fbthdr

حديث لم يكتمل

(ثقافات)

 

حديث لم يكتمل

 (قصة قصيرة)

*محمد فتحي المقداد

عيناي لم تَبْرحَا قَسَمات وجهه المُشرق اِبتهاجًا، بينما عيناه مُركّزتان في ملامحي، لم يتأكَّد من ضَجَري، لعدم إفساحه المجال لمشاركته حديثًا طالما اِشْتقتُ للإدلاء برأيي. اِنْهماكُه باستخراج مشاعره ونثرها أمامي.

اِسْتغرقني حديثه حول العبثيَّة وتطبيقاتها الأدبيّة. بعد أن أخبرني عن مكالمة النَّاقد الهاتفيّة معه، وعلى مدار ساعة كاملة. قال:

-“إنّه استأذنني بمحادثة طويلة، بعد أن اِسْتأنسَ رصيد هاتفي الذي يسمحُ بإجراء المكالمة دون اِنْقطاع”.

لم تتأثر جلستنا بأغنية طويلة لــ “أم كلثوم” كأنّها نهبَت عُمْرًا منّا، ولا بضجيج المارّة العابرين من أمامنا، غير عابئين بنا، ولا بأيِّ شيءٍ نتكلَّم به أو عنه. لا شكَّ بأنَّ مُعظمهم في عوالم بعيدة عن واقعنا، وإذا انتبه أحدهم لنا بِقَرفٍ ولا مُبالاة لعلَّه يقول، في أحسن تقييم لنا:

-“كلام عواجيز” .

ضجيج مُحرِّك سيَّارة النَّقل الصَّغيرة الصَّاعدة مع تصاعُد الشَّارع القاسي، مُثقلةٍ بحملها بِكَوْمة جَزَرٍ مع خُضار أخرى تعلو فوق شبكها الحديديِّ الأبيض، لوّحتْ  نظري بتعدُّد ألوانها. صراحةً لم أعرف، لماذا سيْطر على ذهني اللَّوْن البُرتقاليُّ، رغم فارق الشَّكل والطّعم بيْن فاكِهتيْ الجَزَر والبُرتقال. تسيرُ ببطء مُخلِّفة وراءها خطًّا من الدُّخان الأسود من فُتحة عادمها. اِقْتحمتنا رائحة الدّيزل بِفَجاجَة.  صديقي الكاتب مُستنكِرًا:

-“ما هذا العَبَث البيئيّ المُحرَّم دُوليًّا؟”.

على الجانب الآخر من الشَّارع مرَّت شاحنة عابرة مُخصَّصة لحمل السيَّارات المُتعطّلة في ظروف الأحوال الجويّة القلقة بالبرد والمطر، وهَبُوب الهواء البارد يلفحُ الوجوه، ويتلاعب بأشجار جزيرة وَسَط الشّارع؛ يُخلخلها كأنَّما لا يُطيقُ وجودها واقفة في وجهه.

شخصٌ يركب داخل كابينة السيَّارة الحمراء المحمولة، يضعُ سمّاعات هاتفه النّقّال في أذنيْه، نظر نحوي بينما اِنْطلقت ضحكته. ظننتُ أنّه مُصابٌ بعدوى عبثيّة صديقي الغارق أمامي بحديثه المُستمرِّ.

بشكل مُفاجئ دخلت من أمامنا سيَّارة الدّفاع المدني؛ فقطعت مشهد السيَّارة المحمولة، اِخْتلطتِ الأمور حدَّ التشابُك في ذهني، تخيّلتُ ذاك المُخرِج السينمائيّ عندما يُصدِر أوامره الصَّارمة، بتشغيل صافرة إنذار الخطر في سيّارة الإسعاف، ومؤكِّدًا للمرَّة الثَّالثة على السَّائق بتشغيل الأضواء الزرقاء والحمراء بآنٍ واحدٍ مع صَوْت الإنذار؛ لإعطاء مِصْداقيَّة للمشهد بمقاربة الحقيقة، ولكي لا يغفل سائقو السيَّارات عن اِلْتزام اليمين، ولإفساح المجال بأن يصل المريض إلى المشفى بالسُّرعة القُصوى، ربَّما يستطيعون إنقاذه، وتُكتَب له حياة جديدة.

ما زلتُ أسمعُ لحديث صديقي بنفس الموضوع، لكنَّه تحوَّل إلى عنوان مُهمٍّ:

-“جماليّة العبثيّة في الكتابة الأدبيّة”.

هدوء على غير العادة مُفاجئ؛ توقّف عبور السيّارات للحظات؛ أشار صديقي من جديد مُشيرًا:

-“الإشارة الضَوْئِيَّة حمراء الآن”.

* أديب سوري مقيم في الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *