من مدينة أورفا التُركيّة إلى أربيل الكُردستانيّة


جوان سوز

ودّعتُ أمي وأخوتي في منزلهم المؤقت بتركيا، ووضعتُ على كتفي حقيبة صغيرة، تحوي بعض الكتب التي تحمل رائحة الأصدقاء وذكرياتهم القديمة، وجواز سفري السوري، الذي حصلت عليه بتكلفة جوازٍ أوروبي قبل سنوات، مقرّراً الذهاب إلى كُردستان العراق بعدما حصلت على تأشيرة الدخول من فضائيّة كُرديّة، تبث من العاصمة أربيل/هَولير.

خرجت من البيت في الساعة السابعة قبيل الغروب بدقائق، ووصلت إلى محطة الانطلاق الدولية بعد دقائقٍ قليلة أيضاً، ثم اتصلتُ بصديقٍ صحافي اعتاد السفر إلى كُردستان العراق، وسألته عن شركة نقل ركّاب، تكون خدماتها جيدة للمسافرين، بخاصة وإن مشواري سيكون طويلاً، ولاسيما إنني أسافر من مدينة أورفا التركية جنوب البلاد إلى كُردستان العراق، وبالفعل دلّني صديقي هذا على شركة جيدة، إلا أنه لم يكن هناك موطئ قدمٍ لي في حافلتهم التي اكتمل فيها عدد مسافري تلك الليلة.
ونتيجة ذلك، قررت السفر إلى بلدةٍ تركية حدودية مع كُردستان العراق، لأكمل مشواري من هناك إلى العاصمة هَولير. انتظرت ساعاتٍ طويلة في محطة الانطلاق، وأنا أفكر متى وكيف سأصل إلى كُردستان؟ كُردستان التي كنا نعتصم في مآسيها، كُردستان التي لطالما تعرضت للمجازر والإبادة الجماعية، كُردستان التي لم تبق «حلبجتها« يوم قصفها النظام العراقي الأسبق بالسلاح الكيماوي، إنها كُردستان الأبطال والأنفال معاً، تلك العمليات التي قُتِلَ فيها نحو أكثر من 181 ألف كُردي عراقي، فكرت كثيراً، بعض الأسئلة لم أجد لها أجوبة، فكّرت كثيراً بالجبال الشامخة التي ستكون على طريقي، وبالدماء التي سالت هناك، نعم. نعم فكّرت كثيراً بكل هذه الأشياء، حتى صعدت إلى الحافلة في الحادية والنصف مساءً، وكان الطريق طويلاً، وصلت إلى تلك البلدة التركية المتاخمة لكُردستان العراق في الخامسة فجراً، ولم تكن الشمس قد أشرقت بعد. كانت هناك سيارات كثيرة، تتكاثف على روابي ذلك الطريق بين عائدةٍ من كُردستان وأخرى ذاهبة إليها، كُردستان المنفصلة إلى جسدين، كُردستان تركيا وكُردستان العراق، كُردستان الدولة الواحدة التي يفصلها حدودٍ كثيرة، سياسية وجغرافية.
إنها المرة الأولى التي سيتحقق فيها حلمي، لأرى كُردستان قبل الممات، رغم إن ذاك الجزء الكُردستاني الشبه مستقل الذي قررت السفر إليه في شمال العراق، قد لا يعني لي كثيراً بقدر ما تعني لي مدينة قامشلو أو كوباني، إلا إن ذلك يبقى تاريخاً لي، وأفرح بحريّته كما أفرح لنفسي. كنت سعيداً عندما صعدت إلى حافلة أخرى لتقلّني إلى المعبر الحدودي الذي يفصل بين كُردستان العراق وتركيا، كان جواز سفري بيدي وكذلك تأشيرة إلكترونية قمت بطباعتها على ورقةٍ صغيرة وبيضاء، كانت عقارب الساعة تشير نحو السادسة صباحاً حين دخلت إلى المعبر التركي لأعلن خروجي من تلك الدولة، وأقول وداعاً «تركيا» التي لم أشعر فيها بكُرديتي ولا بكُردستانيتي!
كنت سعيداً أكثر، وأنا أرى أول عبارةٍ كُرديّة علنية في معبر «إبراهيم الخليل» الذي يربط كُردستان العراق بتركيا، كانت تلك العبارة «أهلاً بكم في كُردستان». نعم أهلاً بك بعد غيابٍ طويل يا جوان، كنت أردد تلك العبارة، بينما كانت تسابقني قدماي إلى مبنى الجوازات الكُردستاني. غرفة انتظارٍ كبيرة، وأعلامٌ كُردستانيّة، وصورٌ لقادتها الذين ضحّوا من أجلها، كنت أطير فرحاً، بينما كان يتحدّث أحد موظفي المعبر إليّ باللغة الكُرديّة، لم يحصل ذلك في حياتي قط، أول موظف يتحدث بالكُرديّة وبشكلٍ علني دون خوف، على العكس من منع تداول اللغة الكُرديّة في سوريا إلى الآن!؟
اندهشت من ذلك، وكادت الدموع تسقط من عيني، إنها كُردستان، التي نحلم بها، بعلمٍ كُردستاني، ولغة كُرديّة، وحدودٌ تفصلها عن دولٍ أخرى، إنها المرة الأولى التي يحمل فيها جواز سفري السوري الذي لا يعترف بكُرديتي، شيءٌ كُردي، إنه الختم الكُردستاني، الذي يدل على وصولي إلى كُردستان، حلمي القديم ـ الجديد، بعد ساعاتٍ طويلة من مدينة أورفا التركية، لأجد نفسي في مدينة أربيل الكُردستانيّة.

المستقبل

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *