاباته كقارئة أولى.

  ولأن في الغياب الجسدي امتهان للصمت البشري إلاّ ما تستطيع تقديره بقدر معرفتك والتصاقك بصاحبه، وما تتخيله من ردّة فعل لن توضحها لك إلا روح ذاك الصاحب المتناغمة مع روحك، يبتسم شريكي تلك الابتسامة الآسرة النابعة من عمق قلب أبقاه معي ليضيء عيشي من بعده، فأحببت موافقته للتذكير بقصة أراد تسميتها ” غبطة  ” قبل استبدال اسمها ، لأبدأ بها عامي الجديد، كردّ على إنهائي عامي المنصرم بقصة ” غبطة يوم”..  وها أنا أعود إليها ….

  إفلين الأطرش

                        

        ” حفل الاستقبال” *

          عدي مدانات

 

    طرأ على حياة الزوجين “س” و “ع” الكامدة المهملة ما يسترعي الانتباه، فقد مكثا صبيحة يوم الجمعة في السرير، مفتحي العينين، مندهشين ومغتبطين في آن واحد، ولم يغادر أي منهما السرير أو يستعجل فنجان القهوة، فلدى كلّ منهما على حدة ما يدفعه للتلبّث في السرير واستعادة  وقائع الليلة الماضية.

 كان ما حصل في تلك الليلة حدثا خارقا للعادة في حياتهما البليدة المتقشّفة. فبعد خمسة عشر عاما من الزواج المتكافئ والجهد المثمر، انساقا خلالها مرغمين إلى نمط من العيش كامد وشديد الاتزان، اكتسبت حياتهما خلالها طابعها النمطي العصيّ على التغيير، وما حدث أبدا أن اختبرا أسلوبا آخر في العيش أو خرجا عن المألوف. كانت الوقائع ذاتها تتكرّر على مدى الأيام دون أدنى شكوى، فلقد تقبّلا حياتهما على أنها استقرّت على هذا النحو، ولم يبقَ إلاّ متابعة العيش وتربية الأولاد.

   أما ما حدث ليلة الخميس فأمر ما كان في الحسبان، فقد حدث في الصباح ان مدير عام الشركة استدعى الزوج وأخبره أنه يقيم حفل استقبال للضيف الأجنبي، ثمّ قال له:  “حبّذا لو اصطحبت زوجتك الساعة الثامنة”.

  ما كان  قد حظي من قبل بدعوة مثل هذه، وما سبق أن خالط قوماً مثل قوم المدير، فقد كان لا يبرح مكتبه ولا يتّصل بغيره اتصالاً يثنيه عن إنجاز عمله، ولا يتلبّث في مكاتب الشركة بعد انتهاء الدوام. كان العمل يستغرقه طوال ساعات الدوام، ومن ثمّ تأتي الواجبات المنزلية، فهو الذي يشتري حاجيات المنزل وهو الذي يذهب بالأولاد إلى المدارس ويعود بهم، ثمّ يجد متسعا في المساء لمشاهدة التلفاز. إنه يكره أن يفوته تسلسل الأحداث ولهذا لا يبارح المنزل ليلا إلا مضطرا، وحتى حين يكون في زيارة قريب فإنه يتجاهل واجبات الضيافة وينصرف إلى مشاهدة المسلسل ولا ينسى أن يسأل عمّا فاته.

 اضطرب كثيرا بسبب هذه الدعوة التي قد تسبّب له حرجا لا مبرّر له، ومع ذلك ما كان له أن يرفض الدعوة، فهي تكليف من المدير ولا يملك رفضه، ثمّ أنه الشخص الذي كُلِّف بمرافقة الضيف وزوجته من أجل مشاهدة معالم مدينة عمان . ولهذا السبب وحده وليس لغيره  اختاره المدير العام وقرّر دعوته.

 قضى نصف النهار واجما، وفي الظهيرة اجتمع إلى زوجته وأنهى إليها النبأ، وتفاجأ بأنّها سُرّت كثيراً على الرغم من جهلها بمثل هذا الحفل، غير أنه بعد نقاش مستفيض وافق على تلبية الدعوة وإن لم يزايله الاضطراب.

  انهمكت الزوجة في استصلاح زيّ داكن لزوجها، فنظّفته من البقع وكوته، ثمّ بزهو أخرجت رداءها المزركش السابغ الذي ادّخرت للمناسبات، وما كان بحاجة إلاّ لقليل من الكيّ.

  انتهيا من تهيئة نفسيهما الساعة الثامنة إلا خمس عشرة دقيقة، فودّعا أبناءهما واستقلّا السيارة إلى منزل المدير العام.

 كان الزوج يشعر بشيء من الرهبة، فأبطأ السير، غير أن الزوجة التي كانت لا تتقبّل السرعة عادة، حثّته على الإسراع، فما كانت تحبّ أن تخسر لحظة واحدة من الحفل الذي لا بدّ أن يكون على قدر كبير من التشويق.

 بلغا المنزل الساعة الثامنة وخمس دقائق. في الداخل كان الحفل يعجّ بالناس الذين توزّعوا صالة واسعة الأرجاء ساطعة الأضواء. تلقّى الزوجان ترحيبا طيبا من المدير وزوجته مما خفّف من شعورهما بالغربة. غير أنهما تلبّثا في مكانيهما حائرين حين اكتشفا أن أحدا لا يبالي بدعوتهما للجلوس. كان الجميع يقفون أُضمومات  صغيرة مبعثرة. راقبا مغموميْن ما يجري وما عرفا ماذا يتوجّب عليهما أن يفعلا. لاحظت الزوجة رَبكة زوجها، فازدادت غمّا وتمنّت لو أنهما يستطيعان المغادرة الآن.

  غير أن الزوج لمح الضيف، فأشار له بيده مُحيّيا ثمّ ما لبث أن اتجه نحوه ووقف يجاذبه الحديث، تاركا زوجته وحدها تعاني حرجا أكثر.

  أشغلت نفسها بتأمّل ملابس النساء وتعجّبت لبساطة مظهرهن وما عرفت إن كان ارتداء الثوب المزركش السابغ، حَسنة انفردت بها أم سوء اختيار.

  سرّها أن لاحظت أنّ الجمع المتحلّق حول الضيف قد انفضّ وأنه انفرد بزوجها وتجاذب معه الحديث، فلحقت به فورا ووقفت إلى جانبه. قدّمها للضيف وزوجته، فسرى في داخلها شعور مريح ووجدت أنها قادرة على استعمال ما في حافظتها من مفردات اللغة الإنكليزية.

  كان النوادل يمرّون بها، فلم تتجشّم عناء تناول عصير أو قطعة من الطعام الوفير، ولكنها ما أن فعلت ذلك للمرة الأولى، تلبية لعرض من أحد هؤلاء، حتى اعتادت الأمر واستساغته، ثمّ وجّهت النادل نحو زوجها لتلهمه فعل الشيء نفسه، وحين لاحظت أن زوجها تناول كأس بيرة، شاعت في نفسها طمأنينة لأن مشاركتهما في حفل الاستقبال أخذت طابعها التلقائي والمثمر.

  غير أنّ الحال لا يستمرّ على ما هو عليه في حفل الاستقبال، فالأشخاص يتحرّكون ويبدّلون أماكنهم مما فصل بين الزوج والزوجة، ولم يعرف أحدهما عن الآخر شيئا طوال فترة من الوقت. وحين التقيا رأى كلّ منهما وميضاً في عيني الآخر فاطمأنا لحسن سير الأمور ولم يسأل أي منهما الآخر عن سرّ هذا الوميض.

  انتهى الحفل الساعة العاشرة وسارع الضيوف إلى الوداع والانصراف، أما هما فقد وقفا مخذولين ينظران إلى الحفل الذي انقضى قبل أن تكتمل غبطتهما.

  وفيما كانا يهمّان بمصافحة المدير والمغادرة، اقترب أحد كبار الموظفين في الشركة وصافح الزوج ثم الزوجة :

  ـ لا تنسيْ ما قلت.

فاكتفت بالابتسام ولم تعلّق.

   بعد طول استرخاء في الفراش التفت الزوج إلى زوجته ولاحظ أن الغبطة التي تنعم بها أظهرت جمالها، وأنها الآن أجمل من أيّ وقت مضى، فسألها بحذر عمّا قاله الرجل. اتسعت ابتسامتها وبعد صمت قالت:

ـــ أتعرف أنني جميلة؟

  ابتسم لأن هذا ما فكّر به.

 رفعت جذعها ودفعت شعرها إلى الوراء في حركة سهلة مغناجة ثمّ قالت :

 ـــ هذا ما قاله الرجل. وقال إنه عرف السبب الذي من أجله تخفيني عن أعين الناس.

  تأملها وكأنه يكتشف فيها الآن جمالا ثرّا لم يلحظه من قبل، ثمّ سألها :

 ــ بماذا أجبته؟

قالت :

 ـــ كدت أقول له إنك لست ملاما في هذا، وإن العناية بأربعة أبناء لا تتيح المجال لنا للخروج، ولكنه انصرف عني ليتحدّث إلى شخص آخر.

  أغمض عينيه مرتاحا لأن الأمر انتهى عند هذا الحد، ولم يخبرها بسبب غبطته هو، فليس ثمّة شيء معيّن. لا شيء على وجه الخصوص، فقد كان حتى هذه اللحظة يستعرض وقائع الحفل الذي انتهى بدون هنات تذكر والذي أسلاه ليلة عن التلفاز.

 التفت إلى زوجته المضاءة بالبهجة وتغافل عن ضجيج الأولاد وعانقها.

                         *****************************

  • “حفل الاستقبال” إحدى قصص المجموعة  الثالثة  “شوارع الروح” الصادرة عن أمانة عمان الكبرى العام 2003.

وعلى غلافها الأخير يكتب الأستاذ الدكتور ” سليمان الأزرعي” معرّفا  بالمجموعة دون معرفة اسم كاتبها :

” تتكون هذه المجموعة من عدد من القصص القصيرة التي تؤكد بما لا يقبل الشك قدرة صاحبها وحرفيته في مجال كتابة القصة، كما أنها تعكس تجربة موحدة بالنسبة لصاحبها. فهي تسير بإيقاع يعكس شخصية الكاتب الإبداعية، ومزاجه الثقافي، وموقفه الاجتماعي ورؤيته  الخاصة لفن القصة، هذا ما يميز المجموعة ويؤكد وحدتها كعمل إبداعي.

   موضوعات المجموعة طريفة، إذ يبدو الموضوع غير قادر على تشكيل مادة للوهلة الأولى، ولكنه ومع تكشف الأبعاد الإنسانية للقطة القصة يصبح الأمر أكثر من مقنع. وهنا موطن الطرافة في الأمر. فالكثير من المواقف ربما تبدو لنا طبيعية لكثرة ما يحف بحياتنا المشوهة من غرائبية، ولكنها باتت تبدو لنا طبيعية وغير مستهجنة، إلى أن يأتي الإبداع للكشف في عمق السلوك البشري للإنسان، وهو يسعى للتعبير عن حاجاته وغرائزه وأحلامه وطموحاته، وضيقه بكل العوامل المناهضة لإنسانية الإنسان.

 تكشف بعض الأعمال القصصية في هذه المجموعة عن نَفَس روائي يمكن البرهنة عليه نقديا من خلال الإيقاع الداخلي للعمل القصصي، كما تتجلّى في العديد من أعمال المجموعة جدلية الشخوص بالمكان بشكل عميق، وتكشف عن العلاقة الحميمية ما بين النماذج البشرية و (أمكنتها) المدخرة في ذاكرة الطفولة.

         د. سليمان الأزرعي.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *