سامر محمد إسماعيل
لم يحتمل قلبه الستيني أخبار المجازر الجماعية الآتية من مسقط رأسه؛ فبعد دخول فرق الموت السوداء إلى «تدمر»؛ مسقط رأس الشاعر الذي ولد فيها العام 1949؛ سكتت حنجرة الشاعر الحمصي؛ وذبلت نبرته العالية مع كل خبرٍ لمذبحة مزجت الدم التدمري بخيام القهوة والهيل ومضارب العرب وضيوفهم.
عاش «الفرا» ملتمساً أصوات أسلافه على حجارة مدينته عبر عشرات النصوص الشعرية التي استقاها من بيئته؛ من صهيل خيول البادية الشامية؛ وغزوات أولاد الخؤولة والعمومة وتاريخاً من نشيد بدوي متصاعد رتلها صاحب «قصة حمدى»؛ مسلماً أنفاسه الأخيرة على قصيدة شعبية؛ كان لها وميض الصاعقة بين جمهور الثمانينيات في سوريا؛ جمهوراً لطالما كان مستبعداً من المنابر الرسمية للشعر والشعراء تحت حجة «تمكين اللغة العربية»؛ والخشية بين غلاة هذا التيّار من طغيان الشعر المحكي على الشعر المكتوب باللغة الفصحى.
أصدر الشاعر الراحل العديد من الكتب والمجموعات الشعرية، سواء بالمحكية البدوية، أو بالفصحى، لكن أشهرها كان «الأرض إلنا» و «حديث الهيل» و «كل ليلة» والتي عبّرت جميعها عن إنسان تجاوز حياة البدو نحو مجتمعٍ حضري؛ نجد فيها قيم أدب الالتزام؛ بعيداً عن مساربها التقليدية للحكاية والمرويات الشفهية؛ بل بنبرة (القصيد) الهادر؛ والإلقاء الرجولي المتين؛ حيث كانت أمسيات الشاعر السوري تلقى عاماً بعد عام حضوراً كثيفاً من عشاق المحكية؛ لينتزع « الفرا» بذلك مكانته بين شعراء جيله؛ مختطاً بذلك دربه عبر تسجيلات بصوته كان الشباب يقتنونها على أشرطة الكاسيت، ويرددونها كأهزوجة لم تقطع مع فلكلورهم وتراثهم الغنائي.
اللافت فيما تركه الشاعر وراءه من إصدارات شعرية، هو قدرة « الفرا» على الكتابة بالعربية الفصحى، بمستوى قارب قصائده بالمحكية؛ حيث أصدر في هذا السياق كتابيه «الغريب» و «رجال الله» واللذين كان لهما أثراً طيباً بين مريدي القصيدة البدوية، لتحضر في قصيدته «عروس الجنوب» التي كتبها عن الشهيدة سناء محيدلي؛ مثلما في قصيدته «رجال الله» عن انتصار المقاومة في جنوب لبنان: «لأن جراحهم نزفت؛ ونخوة عزهم عزفت، نشيد المجد للأوطان؛ لأن الأرض مطلبهم، ونور الحق مركبهم، تجرّد من بقيتهم رجال آمنوا قرؤوا، إذا جاء رجالٌ عاهدوا صدقوا، وقد جاؤوا كما شاء، صفاء النفس وحّدهم؛ وجلَّ حديثهم صبٌ، وبعض الصبِ إيماءَ، إذا هبوا كإعصارٍ؛ فلا يبقي ولا يذرُ». موهبة قرنت المكتوب بالشفهي، مدوزنةً حنجرتها على هودج الرمل العربي الكتيم، دون أن تلفحها رياح سموم، أو خماسيين؛ حيث يحضر ذئبُ «الفرا» منتفضاً على ذئب الفرزدق: «أقْنُص معي… يا ذيب، جُوعك مثل جوعي. يا نفترس هالليل يا يطحنو ضلوعي. لو الصَّبُر يا ذيب… حِيْن الدهر يرْحَم، وعيب الصَّبُر يا ذيب لما العتم يلْتَمْ. تبكي!!…؟ ليش البكا يا ذيب؟؟ خَلّي الدمع غالي. تِفْشَلْ… متى تِصْرَخْ. إِكْتِمْ أنين الحيف، خَزِّنْ ثَلِجْ كانون تِطْفِيْ لهيب الصيف. تمرّد… وانا اتمرَّدْ. مثلك أنا مشرَّد، مصابك مع مصابي، ركابك على ركابي، ونابك جَنِبْ نابي. تُحْفُر… قبور الناس الماتو حزن يا ذيب، عا عنتر وجسّاس ونسيو طيور البر تاكُلْ بيادرهم. أُقنُصْ معي… يا ذيب، عا عنتر وجسّاس ونسيو طيور البَرْ تاكل بيادرهُمْ. اقنص معي… يا ذيب، نرجِّع سنين الخير، حبه ورا حبّه، من حوصلة هالطير. لو.. عوكرت ونخيب، قُصَّه أَبَدْ ما تغيب، يجلجل صداها الكون. رهبة وهوى وترغيب. من مِدًّه مرُّو اثنين؛ مِصَعْلَكْ تَعِيْسْ وذيب. فزّو… قرصهم جوع. صحيت كلام القوم وشمَّت نَفَسْ تهريب. إخْوَه….أنا ويّاك، صوتك مثل صوتي، وباكِرْ ترى يا ذيب موتك مثل موتي. إن كَادَك شهم يا ذيب إصعَدْ على طلوعي، يا نفترس… هالليل، يا يطحنو… ضلوعي».
السفير