بين كيليطو والليالي…قراءة في كتاب الأدب والارتياب

(ثقافات)

بين كيليطو والليالي…قراءة في كتاب الأدب والارتياب

 

د.العالية ماء العينين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عندما أقرأ للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو قوله:” الكتابة عن نص أو كتاب مسألة حب أولا..” أدرك حتما أن القراءة أيضا كذلك، بمعنى أن ما كُتب عن حب لا يمكن إلا أن يُقرأ بحب ولهفة. قد لا يعني ذلك الإيمان بكل ما تحويه هذه الكتابة ولكنها الدهشة، التي تخلقها فينا كتابة عاشقة صادقة وعميقة…

هذا بعض مما يفسر لهفة قراء كيليطو، ومتتبعي مقاماته ولياليه على كل جديد يصدر له، فهم يعرفون حتما أنهم سيجالسون الجاحظ وابن المفقع وابن حزم وشهرزاد، ولكنهم يستعدون أيضا لإضافة كشف جديد ومثير إلى ذاكرتهم التي يعمل كيليطو بين الفينة والأخرى على الضغط على أزرار تحيينها.

“الأدب والارتياب” آخر فتوحات كيليطو التي ننقاد إليها كعادتنا، وراء قراءاته المدهشة/الماكرة كعادته. وقد قررت مع سبق الإصرار، القيام بجولة خفيفة، لترصد علاقة الكاتب /الساحر، بالكتاب/ السحري، الف ليلة وليلة..

سأتجاوز بخلاء الجاحظ، وكليلة بيدبا، وطوق ابن حزم، ويوميات ابن رشد، لأحط الرحال على العتبة السابعة من النصوص التي ضمها هذا الكتاب وهي: “الليالي، كتاب ممل؟ “

وعلى خطى هذا التساؤل الذي قد يحمل في طياته استنكارا، أطرح سؤالا يلح على فكري، عن مدى ما وصلته علاقة كاتبنا بكتاب” ألف ليلة وليلة “؟

يَفترض عبد الفتاح كيليطو، أن الليالي هو أول عمل قام بقراءته، وهذا يعني أنه أول عمل (فكري) افتتح به عالم طفولته أو عبر به إلى عوالم الحكي وربما أحبَّه، لكن الأكيد أنه الكتاب الوحيد الذي أعاد قراءته.

يقول:” بعد ثلاثين سنة أعدت قراءة الليالي أو بالأحرى قرأتها، بيد أني لم أعد قراءة عنترة (ولن أفعل ذلك أبدا على الأرجح) لم هذا الامتياز المخول لألف ليلة؟”(1). وفي تفسيره لذلك، يرجع كيليطو السبب، إلى قراءاته في الأدب الأوروبي وخصوصا بروست. لكن هل هذا كل ما في الأمر؟ ثم، هل كل من قرأ الليالي صغيرا أحب فعلا أن يعود لقراءتها؟ وهل قرأ كل الصغار ألف ليلة وليلة؟

بالرجوع إلى كتابه الأخير “في الأدب والارتياب”، الذي يشتمل على عشر مقالات أو قراءات في جوانب مختلفة من تراثنا العربي، سنجد خمسة منها تشير إلى ألف ليلة وليلة بشكل مباشر في مقالتيه:

(هل الليالي كتاب ممل؟) و (في كل سنة كذبة).

وفي الثلاث الباقيات، يأتي ذكرها على شكل إشارات:

(النموذج) و (الاغتراب) و (المتطفل حي بن يقظان).

بالنسبة لكتاباته الأخرى، فبالإضافة إلى “العين والإبرة”، والذي هو بالأساس، دراسة في ألف ليلة وليلة، فإن ما بقي منها والمتعلق بدراسات متنوعة حول السرد العربي، لا يخلو من الاستشهاد أو الاتكاء على الليالي كمؤسس أو شارح لمكونات وخصوصيات السرد في التراث العربي. وغالبا ما يسجل حضورها بشكل (عفوي) وكأنه من منطق الأشياء.

في حديثه عن حي بن يقظان وكيف شرع في تعلم الكلام بعد أن ناوله الفيلسوف آسال الطعام يقول: “مرة أخرى نتحقق من العلاقة بين الطعام والكلام (في ألف ليلة وليلة كثيرا ما يأتي الأكل قبل سرد الحكايات أو إنشاد الأشعار) فشرع آسال في….”(2)، ويستمر في الحديث حتى لكأن الجملة الاعتراضية منصهرة في الموضوع انصهارا. وفي مكان آخر، يتحدث عن مقامة الحريري وعلاقة الليل والسمار بالحكي، يقول: ” ولا أدل على ذلك من كون شهرزاد تتحدث بالليل وتسكت عن الكلام المباح عندما يلوح الصباح…” (3)

ألف ليلة وليلة، كتاب سحري، وهو رغم تجاهله من الأدب أو السرد العربي خصوصا، إلا أنه توّْج من الآخر /الغرب رمزا للشرق وعوالمه الساحرة وفرض نفسه. “بفضل الأوروبيين اكتشف العرب فجأة ذات يوم أنهم يملكون كنزا كانوا يجهلون قيمته “،(4) وهو حسب كيليطو، كتاب يحمل في ذاته فتنتَه وقدرتَه على الغواية. يقول: “كتاب ألف ليلة وليلة واحد من الكتب التي تصاحب القارئ طوال حياته، يقرأه طفلا ثم يافعا وبالغا ويؤثر فيه عميقــا وإليه يعود دائما”، (5) ولهذا الافتتان أسبابه الخاصة بتجربة الكاتب شخصيا.

العالية ماء العينين

السبب الأول والابتدائي يتجلى في كونه ليس كتابا مدرسيا، ذلك أن الكتب المقررة في التعليم غالبا ما تخلق لدينا حالة عداء اتجاهها وهو في الحقيقة عداء للنظام التعليمي الصارم وما يحيط به. “كانت على أي حال هذه تجربتي” (6)

وهو ثانيا، كتاب بعيد عن الكلاسيكيات القديمة، وساحر ببساطته التي لا نحتاج معها لوساطة شارح كأمهات وأساطين الأدب العربي الأخرى. وهو ثالثا، كتاب سحري يستمد غوايته من كونه ممنوعا/محظورا”. هذا الخطر المعلن عنه في حق الليالي هو إشادة غير مقصودة بها، واعتراف بسلطتها.” (7) هذه الغواية تصل مداها، حين يتغلب القارئ المفتون على خوفه، من كتاب أعتبر قاتلا، رغم أن كيليطو لا يتوانى عن طمأنته: “إنه لن يموت بسبب الليالي لكونه لن يتمكن حتى وإن رغب في ذلك من إتمام هذا الكتاب المتشظي.” ( فهو كتاب لا نهائي وكأننا بشهرزاد، لا تتوقف عن الحكي إلا لتعود إليه. الليالي حاضرة في كتابات كيليطو كنصوص للقراءة واستشهادات، ولكن هل توقف الكتاب السحري عند هذا الحد؟

يخيل إلي أن كيليطو و شهرزاد تقاطعا أحيانا. إن المتابع لكتابات كيليطو يشعر أنها نصوص مفتوحة بدون نهايات، وتعد دائما بالقادم وكأننا به ـ ومع نهاية كل عمل، لا يختم، بل يتوقف عن الكلام المباح في انتظار صباح جديد.

مع كيليطو اكتشفنا جوانب أخرى مدهشة من حيوات وسير وكتابات الجاحظ، ابن المقفع، أبي العلاء، المعري، الزمخشري، ابن رشد…، واخترقنا عوالم الليالي واللزوميات، وصادفنا كتبا ساحرة وأخرى غريقة وغيرها، لكنها كتابات تعد دائما بأن الآتي أكثر إدهاشا. لذلك، فنحن دائما في الانتظار، وهي حالة نادرا ما تنتابنا، خصوصا مع النقاد، فقد نقرأ عملا نعجب به ونستفيد منه، ويتوقف الأمر عند هذا الحد.

يقول الغيطاني: “انتظر صدور كتاب جديد للناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، كما أنتظر صدور عمل إبداعي، أعني رواية رائعة أو ديوان شعر، تؤكد أعماله أن النقد إبداع ويثير المتعة الفنية إلى جانب تنوير النصوص وشرحها، وهذا مفهوم جديد للنقد لم نعرف مثيلا له في المشرق إلا في حدود ضيقة”. (9) ولذلك يمكن القول إنه سيظل هناك دائما نص آخر لكيليطو قابلا للكشف والقراءة. (10)

في مستوى آخر من هذه الرابطة الخفية بين كاتبنا والليالي نلاحظ تقاطعا على مستوى مسار الحكي أو السرد، ففي الليالي ومن واقع قراءتنا، نلاحظ أن العنوان الذي تسوقه شهرزاد، والذي يعتبر المحرض الأول لدفع شهريار لطلب الحكاية يفقد معناه أو يلتبس. فهو يعد بحكاية والحقيقة أننا سنستمع لحكايات في واحدة، ومع كيليطو، نلاحظ هذه العلاقة المتشظية والمفتوحة بين العناوين والمضمون. فإذا كانت تلك العتبات تعد بالكثير، إلا أنها تبقى فضفاضة ولا يمكن أن تنبئك عن حقيقة ما ستكتشفه فعليا مع القراءة. ومع أكثر العناوين دقة لا يخلو الأمر من مفاجآت. فكما تقف شهرزاد في منتصف الحكاية لتبدأ حكاية أخرى أو اثنتان، على أن تعود لإتمام الأولى، يسبح بنا كيليطو داخل التراث حتى نكاد ننسى أنَّى بدأنا الحكاية، ليعود بنا قبل أن يدركه الصباح على أمل / وعد، بحكاية أخرى.

هناك سؤال أخر يطرح نفسه، عن مدى تأثير هذا التراث السردي الذي صاحبه طويلا على كتاباته السردية، وأعني بالتحديد نصوصه التي ضمنها كتابه: “حصان نيتشه”…؟

بما أن مخاض الكتابة عندي عسير، فلم لا أجرب تميمة شهرزاد وأسكت عن الكلام المباح، فقد أجيب عن هذا التساؤل ذات مساء قبل أن يداهمني الصباح……

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتاب ” الأدب والارتياب” دار توبقال للنشر ط2 _ 2013
1)الأدب والارتياب- ص 50
(2)لسان آدم -ص13
(3)الغائب دراسة في مقامة الحريري- ص 11…
(4)الأدب والارتياب- ص 53
(5) لسان آدم- ص81
(6)لسان آدم- ص
(7)العين والإبرة- ص 10
(8)العين والإبرة- ص10
(9)بستان الأدب عن الكاتب المغربي الكبير عبد الفتاح كيليطو: “موقع الذبابة
addoubaba ”
(10) التعبير لكيليطو يقول:” سيظل هناك أبدا نص آخر من الليالي قابل للكشف والقراءة” العين والإبرة ص10

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *