الرمثا.. مدينة القوافل ومحطة الحجاج

الرمثا.. مدينة القوافل ومحطة الحجاج

خالد عواد الأحمد

تبدو مدينة الرمثا، الواقعة على الحدود الأردنية السورية، أشبه بواحة غنّاء ينام فيها التاريخ، وتصحو الأسطورة.. تذكرنا بحكاية الرسام الشرقي القديم المتفرد في فنه، الذي رسم لوحة بديعة، ثم ترك في صدر اللوحة باباً أبقاه مفتوحاً، وحين أنهى عمله، وتأمله، راقَ له أن يعبر الباب، ومن ثم أغلقه وراءه وغاب وراء السديم، لتبقى هي أمانة في عهدة المستقبل.

ولأن مفتاح أي لوحة فنية هو اسمها، كان لا بد من البحث عن أصل التسمية، إذ جاء في معجم الوسيط، أن (الرمثا) هو (نبات بري من الحمّض، كثير في بادية الشام).مدينة الرمثا و(الرَمَثة) أيضاً بقية اللبن في الضّرع بعد الحلب. وفي (القاموس المحيط)، أن الرّمث أرض ينبت فيها الرّمث، وهو شوك مرعى للإبل، رمثت الإبل، أي أكلَت الرّمث فاشتكت بطونها، فهو رمث. وعُرفت في العهد اليوناني باسم (أرثما) أو (راماثا)، ومنه عرف اسمها الحالي. وذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان)، أن الرِّمث بكسر أوله وسكون ثانيه وآخره مثلثه، تعني مرعى من مراعى الإبل، وهو من الحمّض، وهو اسم وادٍ بني أسد، وقال دريد بن الصمّة:
ولولا جنون الليل أدرك ركْبنا
بذي الرّمث والأرض عياض بن ناسب

وأشار الأستاذ مصطفى مراد الدباغ، في كتابه (بلادنا فلسطين)، إلى أن الرّمثا كلمة سريانية بمعنى (العلو والارتفاع)، وهي مشتقة من بركة أو صهاريج آبار لجمع ماء الشتاء، وتقع على خط المواصلات بين جنوبي الجزيرة العربية والبحر الأحمر، ومدن الشام منذ أقدم العصور، وهي أيضاً محطة من محطات الحج المعروفة منذ القدم.أحمد باشا الجزار
تحيط بالرمثا الكثير من الكهوف والمغاور والآثار القديمة، التي تشير إلى أن تاريخها يعود لعصور مختلفة، رومانية ويونانية وبيزنطية، وتفيد المعلومات التاريخية، بأن حوران والرمثا كانتا جزءاً من الدولة الآشورية، سنة (2350) قبل الميلاد، أقامت فيها تحصينات قوية، وتحولت فيما بعد إلى كنعانية، في جميع المدن والقرى والمزارع، ثم أدت الخلافات بين الحكام إلى إنشاء دويلات صغيرة وضعيفة، جاء إليها الآراميون من الممالك العربية المجاورة، في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ودخلها الآشوريون من جديد سنة (732) قبل الميلاد، والكلدانيون من القرن الثامن إلى القرن السادس قبل الميلاد، والفرس من القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد، ودخلت في العصر الهلنستي.

وشهدت الرمثا تداخلاً للحضارة اليونانية الغربية على الحضارة الشرقية، فعاد الازدهار إلى المنطقة، حيث اشتهرت تجارتها بتصدير الحبوب والبقول والزيتون، ودخلت المدينة ضمن الولاية العربية التي تضم الجولان ودرعا.

غير أن أهمية الرمثا برزت في العصور الإسلامية، باعتبارها أهم محطة من محطات الحجاج، وازدهرت في العصر المملوكي، فظهر فيها علماء وفقهاء تتلمذوا على يد علماء (عجلون) و(إربد) والشام. وفي نهاية العصر المملوكي، تعرضت المدينة إلى فترات من الجدب والجفاف والمجاعة والوباء، خلال القرن التاسع الهجري، كما تعرضت مثل غيرها من قرى حوران، إلى الزلازل، ولهزات أرضية عدة، ما زاد من أسباب الخراب فيها، فكانت الكوارث وسوء إدارة الممالك، في الفترة الأخيرة من حكمهم، سبباً في نزوح الكثير من السكان، ما أدى إلى هبوط عدد السكان إلى نحو الثلث، فأصبح عدد سكان الرمثا سنة (1596م) (80) شخصاً فقط.. ومع بداية القرن السادس عشر، وخلال العصر العثماني (1516- 1918م)، أخذ نجم الرمثا يخبو، وبخاصةمصطفى مراد الدباغ بعد تعرض المنطقة لوباء الطاعون والقحط والجفاف، وغزو الجراد المتكرر، فعاشت الرمثا على هامش الأحداث خلال القرنين السابع عشر، والنصف الأول من القرن الثامن عشر، إلا من عشائر (العنيزة، وشمر، والشرارات)، التي كانت تحط رحالها في كل ربيع، لتعود في نهاية الصيف إلى دفء الصحراء.

 (محمد مجلي الخزعلي)، مواليد (1937م)، الذي يعتبر ذاكرة المدينة، يقول: (إن أهمية الرمثا في العصر الحديث، برزت في أواخر القرن التاسع عشر، بسبب قربها من خط الحجاز، ولأهميتها في تأمين الاتصال التجاري، ونقل الحجاج بين الشام والحجاز). وأضاف الخزعلي؛ (إن الأتراك أصدروا في عام (1191م)، مرسوماً عثمانياً يمنح أهالي الرمثا الحماية والرعاية والأمن، ويعفيهم من الضرائب المختلفة والجندية، لإسهاماتهم في حماية قوافل الحجاج القادمة من أوروبا باتجاه الديار المقدسة). وأضاف الخزعلي، الذي شهد جوانب مهمة من تاريخ المدينة: (في عهد الوالي أحمد باشا الجزار، شهدت الرمثا تطوراً ملحوظاً في النشاط العمراني والزراعي، نظراً للعلاقة الجيدة مع عشيرة الزعبية وشيوخها، وفي منتصف القرن الثامن عشر، أخذ يتوافد على الرمثا عدد من العائلات من قرى حوران، مثل عائلة الشرع، ومن الكفارات إحدى فروع عشيرة العقيدات، ومن لبنان بنت جبيل عائلة بيضون وعائلة السعد وديباجة.. وغيرها من عشائر بلاد الشام).

وتابع الخزعلي: (إن عشائر الرمثا اشتركت في معارك الثورة العربية الكبرى، وبعد ذلك كانت الرمثا عاصمة للرفض العربي ضد السياسات الاستعمارية، كما شارك أهلها بالثورة السورية الكبرى، وبالثورة الحورانية، وكانت السباقة في دعم الأمير عبدالله عند قدومه لتأسيس إمارة شرق الأردن). وبعد انتهاء الحكم التركي، فُصلت الرمثا عن أراضي وامتداد الجمهورية العربية السورية، بعد أن كانت تتبع لمركز درعا من (أراضي حوران)، وتم ضمها إلى المملكة الأردنية الهاشمية.

ويصف محدثنا المجتمع الرمثاوي بأنه: (مجتمع متكافل، تقف عشائره جنباً إلى جنب في السراء والضراء، يتساندون في أيام الخير والسعد، ويسارعون إلى مساعدة بعضهم بعضاً في أيام الحصاد، وأيام جني الثمار والقطف، ومناسبات الأفراح والأحزان، يصطبغون بصبغة الأسرة الواحدة، التي تربطها روابط الدم واللحمة والقربى، والتسامح لديهم مبدأ أساسي، وإكرام الضيف واجب مقدم على كل الواجبات). ولذلك، كما يقول الخزعلي: (لم ينشأ في الرمثا لغاية الآن أي فندق للضيافة، فكل بيوتها بمثابة مضافات تستقبل الضيف مهما طالت مدة إقامته). وكلام الخزعلي يدعمه الواقع، إذ تخلو المدينة فعلاً من الفنادق التي تُخصص عادة لاستقبال الزوار. الرحالة السويسري بيركهارت

بعد أن ودعنا الحاج (محمد مجلي الخزعلي)، توجهنا إلى وسط المدينة، عبر أزقة ملتوية أشبه بأزقة الحواري الشامية، تعكس حالة الألفة والوئام، التي يتسم بها مجتمع الرمثا المضياف، ولدى الوصول إلى ما يُعرف بشارع المصارف، حيث تنتشر العديد من فروع البنوك الأردنية والعربية، قابلتني واجهة حجرية عبارة عن قوسين من المداميك الحجرية البيضاء، ولدى اقترابي منها، قرأت على ساكفها الأعلى عبارة منقوشة باللون الأسود (مقام الشيخ أرشيد الزعبي)، وحينما حاولت الدخول إلى المقام، قيل لي إن المقام مغلق للترميم، وشرح لي أحد أصحاب المحلات التي تجاور المكان، إن المقام بُني من قبل والي عكا الحاكم التركي (أحمد باشا الجزار) عام  (1799م)، اعترافاً بفضل وورع الشيخ أرشيد.

بعد اجتيازي شارع المصارف، دلفت إلى شارع مكتظ بالأسواق التجارية، والمباني التراثية، لاحتْ لي مئذنة عالية، تعلو مسجداً ينتصب فوق تلة عالية عما جاورها. ولدى دخولي من بوابة الجامع الخشبية الواسعة، دلفت إلى مصلى خارجي صغير نسبياً، يتميز بقناطره الحجرية الضخمة، وإلى اليمين بوابتان على شكل القوس القوطي المنكسر، قائمتان على أعمدة رخامية مجدولة، تستند بدورها على ركائز حجرية مزخرفة، وتفضي البوابتان المذكورتان، إلى حرم المسجد المتسم بالاتساع والبساطة، والتقشف في الزخارف، كما هو شأن الكثير من مساجد المدن الرئيسية في الأردن، وتشير لوحة فوق محرابه التقليدي الطابع، إلى أنه تم تشييده بشكله الحالي بعد بناء المبنى الأصلي للمسجد، أي في عام (1956م)، وتعلو المسجد قبة مستديرة، وهي ذات شابيك ملونة تسمح بدخول ضوء الشمس إلى المسجد. وفي الجهة الغربية من المسجد، تقع المئذنة التي ترتفع أكثر من  (70) متراً، ويتم الصعود إليها بواسطة درج مستدير، وكان أهالي الرمثا، كما أكد لنا بعض المصلين من كبار السن، يحملون أطفالهم عند عملية ختانهم، ويصعدون بهم إلى أعلى المئذنة تبركاً بالمسجد، الذي كان ولايزال يستقطب الرمثاويين، لإقامة المناسبات والأعياد والاحتفالات فيه. أما في الخارج؛ فتضج المدينة بالنشاطات التجارية، التي تعتبر صورة محدّثة عما كانت عليه المدينة قبل مئات السنين.

اكتسبت الرمثا أهمية خاصة في تأمين الاتصال التجاري، وتنقّل الحجاج بين الشام والحجاز، وانتشرت داخلها وخارجها الكثير من الأسواق التجارية الكبيرة، التي كان يرتادها تجّار العرب بعد أسواق الحجاز. وفي كتاب (تحفة الأدباء وسلوة الغرباء)، وصف صاحبه (الرمثا) بأنها: (قرية عامرة يبرز أهلها للقاء الحجاج، والبيع عليهم بالدجاج والبيض المطبوخين، والعيش الأبيض النقي، ويباع ذلك رخيصاً). وقال الرحالة السويسري (بيركهارت) عندما مرّ بها في ربيع سنة )1812م(: (الرمثا إحدى محطات الحج، التي تقع قرب بركتين مكونتين من ثلاثة جدران مرتفعة في سطح الوادي).غلاف كتاب «بلادنا فلسطين»

ومن الأماكن التي ارتبطت بمواسم الحج إلى الديار المقدسة، (مدينة الحجاج)، وهي مجموعة من المباني، جُهزت في العهد العثماني لاستقبال قوافل الحجاج القادمة من أوروبا وتركيا، وتمتاز بوجود مسجد مقام من الحجر النظيف، وهي ذات واجهات معمارية إسلامية جميلة، وتبلغ مساحة الأرض التي تقوم عليها المدينة (55) دونماً.

وفي بلدة (الطرة)، بنى المماليك برجاً ليكون محطة إنذار ومراقبة، ونقل البريد الخاص بالحجاج بين دمشق والحجاز، في عهد الظاهر بيبرس، ووضع في ذلك البرج عدد من النظّارة، صُرفت لهم رواتب دائمة. كما بنى المماليك في الرمثا مجموعة من المنشآت، التي تخدم قافلة الحج الشامي، مثل: (البركة الحمراء)، وهي بركة صناعية تقع جنوبي مدينة الرمثا، كانت مياه الأمطار القادمة من (الرّميث)، و(خربة عوش)، و(خربة اليهودية)، تتجمع فيها، وكان الحجاج بعد انطلاقهم من (المزيريب)، من قرى حوران، متجهين إلى مدينة الزرقاء الأردنية، يقيمون يوماً حول هذه البركة كي يستريحوا ويتزودوا بما يحتاجون إليه، ثم يواصلون رحيلهم بعد ذلك.

  • عن مجلة الشارقة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *