صلاح فضل: شيء من الذكريات

(ثقافات)

صلاح فضل: شيء من الذكريات

أحمد الشهاوي

1-

قبل ثلاثين عاما التقيتُ صلاح فضل أوَّل مرة ، وكان وقتها في الخمسين من عمره ، وكنتُ في السابعة والعشرين ، رأيته في الإذاعة المصرية ، إذ جاء ملبيًّا دعوة واختيار الإذاعية المصرية نجوى وهبي ، التي كانت تعدُّ وتقدم برنامج ( كتابات جديدة ) على موجة البرنامج الثاني ( البرنامج الثقافي الآن ) ؛ وكان برنامجًا مهمًّا وشهيرًا وقتذاك ، يتناول الأعمال الإبداعية الجديدة ؛ لمناقشة كتابي الشعري الأول ” ركعتان للعشق ” الذي صدر في سنة 1988 ميلادية .

ويومها دلَّني عليَّ ، وفتح لي طريقي ،وبحدسِه أمسك يميني وقال لي : هذا معراجك فطِرْ ، وبتجرُّده قال مُحذرًا : إياك والصحافة التي تعمل بها ؛ فهي تحرق وتلتهم دون رحمةٍ ، وتُفسِد الذوقَ الشعريَّ وتسطِّحه ، وتسيِّد نموذجًا شعريًّا ما لايشبهك ، ليس هو خطُّك أو اتجاهك ، انشغل بذاتك وكُن نفسك ، ولا تسافر إلا فيك ، واشتغلْ على تصوُّفك واعلُ معه ، ووظِّف ما تعرف من تراثٍ شعري ونثريٍّ وصوفيٍّ ؛ لأنه سينجِّيك من ذلل المُحاكاة والتقليد ، ويبعدك عن أسْرِ النموذج الغربي الذي انتهجه كثيرون قبلك ومعك .

كان درسه النقديُّ المبكِّرُ لشاعرٍ لا يعرفه ( سأكون جارًا له في المعادي بعد لقائنا الأول بأشهرٍ دون أن أدري أين كان يسكن ، وستتعدَّد وتتكرَّر لقاءاتنا وأسفارنا معًا ، ونصير صديقين ، أسرُّ له ، ويسرُّ لي ) ، ويبدأ طريقه الأوَّل ، درسًا مهمًّا لي ، إذ لم تكن نصائح أو وصايا من أستاذ أكاديميٍّ قادمٍ من إسبانيا ( حيث دراسته ) ، بل كانت كشفًا للرؤية ، وحدسًا بما هو آتٍ ، شرط الاهتمام بالتكوين الثقافي والمعرفي ، من دون التعويل على ما هو عرفاني وحدسي وفطري فقط ، مبتعدًا عن الهُتاف والمباشرة .

كان درس صلاح فضل النقدي هو الأول لي في حياتي الشعرية ؛ ولذا أعتزُّ به ، ولا يغيبُ عنِّي أبدًا ، ودائمًا ما أردِّده وأعيدُه ، كأنني أذكِّر نفسي به ؛ كي لا أحيدَ عن المسار الذي رأيتُ نفسي فيه .

ابتعد صلاح فضل معي عن اليقين ، كأنه يمنحني بردة الشكِّ ، والسؤال ، والجدل ، ويبتعد بي عن الحتم الأكاديميِّ الذي لا يتواءمُ مع فوضى الشاعر غير المرتبة ، وجنونه المحبَّب ، ونزواته مع اللغة والتشكيل .

لا شك أن هناك مشتركًا بيننا ، على الرغم من تباينات العُمر ، والتكوين الثقافي والفكري والمعرفي ، و لعلَّ التربيةَ الأزهريةَ ، والاستفادةَ من النصِّ الدينيِّ ، ومعه النص التراثي شعرًا ونثرًا ، قد قرَّب بيني وبين صلاح فضل ، الذي كان عونًا معرفيًّا لي مع محمد عبد المطلب ومحمد حافظ دياب وسواهما في محنتي مع الإخوان المسلمين ، والأزهر .

فأنا مثله قد زاوجتُ بين القديم والحديث ، بين النصِّ العربيِّ والنصِّ الآخر ، وهو ما يبرز امتياز صلاح فضل وأصالته ، وتدفُّق نهر معرفته المتنوِّعة والمتشابكة في ضفيرةٍ يندر أن نجدها بين مُعاصريه .

…………………

2-

ينشغل صلاح فضل بجمالية النص الشعري في تعدُّده واختلافه وتنوُّع أساليبه حتى لدي الشاعر الواحد ، وليس في سيادته وإتاحته وذيوع انتشاره ، ويراه من داخله ، منشغلا بسياقه ، رائيًا سماءه الأوسعَ بأناةٍ وتأمُّلٍ عارفٍ ، لامسًا جوهرَ الأشياء ، وما وراءَها ، أكثر مما ينظرُ إليه بعين منهجٍ نقديٍّ ما ؛ لأنه يعرف أن النصَّ الشعريَّ على مدار تاريخه يُولد حُرًّا ، لا قيد له أو شرط ، ومع ذلك لا يغيب عنه المنهج ، لكنه ماكثٌ في بؤرةِ وعيه ، حين يعمل على النصِّ .

فهو ناقدٌ ومفكِّر لا يحبسُ النصَّ الشعريَّ في دُرْجٍ أو قفصٍ أو سجنِ منهجٍ بعينِه ، بل يجعله حُرًّا كطبيعة الشِّعر ذاته ، مُبتعدًا عن التعسُّف ، وشَدِّ المنهج النقديِّ إليه ؛ كي يُلبِسَه النصَّ ، فارضًا عليه مقاسًا معيَّنًا ، غالبًا لا يكون مُوائمًا أو مُلائمًا له أو مُتوافقًا معه ، أو حتى مُتوازيًا معه .

صلاح فضل يحدسُ بما يمتلك من معرفةٍ وعرفانيةٍ ، قبل أن يُخضِع النصَّ للنظريات والمناهج ، يجتهدُ ويحلل ويأوِّل ، ويستقصي ، ويكشف عوالمه الداخلية ، ويُفكِّك رموزه وأبنيته ، ثم يعيد البناء من جديد ؛ موضحا أنظمته ؛ ليصل إلى جوهر النصِّ ، غير بعيدٍ عن أسراره وبواطنه وغموضه ولغته المركَّبة المانحة ، رائيًا الأصلَ أكثر من كونه فارضًا أو خالقًا نصًّا آخر في ذهنه ، غير موجودٍ في التطبيق النقدي ، بمعنى أنه يعطي للنصِّ الشعري العلامات التي تدلُّ عليه ، عبر القراءة والتأويل ، والاستجابة ل ” خرق الأعراف ” والتقاليد الشعرية السائدة والمُهيمنة ؛ كي يحيي النص لا أن يميته ، ليمنحه عُمرًا آخر في البقاء والتذوُّق والانتقال ، لا أن يزهقَ رُوحه مُعجِّلا بموته ، وموت صاحبه معًا ؛ هادفًا إلى دراسة متن النصِّ وتمييز أسلوبه ، ورُبَّما مُقارنته بين مُجايليه وسابقيه ؛ ليقفَ على سماته وأصالته وخصوصيته .

صلاح فضل ليس مُستبدًّا في التوقُّف عند أسلوبٍ شعريٍّ ما ، أو الانتصار لشكلٍ أو أسلوبٍ على آخر ، بل هو ابن ثقافة التعدُّد والتنوُّع والغنى ، ابن شرعية الأساليب ، وهي الشرعية التي بُني وتأسَّس الشِّعر عليها ، ليس في ثقافتنا العربية فقط ، ولكن في شتَّى الثقافات ، وهو يعرف أن الذهاب نحو أسلوبٍ نقديٍّ بعينه لابد لصاحبه من أن يُنقذَ من ضلاله ، وأنه لا يمكن للرَّاهن أو التاريخ النقديِّ أن يعُدَّه من بين النقاد .

صلاح فضل وهو يشتغل نقديا في نسيج المتن الشعري ، يحب العمل اليدوي المعتمد على الحس والذكاء والتوهج والفطرة والمهارة ، التي هي أيضا ابنة التجربة والمعرفة الخاصة أو المتحصلة ، يشعر فضل بمتعة النسج اليدوي وهو الأكاديمي الصارم ، أكثر من اشتغال الآلة النقدية العمياء ، التي عادة ما تفرم النص ، وتجعله قصيرا من فرط تعرضه إلى ماء مغلي لا يناسب خامته الحريرية أو الكتانية أو القطنية أو الصوفية ، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك نوعا من الشعراء ينسج نصه من كل هذه الخامات الطبيعية معا ، وهذا نوع يستهوي صلاح فضل الذي يفضل التزاوج والامتزاج وحلول عناصر شتى في بعضها ؛ بحيث تشكل تداخلا متماسكا متينا لا بروز فيه ولا عطب .

فصلاح فضل ( الذي لا يعادي شكلا شعريا ) معنيٌّ بمعنى الشِّعر لا بشكله ، بجوهر القول لا بطريقته ، يبحث عن المعنى ويتقصَّاه حتى درجته القصوى ظاهرةً كانت أم مخبوءةً في الإشارات والمجازات والصور والأبنية والتراكيب التي تدلُّ على مهارة الصانع في اشتغاله على نسيج النص ، ويفعل فضل ذلك بعلمية وليس بانطباعية شاعت وصارت غالبة في حقل الدراسات النقدية ، على الرغم من أن ممارسيها نالوا أنصبة أكاديمية ، من المفترض أنها تؤهلهم للمنهجية العلمية .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *